سؤالٌ أسأله لنفسي من آنٍ لآخرٍ .. إجابته حقيقةٌ لا مفر منها، تتأكد لي عندما يناديني "شَحْطٌ" في الثانوية العامة يفوقني طولاً بلقب "عَمُّو"، أو عندما يسبق أحد زملائي في العمل حديثي التخرج كلامه لي بكلمة "حضرتك"، أو عندما ألعب كرة القدم بعد فترة انقطاعٍ لأجد أنني لا أستطيع الركض بعد مرور خمس دقائق فأطلب أن أقف حارسًا للمرمى حتى نهاية المباراة، أو عندما يأتيني اتصالٌ هاتفيٌّ من مدرسة ابنتي يخبرني بموعد اجتماع مجلس الآباء القادم.
ليست مشكلتي في حقيقة "التقدم في العمر"، فهذه سُنَّةٌ من سُنَنِ الله في جميع خَلْقِه ولا أحد يمكنه الهروب منها .. لكن مشكلتي أنني – رغم بلوغي الخامسة والثلاثين – لا زلت أتعامل مع الناس من حولي كما لو كنتُ لم أتخطَّ العشرين من عمري بعد .. فعندما أشاهد مباريات كرة القدم، دائمًا ما أنظر إلى اللاعبين باعتبارهم أكبر منِّي سنًّا، على الرغم من أنهم جميعًا يصغرونني في السن إلا لاعبًا أو اثنان لا زالا يقاومان قانون الطبيعة .. لا أشعر على الإطلاق بأنني أكبر منهم حتى في وجود بعض اللاعبين الذين لم يتخطَّ عمرهم نصف سنوات عمري! .. حتى نجوم الفن والسينما أيضًا – كبيرهم وصغيرهم - دائمًا ما أنظر إليهم باعتبارهم أكبر منِّي .. ليس تصابيًا يا هذا لو كان الأمر قد وصل إليك بهذه الصورة، فأنا أتصرف بعفويةٍ مُطْلَقَةٍ دون تعمدٍ .. لا زلت أحب الخروج مع أصحابي كل أسبوعٍ .. أظل أتصل بهم وأُلِحُّ عليهم طلبًا للخروج، فيهربون مني متحججين بأعذارٍ لا تنتهي، بدايةً من دروس الأولاد ودرس السباحة، مرورًا بطلبات البيت التي لا بد أن تُشْتَرى بعد انتهاء العمل وإلا كان يومًا أغبرًا لم تطلع له شمسٌ، وانتهاءً بالطبيب الذي تتابع عنده "المدام" حملها الثالث .. وينتهي الأمر في أغلب الأحيان بخروجي وحيدًا بعدما يعتذر الجميع.
أذهب إلى كليتي التي تخرَّجتُ منها من حينٍ لآخرٍ كي أستعيد ذكريات الدراسة الجميلة .. أدخل إلى صالة الرسم التي قضيتُ بها أربع سنواتٍ من أجمل سنوات عمري .. أنظرُ في وجوه الطلاب الجُدُدٍ – والذين يزيد الفارق بيني وبين أكثرهم عن عشرين عامًا – فلا أشعر بهذا الفارق على الإطلاق .. حتى أصدقاء الدراسة الذين أقابلهم بين الوقت والآخر، أشعر عندما أقابلهم بأننا قد أنهينا الدراسة منذ أشهرٍ قليلةٍ وليس منذ أربع عشرة سنةً بالتمام والكمال !.
*************
على الرغم من ارتقائي في مجال عملي كمهندسٍ معماريّ، إلا أن ذلك لم يصنع عائقًا كي أتعامل مع زملائي الذين يصغرونني بأكثر من عشر سنواتٍ كما لو كانوا في مثل سنِّي .. أخرج معهم بعد يوم عملٍ شاقٍ لكي نتناول طعام الغداء سويًّا .. نذهب لمشاهدة عرضٍ مسرحي أو فرقةٍ غنائية أو فيلم سنيمائي .. نضحك كثيرًا فننسى تعب اليوم وضغط العمل .. لا أضع الحواجز التي يصنعها الكبار بينهم وبين من يصغرونهم .. لا أتصنع التعامل بشخصيةٍ مغايرةٍ لشخصيتي كما يفعل الكثيرون ممن يرتقون في المناصب فيقيمون مسافاتٍ وأفدنةٍ بينهم وبين مرءوسيهم لا يجوز تخطِّيها أو إلغاؤها .. أتعامل دائمًا على سجيَّتي مع الجميع ولا أكلف نفسي جهد رسم تكشيرةٍ مصطنعةٍ أو جديةٍ زائفةٍ .. لا أكبت داخلي كلمةً أو أحبس مزحةً تريد أن تنطلق بحجَّة أنني "كبيرٌ" وبالتالي يجب أن أكون رزينًا جادًا أتعامل مع من حولي في حدودٍ مرسومةٍ بدقةٍ لا حيد عنها !.
لماذا أصلاً يجب أن أحسب حسابًا للبسمة قبل أن تتكوَّن على وجهي ؟! لماذا يجب أن أفكر ألف مرةٍ قبل أن أضحك أو أمزح أو حتى قبل أن أبكي ؟! لماذا يجب أن أصطنع مشاعري وسلوكي تبعًا لاختلاف المواقف والأشخاص لمجرد أن من أتعامل معه يصغرني في العمر أو حتى يقل عني في مستوى التعليم أو نوع الوظيفة ؟!
*************
في بلادنا .. عندما يبدأ الطفل في استيعاب الأشياء من حوله، تجده مع أقرانه يُقلِّد "الكبار" في طريقة إصدارهم الأوامر لمن هم أصغر منهم .. فتراه في المدرسة يحاول تكوين "شِلَّةٍ" – "عصابةٍ صغيرةٍ" بمعنىً أدق - يكون هو زعيمها الآمر الناهي .. وتراه مع إخوته الصغار في البيت – في حالة عدم وجود الأب - يقوم معهم بدور الأب البديل، فيبدأ في "الشخط والنطر" وقد يصل الأمر إلى أن يضربهم، كي يُثْبتَ لهم أنه "الكبير" !.
اعطِ هذا الطفل سُلْطَةً – ولو صغيرةً - عندما يكبر، ستجده يستغل هذه السُّلْطَة في التسلط والتجبر على خَلْقِ الله وكأنه رئيس جمهورية .. زيارةٌ سريعةٌ لأي مصلحةٍ حكوميةٍ كي ترى هذه النماذج المريضة بعينيك !.
عملتُ لفترةٍ في أحد المشاريع التابعة للسفارة الفرنسية بالقاهرة، وكان ممثل المالك الفرنسي الذي يتابع الأعمال مهندسًا يُدْعَى "جاك" في الخمسين من عمره .. عندما تعاملت معه للمرة الأولى ناديته مُقْرِنًا اسمه بلقب "مهندس"، لأجده يرد عليَّ بدهشةٍ بالغةٍ: "لماذا تقول لي: "مهندس جاك" ؟!.. لا داعي للألقاب .. اسمي هو "جاك" وفقط .. نادني باسمي مُجَرَّدًا كما أناديك باسمك دون ألقابٍ" .. وعندما برَّرتُ له الأمر بأنني أفعل ذلك من باب الاحترام باعتباره أكبر منِّي سنًّا ومكانةً كما تعوَّدنا أن نفعل في بلادنا، قال لي بأن منح اللقب لن يزيد من قَدْرِ واحترام الشخص ورفع اللقب لن يُقَلِّل منه شيئًا.
أدركتُ وقتها لماذا هم يتقدَّمون دائمًا ولماذا نحن نتراجع للوراء بإصرارٍ.
*************
عندما قامت ثورة الضباط الأحرار في يوليو 1952، كان أحد قراراتها الأولى هو إلغاء الألقاب التي كان يمنحها الملك في عهد الملكية للأشخاص ، مثل: "بِك" و "باشا" .. لتمر الأيام وتعود نفس الألقاب مرةً أخرى تقترن بأسماء مَنْ ألغوها !.
حتى في تعاملات الناس بين بعضهم البعض، تجد المهندس في موقعه يتعامل من أنفه مع العمال والصنايعية، ويأبى إلا أن يسبق اسمه لقب "باشمهندس" .. وتجد الطبيب يتعالى على المُمَرضين والمرضى ويأبى إلا أن يسبق اسمه لقب "دكتور" حتى لو كان لا يزال طالبًا في كلية الطب .. وتجد الميكانيكي يهين مساعده بالسباب وبالضرب، ويأبى إلا أن يسبق اسمه لقب "أسطى" .. حتى "الكمسري" تجده يتعامل بقرفٍ مع الركاب ويتسلط عليهم لمجرد أنه من يقطع التذاكر لهم !.
بكل أسفٍ أصبحتْ شعوبنا العربية شعوبًا طبقيةً عنصريةً، يتعالى فيها الكبير على الصغير، ويحتقر فيها ذو المنصب مَنْ هو أقل منه في المرتبة الوظيفية، ويتسلط فيها كل صاحب سُلْطةٍ – حتى لو كان موظفًا في السجل المدني – على من يلجأ إليه طلبًا للخدمة.
يقولون أننا "بلد بتاعت شهادات" .. لكن الحقيقة أننا "بلد بتاعت تحكمات" .. "بلد بتاعت طبقات" .. "بلد بتاعت مظاهر وشكليات" .. بلدٌ "مُبَالَغٌ" فيها في كل شيءٍ !.
*************
صارحتُ صديقي ونحن جلوسٌ على المقهى بتلك الهواجس سائلاً إياه: "هل توقف الزمن بي عند سن العشرين ؟! .. هل أنا مُصابٌ بمرضٍ ما أم ماذا ؟!".
نظر لي صديقي مبتسمًا وأجابني ساخرًا: "مرضٌ ؟! .. لا تقلق يا صديقي .. فنحن المرضى لا أنت".
وسكت قليلاً ثم استطرد قائلاً: "أنت تملك مزيةً أفتقدُها ويفتقدها الكثيرون .. فشعورك الدائم بأنك لا زلت صغيرًا وأن عمرك قد توقف عند العشرين لهو أمرٌ يجب أن نحسدك عليه .. وهو إن دلَّ على شيءٍ فإنما يدل على شباب روحك وعدم تأثرها بمشاكل الحياة وضغوطها .. أنصحك ألا تخبر أحدًا بما تمتلكه .. يا صديقي لئن تملك روحًا شابةً وأنت شيخٌ كبيرٌ لهو خيرٌ من أن تكون شابًا يملك روحًا شاخت قبل أوانها".
التعليقات
وختاما لك مني سلام والحمد لله الذي رزقني صديقا مثلك
مقالك اعجبني حقا.. تحياتي