كانت الفترة التي تولى فيها السلطان قنصوة الغوري سلطنة الدولة المملوكية، فترة أزمات اقتصادية طاحنة، هزت البلاد بطولها وعرضها وأكثرت فيها الفساد، رغم أنها كانت فترة مستقرة نسبياً من الناحية السياسية، أو بدت كذلك مقارنة بالسنوات التي سبقت تلك الأيام؛ والتي كانت مضطربة تشهد خيانات واغتيالات بالجملة بين أمراء المماليك، حيث لم يكن السلطان يجلس على كرسي الحكم أكثر من بضع شهور أو عام في أحسن الظروف إلى أن يتم اغتياله. ورغم الاستقرار الذي حققه السلطان قنصوة الغوري لمدة تصل إلى خمسة عشر عاماً كانت كل فترة حكمه، كان من أسباب ضعف اقتصاد الدولة اكتشاف الأوروبيين لطريق رأس الرجاء الصالح الذي يدور حول أفريقيا من الجنوب ليصل إلى شواطئ الهند. أثّر ذلك تأثيراً كارثياً على اقتصاد الدولة بكل المقاييس، وأدى إلى ضرب مصدر الدخل الأهم في ذلك الوقت وهو الضرائب التي يفرضها المماليك على حركة التجارة الهائلة بين أوروبا والهند والصين عبر ساحل البحر الأحمر المسمى بـــــــطريق الحرير؛ قبل احتكار برسباي لتلك التجارة قبل ذلك بسنوات. كل ذلك بالإضافة إلى تراكمات ممتدة لعشرات السنين أدى إلى ضعف الدولة وهز هيبتها في أعين جيرانها.. يسهل الآن فهم أسباب ومقدمات وقوع دولة المماليك فريسة أمام قوات السلطان سليم الأول.

كانت الأزمة كبيرة، وكثرت الضرائب على كواهل الناس، واشتدّت الحاجة، وندر الطعام في المنازل كما ندرت حركة البيع والشراء. كل ذلك وأمراء المماليك لا يعبؤون ولا يشغلهم شيء إلا سلب الأسواق وعصيان الأوامر والإلحاح في طلب الهدايا والإقطاعات. كان عصر السلطان قنصوة غريب مفعم بالتناقضات، ومن دلائل ذلك أن كل تلك القلاقل لم تشغل السلطان عن تشييد الكثير من العمائر التي سعى لبنائها تخليداً له. ومما يذكره المؤرخون أنه عند بناء مسجد ومدرسة السلطان قنصوة الغوري، نفذت مواد البناء، ولم تكن الحالة الاقتصادية تسمح بشراء المزيد، وأمام ذلك لم يجد السلطان ما يكمل به البناء إلا أحجار ورخام مساجد ومدارس السلاطين الذين سبقوه، فشرع عمّاله في تكسير تلك المواد لاستخدامها. ولما كان أبناء مصر بارعون في أساليب التقريع والسخرية من كل شيء وأي شخص مهما علا شأنه؛ أطلقوا على مسجد السلطان قنصوة الغوري المسجد الحرام، ليس تكريماً له؛ وإنما لأنه المسجد الذي بُني من حرام، ولم يكن لغرض العبادة بقدر ما بُني لغرض التفاخر والمباهاة.

ولم يكن مسجد الغوري وحده الذي بُــني على أنقاض غيره من مبان، بل وبُـــني مسجد السلطان حسن قبل ذلك بأعوام مديدة، على أنقاض قصر الأمير المملوكي يلبغا اليحياوي الذي بناه له السلطان الناصر محمد بن قلاوون، والذي هدمه السلطان حسن وبنى على أرضه مسجداً، تحت إشراف محمد بن بيليك المحسني؛ أحد عباقرة العمارة في عصره. وظلّ مسجد السلطان حسن مضرب الأمثال في العراقة والفخامة إلى يومنا هذا. وعموماً كانت دولة المماليك وهي الممتدة من مصر إلى الحجاز والشام شرقاً، طوال فترة حكمها معروفة بالازدهار المعماري الكبير، حتى أن كل سلطان جديد كان يحاول التفوق على سابقوه من السلاطين فيما يبني من قصور وأسوار ومساجد ومدارس ونحو ذلك من العمائر والمباني المهولة التي عُرف بها ذلك العصر؛ ومازال أكثرها صامداً إلى اليوم. كان كل سلطان يحاول بلُغة عصرنا الحالي أن ينافس سابقوه من السلاطين "ويعلَّي عليهم" بما يترك من عمائر؛ هي في الأصل شهادة على عصر لم نعشه، وإنما عاش فينا بما ترك لنا من أصالة نلمسها في شوارع مصر القديمة ونحن نتأمل آثارها، ونتفكّر فيما آل إليه أصحابها وما آلت إليه بلادنا من بعدهم على أيدي العثمانيين