عاهدت أمي أن لا أكتب حرفا أو أقرأ كتابا أو أفتح جريدة، حتى أنهي الآدوية التي حملني بها الطبيب مشكورا، ذات ليلة باردة أو دافئة...
من يدري؟
فأنا لا أتذكر وجه الحمى التي حوطتني من كل الجوانب، وألقت بي على سرير الآلام خارج نطاق الخدمة والتحكم بالذات. والسبب أن المرض كالعشق فتاك، والعشق مثل البحر الهائج سيمته الحراك والعراك.
جعلت مني الأدوية المختلفة الأشكال والأحجام كائنا رخوا، سهل المنال، هش المرام، لا قدرة لي على التمرد، أو الكلام، أو حتى الدفاع عن نفسي في عراكي مع التعب والحمى.
لا أتذكر من لحظاتي الأخيرة، تفاصيلك الكثيرة، إلا وجهك الذي لم يفارقني، ومازلت أتساءل عن سر تلك الإبتسامة، وعيونك التي تشبه عيون الظباء البريئة.
وأتذكر أيضا، وجه المستشفى وكأني أراه لأول مرة، فقد عرفت أننا عندما نمرض، نتغير كثيرا، نتعلم بسرعة، ويتحول العالم الكبير إلى دمية.
المستشفى الذي وضعوا في مقدمة حلقه رجلا متناسق الهندام، ناعم الكلام، ثقيل الخطى، حكيم اللسان، ذكرني بجنود نابليون وهم يتعرقون للمرة الأولى، عرقا باردا بعد أن جرتهم الحرب إلى مستنقع من الثلج والجليد، كانت ترعى فيه فتيات القوقاز جيادا ومواشي أنيقة.
الحمى كانت تجعلنى أهلوس، وأروي الحكايات كصناع الفرجة، جمهوري بعض الممرضات، ورفاقي المرضى والزوار، وصديقي حارس المستشفى كان حكيما وصادقا حينما أسر لي، من الأفضل لك أن تبقى مريضا، فأنت ثرثار حد الإسهال، وأنا مثلك أحب أن أحلب الكلمات من جِيد اللغة.
قال لي فى إحدى المرات، أنا حاصل على الإجازة فى الثراث، وأعشق الكتب و الروايات، نظرت إليه بإستغرب وحيرة، ففهم من خلال نظرتي إليه أنني سأسئله مثلكم عن سره وراء هذه الحكاية.
بدأ يضحك بسخرية، وواصل كلامه بثقة عالية، دون أن يكترث لنظرتي الفضولية، أضحك على هذا الوطن، لا ينبغي أن أكون هنا، ولا أنت يجب أن تكون هنا...
وطننا سخي جدا مع الغرباء، تخلى عن تراثه من أجل أن يمنحوه فتاث الحلوى، وها هو يلهث وراء خراء الدول المتقدمة ليزيد وضعنا تأزما، في إطار الوضع المتقزم -أقصد المتقدم-، حرصا على أمنهم لا في سبيل تقدمنا.
هل تعلم أن هذه الأرض، ورفس بحذائه أرضية الغرفة، كان يعيش فوقها أسياد العالم، كانوا أفضل الناس بالعلم لا باللحية والسُبحة...
اه أين أنت
يا زهرة الآس الجميلة
يا قيروان الآمجاد
يا قاهرة العظام
يا بغداد الجمال
وهل سأجدك يا بيت الحكمة
في زمن الجهل والحقارة
أنا أحترق أكثر منك،
أنا أعرف أكثر منك
وهذه هي المصيبة ...
تنبه إلى أنني غصت في نوم عميق، كقادة الشعوب والشعوب، لعن الدواء المستورد، القمح المزور، الدم الهجين الذي غيروا تاريخ صلاحيته ليربحوا أكثر ولينوموا العقل فينا، وهكذا تترعرع بدل النباهة لحية تتقاتل حولها الطوائف الطينية - عفوا الدينية-.
عندما عاهدت أمي أن لا أكتب حرفا، أو أقرأ كتابا، أو أتصفح جرائد، فلأنها صُعقت لما دخلت غرفتي، وفتشت في أغراضي، باحثة عني، لقد وجدت الكتب وقصاصات الجرائد، والمجلات العلمية القديمة، وكتائب الأقلام... لكنها لم تجدني.
أمي لها فلسفة خاصة،
من يقرأ كثيرا يمرض كثيرا،
ومن يمرض وفي حوزته كتب وأقلام
حتما سيفقد صوابه...
هل أبدو كذلك ؟؟؟
بعد أسبوع، تفاجئت أنني ما زرت مستشفى قط، كل الذي حصل كان بغرفتي، طقطقت رأسي، أيعقل هذا.
أن تكون أمي هي الممرضة...
أن يكون الحارس هو أبي...
وهل حقا كنت تبتسمين؟...
-
Zaya Mayaزياد محمد فركال @FerGal@