نادي الخامسة صباحا المنسي
أحيانا يكون الإستيقاظ باكرا ليس خيارا
نشر في 14 فبراير 2023 .
استيقظ ستيف كعادته بضع دقائق قبل أن يرن المنبه وبضع ساعات قبل معاذ استيقاظ معظم الناس، وثب بخفة من سريره وتسلسل بمهل حتى لا يوقظ زوجته -التي سوف تستيقظ بعد ساعة-، وعالج بخفة منبهه لتعطيله حتى لا يقطع على زوجته سباتها العميق.
ينتمي ستيف لما يُسمى بنادي الخامسة صباحا، وهو ليس ناد بالمعنى الحقيقي، لكنه مجاز يطلق على الأشخاص الذين يستيقظون باكرا قبل شروق الشمس حتى يستفيدوا من يومهم كما يجب، ستيف ليس شخصا رياضيا محترفا لكنه يحرص على تمرين عضلات جسمه و تنشيط قلبه بشكل منتظم، بما أن الجو ممطر اليوم ودرجة الحرارة في الخارج منخفضة فسوف يكتفي بتمارين التنفس والتمطيط في قاعة الرياضة بالطابق العلوي المطلة على السهل المجاور للحي الراقي الذي يقطنه رفقة العديد من جيرانه الذين يشاركه العديد منهم نفس الاهتمامات، افترش سجاد الرياضة الخاصة على الأرض، أطفأ الأنوار الساطعة واكتفى بإضاءة خافتة نابعة من قناديل صغيرة موزعة بعناية على سقف الجناح التي تطلبت من مهندس الديكور عدة أسابيع في سبيل تضبيطها وتثبيتها في أمكان محددة لا تخرق قواعد الفينغ شوي لطاقة المكان، ولم ينس ستيف أن يلبس سماعاته العازلة للضجيج ويشغل موسيقى خفيفة في الأصل تكاد لا تسمع ويضع بعض الأعشاب مع البخور حتى تكتمل أركان أجواء خلوته التأملية، دخل سريعا في التأمل العميق واستمر في ذلك الوضع لمدة نصف ساعة بعدها بدء في فتح عينيه تدريجيا حتى دب النشاط في سائر جسده، ثم نهض سريعا وتوجه للنافدة للتأمل، ليقع بصره على جيرانه المسلمين العائدين من المسجد بعد تأدية صلاة الصبح وتلاوة حزب من القرآن الكريم وتبادل التحية معهم، صحيح أن ستيف ملحد ولا يؤمن بأي ديانة سماوية لكنه نموذج للإنسان المتسامح الذي يتفهم اختلاف الآراء ويدعو للتعايش بين الأمم، وحتى الشركات التي يمتلكها يحرص على تنويع أصول واعتقادات موظفيها ومسيريها، فكان من الطبيعي أن تجد مديرا تنفيذيا عنده يحمل رزة كبيرة على رأسه لا ينزعها مهما حصل كأي سيخي مخلص، وكان أيضا يحرص على تخصيص أماكن للصلاة تستعمل مناصفة بين المسلمين والمسيحيين واليهود، ربما الشيء الوحيد الذي كان لا يسمح به هو قبوله بدخول موظفين عراة كون ذلك ينافي الذوق العام في أماكن العمل.
يحرص ستيف رغم غناه الفاحش على إعداد طعام الإفطار بنفسه، ففي الوقت الذي تكون زوجته خارج البيت أو في قاعة الرياضة تمارس روتينها اليومي في جري بضع كيلومترات بإيقاع متوسط، يتحرك ستيف وسط المطبخ بكل خفة ورشاقة متبعا توجيهات أليكسا التي تقترح عليه كل صباح إفطارا غريبا من ثقافات متنوعة.
القراءة تعد جزءا لا يتجزأ من أنشطته اليومية فقبل أن يباشر عمله يمضي على الأقل نصف ساعة متكئا على أريكة معدة خصيصا للقراءة في مكتبته وهو منهمك في قراءة الكتب وأخذ الملاحظات والتعليم على أهم الفقرات، تخيلوا أنه مارس الرياضة وجهز الإفطار بنفسه وقرأ بتمعن والساعة تشير إلى السابعة حيث معظم الناس لا يزالون يغطون في نوم عميق.
قصة ستيف ليست فريدة يكفي أن تدخل لليوتوب وابحث عن نادي الخامسة صباحا والسادسة صباحا وأحيانا الرابعة والنصف صباحا لتشاهد حياة الكثيرين ممن اتخذوا مذهب الاستيقاظ مبكرا منهجا في حياتهم وكيف تغيرت حياتهم 180 درجة، لكن ألا ترون أن الأمر غير طبيعي؟ ألا ترون أن هذا النمط غير صالح لمعظم الناس؟ شخصيا كنت ممن يلومون أنفسهم على عدم قدرتي الالتزام بروتين صباحي مبكر وأقع بسهولة في فخ المقارنات، لكن مع توجهي تدريجيا لمتابعة أشخاص رفعوا شعار الإنتاجية والواقعية مثل المصري علي محمد علي أو الأمريكيين كال نيوبوربت ومات ديفالا تخلصت من هذا التأنيب، مات ديفالا مثلا قام بمحاولة الالتزام بالنهوض مبكرا جدا لمدة 30 يوما وصور لنا تجربته ليخلص في نهاية الأمر أن الأمر لا يناسبه وفي الغالب لن يناسب معظم الناس، مع العلم أنه يستيقظ في العادة بين السادسة والسابعة على أعلى تقدير كما أنه يشدد في كل مرة أن نمط حياته ليس مثالا يحتذى به كون طبيعة عمله تسمح له بالكثير من المرونة والحرية الأمر الذي ليس متاحا لمن يعمل موظفا في مصلحة عمومية مثلا أو رجل مطافئ.
النادي المنسي الآن
بعيدا جدا عن ستيف وربما ليس بعيدا جدا، لنتتبع حياة رولا المنتقلة مع أسرتها منذ عشر سنوات من دولة البانغلاديش إلى بلاد العم سام، رولا تربطها علاقة قوية بستيف فهي تعمل في إحدى معامل تعليب الفراولة التابعة له، رولا التي توفي زوجها قبل سنتين بعد معاناة مع مرض السرطان ترعى 4 أطفال، أصغرهم أكمل عامه الأول وهو يتيم الأب، رولا بدورها تستيقظ يوميا قبل الساعة الخامسة لكن هاته المرة ليس حبا في الإستفادة من اليوم ولا نشاطا منها ولكن للضرورة فلو تأخرت بضع دقائق بعد الخامسة لضاع كل شيء منها، فهي مجبرة على إتمام كل مهامها حتى تكون في انتظار الحافلة التي تقلها للمعمل على الساعة السادسة والنصف على بعد 5 كيلومترات من مقر سكنها، صحيح أن ستيف يحرص على توفير النقل لكل عماله لكنه لن يوفر طبعا سائقا خصوصيا لكل واحد منهم كما أن الحافلات لن تجازف بالدخول إلى وسط الأحياء الهامشية لتقل العمال فردا فردا، هناك مسارات محددة وعلى كل عامل أن يمشي بضع كيلومترات حتى يصل إلى مكان التجمع والركوب -وهي أيضا فرصة لمحاربة تراكم الدهون في عصر قلت فيه حركتنا-، ولو تأخر أحدهم لظرف ما فهذا يعني أمرا من اثنين إما التضحية بمبلغ يعادل مصروف الأسبوع لكي يستقل سيارة اجرة والوصول في المعاد أو نسيان موضوع العمل والبدء في البحث عن آخر خارج شركات ستيف، فستيف المنضبط يحرص على تمرير قيمه ومبادئه لموظفيه وعماله وبما أنه إنسان مميز فهو يؤمن فقط بمبدأ التعليم عبر التجربة : كل موظف تأخر في الالتحاق بمقر العمل خمس دقائق يكون مصيره الطرد.
رولا لها روتينها الصباحي الخاص، في ساعة ونصف يجب أن تعد وجبا الطعام لليوم كله لها ولأبنائها الأربعة، تهيئ لأبنائها الثلاث ملابسهم، البكر تهيئ له ملابس العمل، فقد اضطر إلى مغادرة المدرسة والالتحاق بورشة ميكانيكي كان يعمل عنده والده، بينما تذهب البنتان إلى المدرسة المسيحية التي توفر لها مجانا الكتب والملابس وأحيانا بعض الوجبات، أما آخر العنقود فهي تودعه عند صديقتها التي تعيش معها والدتها المسنة التي تعمل كحاضنة للأطفال بحكم صعوبة قدرتها على العمل في شركات ستيف وأصدقائه من نادي الخامسة صباحا.
أصل القصتين
فكرة هاتين القصتين راودتني ذات صباح وأنا أجري قبل شروق الشمس بمدار معد بعناية على جنبات الطريق الدائرية، لأصادف ثلاثة أشخاص خرجوا فجأة من طريق جانبي على أقدامهم وهم يهرولون لأن حافلة نقل العمال تقترب من مكان الالتقاط، المنظر أثار في نفسي حزنا عميقا، وناقشت بعد ذلك الموضوع مع صديقي الذي أشاركه النشاط الرياضي الصباحي بين الفينة والأخرى، كنا نناقش الفوائد الجمة التي يجنيها الإنسان من الاستيقاظ باكرا، والأكثر ما يفوته النائمون.
القصتين السابقتين تمثلان نقيضين متطرفين من المجتمع، فمن جهة ليس كل الأغنياء وأصحاب الشركات يستمتعون بيومهم مثل ستيف الكثير منهم يمضي الليل في الملاهي الليلية الفارهة ويعربد حتى ساعات متأخرة ليستيقظ بعد منتصف اليوم، كما أن نسبة كثيرة من الناس لا ترغمها ظروف العمل على الاستيقاظ مبكرا مثل رولا، العبرة ليست في الاستيقاظ مبكرا والنوم باكرا العبرة هي حسن التدبر والتصرف في الظروف التي تُفرض علينا.
في مدينة تطوان التي أقطن بها تبدأ الحياة متأخرة جدا كل يوم باستثناء أصحاب المهن التي تتطلب توقيتا مبكرا مثل موظفي الأبناك والإدارات العمومية والمستشفيات، في الغالب تبدأ الناس عملها حتى الساعة 10 أو 11 صباحا، لو فقط استغلت هاته الشريحة صباحها في أنشطة مفيدة لاستطاعت أن تغير الكثير من واقعها ومن واقع المدينة والمنطقة، صحيح أن من عنده أطفال يدرسون في الصباح وعمل يتطلب منه الحضور على الساعة 8 والنصف يصعب عليه الحديث عن روتين صباحي مبكر ممتع، لكن عطلة نهاية الأسبوع تبقى متنفسا أو على الأقل صبيحة السبت أو الأحد حسب الإختيار.
ختاما لا يغرنك نادي الخامسة صباحا أو الرابعة والنصف، حدد أولوياتك ورتبها وحاول أن تلتزم بها واحرص على رفقتك ممن يشجعك ويقويك ولا يحبطك وإن أنت تخلفت يوما أو أسبوعا عن برنامجك لا تستسلم وابدأ من جديد.
-
ضياء الحق الفلوسطالب علم في مدرسة الحياة. مولع بسباقات الطريق مولع بالبرمجيات و مسابقات البرمجة و التكنولوجيا الحديثة. مولع أيضا بالتدوين والرسم والتصوير.