لقد كان لزامًا عليك أن تعبر تلك المدينة التي هي وطنك والتي أنت فيها غريب ، كان لزامًا أن تمرّ بكل تلك التجارب الصعبة و أن تقاسي منها. إنه لدرب من الجنون أن تدرك مؤخرا أن حياتك التي حلمت دوما بها هي نوع من المستحيل ، المدينة الفاضلة التي تخيّلها أفلاطون لا و لن يكون لها وجود في هذا العالم ، يا للأمر المؤسف حقّا !
كل ما في الأمر أنك بحاجة لأن تخطو خطوة للوراء و تشاهد حياتك كمشهد من وراء ستار المسرح ، ولكن يا تُرى ما الذي يمكنك إيجاده ؟
هذا هو السؤال ما هي حياتك و ما الهدف منها. لم يخلقنا الله عبثا –حاشا أن يكون كذلك- إذن ما هو دورك في الحياة ، ماذا صنعت حتى الآن ؟
دعني أروي لك قليلًا عن تلك المدينة المنسيّة فلربما ساعدتك في تفسير مغزى السؤال :
إنها مدينة ليس لها وجود ، و لكن تحكمت في ظلّ وجود البشر ، إن يبيت فيها إمرؤ يُصبح على غير طبيعته و كأن مسٌّ من الجنّ أصابه ، فكان المرء إذا حلم وجد حلمه يتبخر و يصبح سحابًا في الفضاء ، وما بعد ذلك تبهت روحه كأنّ وحشا يتغذى على نبضها وحيويتها ، يصارع التخبط بين مختلف الطرائق و الطرق ، ماذا يفعل و ماذا يكون ، بين قواعد موضوعة مسبقًا و مسلّمات لا تتغير لعقود و عقود من الزمان هو محاصر و مُقيَّد ؛ فلا بإمكانه فعل ما يراه شغفًا له و لا بوسعه تغيير الواقع و لا حتى الفرار منه ، تلك المدينة تضيق الخناق عليه و تشدّ ذلك الحبل حول عنقه شديدًا شديدًا كلّما مرت الأيام عليه ، فيقبع مُطرِقًا مبهوتًا مُسجًّا تمضي عليه السنين ، يصيبه الذبول والقتامة غريبًا بين ناسها ؛ فالظلام هو له ملجأ و نحيب طائر الليل الحزين أنيسه ، تلك المدينة تقتل الإنسان..تعتصره...إن إستسلم لها تتخذه عبدًا ؛ يسعى و يقاتل حتى يحافظ على كلّ نَفَسٍ يملكه ، يفتقد كل معنًا للإنسانية ويصبح شبحًا مبهوتًا لا يدري ما هويته إلّا أنّ هناك أطراف حبل تحركه كالدمية ، يمضي مُطأطئ الرأس خانع إلى كل ما تسوقه إليه تلك المدينة ؛ فهو آليُّ مُبرمج ينفذ تلك الشيفرة المُأمور بها.
على صعيدٍ آخر ربما هناك من يقاوم غوايات المدينة حتى تسلبه حريته مقابل أن يظلّ حيًّا مثله مثل الآخرين -الخانعين لها- ؛ فلا هو بقادر أن يفك طوقها و لا بمحسنٌ للفرار ، يظلّ عالقًا بين الثورة و الخضوع ، بين هيمنة قرار نفسه و الإذعان لقواعد تلك المدينة ، فيضلّ الطريق و يخسر نفسه و حياته ؛ فلا هو قد نال ما ترجوه ذاته و لا هو قد أبقى على فتات حياته.
هؤلاء من يعيشون في المدينة تضيف عليهم صبغتها وتنهل منهم روحهم ، من ينجو منها هو من يمتلك من أسباب الفرار ما يعينه على فعله ، فيفر بروحه إلى ما أبعد عن حدود المدينة.
في النهاية ، هل يمكنك أخيرًا الجواب على ما طُرح من أسئلة مُسبقًا ، فلنصيغها بشكل آخر: مَن أنت من أهل تلك المدينة إن كنت واحدًا منهم ، و ما الذي حاولت فعله فيها إلى اللّحظة الآنية ؟
-
ميار أحمدطالبة بكلية الصيدلة جامعة القاهرة ، شغفها حلما أن تكون كاتبة وتسعى لتصيح بقلمها ، شغوفة بالعلم والأدب و الفنون ، وتحلم بأن يكون لها يومًا ما صوتًا مسموعًا يصل إلى قلوب الناس و تكون ذي فائدة في هذا العالم.