1) على كثب رملٍ، في العراء، يجلسُ أحدُهم وحيداً على بعدٍ اشتياقَ اجتماعِه بأولي القربة، يناجي في نفسِه ذكراهم، ويحادث نفسَه تحت لفعة الشمسِ الحارة أحاديث كان يتبادلهم في مساءٍ ذي نسيمٍ لاسع .. ذاكم الملتاعُ بأهلِه، المشتاقُ لأمِه!
2) وآخرٌ يفترشُ أرضاً قحلت ومحلت، صلباء كأنها جلمودٌ منبسط، يفرشُ عليها جسده، ويطيِّرُ في الهواء روحه، علَّه يجدُ نجاءً لحياتِه التي يُشمُّ لشقائِها رائحة مع كل زفرةٍ ثقيلةٍ مملوءة الهواء، ويقطعها بـ "آهٍ" كأنه يشكو من دون شكوى .. ذلك الذي قست عليه أقداره!
3) وثالثٌ كأنه ابنُ سيدٍ، يتيمٌ، دارت عليه الدوائر، والتفت عليه الأحزان، كان زماناً ذا مُلكٍ ثم إذ به يصبح مملوكاً. تجده يسيرُ في الطرقات منبوذاً أو نابذٌ هو نفسه، يتخبط في جانب الطريق، ويضعُ عينه في غير مواضع عيونِ الناس يتحاشى منهم النظرة كما يتحاشى أحدنا الموتَ .. فذلك الذي أذهلتُه الفجأة؛ لم يتكيف على وضعٍ جديد.
4) ورابعُهم تناسى نفسَه، وأنساها إيناسَه، فأغمسها في شيءٍ يُنسيها به ذاتها، وحتى يُنسيها أنه ناسيها، ينطوي على كتابٍ يهمِكُ فيه نفسه بلا مأربٍ، أو ينكفأُ على ورقةٍ بقلمٍ له سنٌّ يخدشُ فيها به شيئاً لا يريده، أو ينحتُ صخرةً قلفاء عشواء على غير نظام، أو حتى يجمعُ الحجارة جمع المقتني لوحاتٍ تجريدية لها تفسير في عقل كل متلقٍ لا يوافقه فيه ثانٍ .. وهذا الذي أرهقه أنه لا ينسى، ويبالي ألا يبالي!
تلكم عذابات المغتربين تتلظي في القلوب .. فبُعداً بُعداً يا غربة .. وقُرباً قُرباً يا وطن، يا قلب أمي، يا كتف أبي، يا أهلي وأقراني .. عظُمت لكم في أنفسنا معابد، نلزمُ عتباتها ونطوف عمدانَها، فلا تفارقنا لكم ذكرى إلا لذكرى معكم، فأنتم في القلب والبال دائماً.
-
Taric Ov (طارق عوف)مدون حر، محب للفلسفة والفنون واللغات