مرصد التاريخ - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

مرصد التاريخ

يسرى محمود السيد

  نشر في 04 يونيو 2016  وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .

     لا غنى للإنسان عن دراسة ماضيه ليعرف أصوله ، كما أنه دافع فطرى مجبول عليه ؛ أما طبقة الباحثين والعاشقين للتاريخ فيشدهم عبقه إليه ؛ ومع أن القرآن الكريم كتاب وعظ فى المقام الأول ، لكن الله جل وعلا استخدم العلم والتاريخ لضرب الأمثلة والدلالة عليه قال تعالى :

(كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99))طه

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69)النمل

(فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)القصص

   ، فكان تنبيهه عزوجل الناس لأهمية التاريخ لمعرفة نعمه ونقمه وسننه الجارية فى خلقه ؛ وصدق قول القائل: أمة لاتعرف تاريخها لا تحسن صياغة مستقبلها ، فإن ما تراه اليوم من فسوق وانحلال فى أخلاق الشباب وتأسيهم بالآخر؛ إنما سببه عدم علمه بماضى أمته وتاريخها فهو لا يبحث عنه بل ينتظر أن يبحث له عنه ؛ فإن وصله ذلك التاريخ يوما يصله مشوها ...

      اختلف الباحثون فى تعريف التاريخ وخرجت بتعريف خاص بى أعتقد أنه التعريف الأعم والأشمل ، كما أنه التعريف الأقرب إن لم يكن الأصوب وهو ؛ أن التاريخ هو كل ما يمكن ذكره من الماضى أو بصيغة أخرى الماضى الذى يمكن تذكره بأى وسيلة من وسائل التذكر، سواء كانت الذاكرة أو الرواية أو الكتابة أو الرسم أو النحت أو الصورة أو الفيديو ،حتى ولو يتم الحفاظ عليه فإننا لا نستطيع إنكار دور الذاكرة أبدا وإلا سنفقد وثائق هامة جدا من التاريخ ، منها على سبيل المثال روايات شهود العيان ؛ ولهذا فإن ما يخرج عن وسائل الذاكرة السابقة لا يكون تاريخا لأنه ليس بشىء بل هو المعدوم قال تعالى:( هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1)الإنسان ولا نقول عنه مجهولا لأن المجهول هو شىء يمكن تصوره والعلم به مع عدم العلم بوجوده وكيفيته ، ويطلق العلماء لفظة المجهول غالبا على المستقبل ، أما ما يتصوره العلماء من أشكال للماضى فتكون استنباطات من العلم والتاريخ المعلوم ، فإن لم يدل على هذا شىء فهو مجرد تخيل والتخيل ليس بعلم ولا تاريخ قال تعالى:( وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)إبراهيم فمن أين يأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يذكر من أيام الله إلا بما أخبره به ربه جل وعلا أو بما هو معلوم من التاريخ ؛ قال تعالى :( ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)آل عمران ؛ وقال تعالى :( ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)يوسف

      واختلف العلماء فى وصف التاريخ أهو علم أم فن ؛ فيرى بعض العلماء مثل (هرنشو) أن التاريخ ليس علم تجربة و اختبار و لكنه علم نقد و تحليل و تحقيق ؛ فيما يرى البعض الآخر أنه فن يتمثل فى كيفية صياغته وطرق عرضه ، فذهب سيد قطب رحمه الله إلى أن التاريخ ليس هو الحوادث وإنما هو تفسير هذه الحوادث ؛ قلت : إنما نصبوا من دراسة التاريخ التوصل إلى أمر واحد وهو الحقيقة ، ومن ثم إبراز تلك الحقيقة للدارسين والباحثين لينقدوا ويحللوا .. فالحقيقة هى العلم ؛ وصياغته وعرضه وتحليله هو الفن ، وبذلك يكون التاريخ مزيج من الفن والعلم ؛ ومع ذلك فإن التاريخ كعلم أو فن داخل فى كل علوم وفنون الدنيا ، فلا يستطيع الباحث فى أى فن أو علم البحث فيه دون معرفة ودراسة تاريخه

     كذلك لم يخل التاريخ من عابثين به ومزورين ومدلسين ، لكن العلماء والباحثين الثقات كانوا لهم بالمرصاد ؛ كى تقف الحقيقة فى النهاية بيضاء ناصعة ليلها كنهارها ... وكما أن للتاريخ مبخرة يفوح منها المسك يحتفظ فيها بسير الإصلاحيين ؛ فإن له أيضا مزبلة يدكّ فيها المجرمين

      أخى القارىء إن آلة الرصد للتاريخ هى وسائل التذكر السابقة يرصد بها الأحداث ويدونها للأجيال القادمة فالأحداث تمضى والتاريخ يسجل ، ففرق شاسع بين أن يقترف أحدنا ذنبا أو حدثا فى غرف مغلقة لا ترصده الآلة وبين أن تفضحه الآلة برصدها إياه ، إن آلة رصد التاريخ آلة قاسية لا تنس ولاترحم ، فإياك أن تقع أمام رصدها ..

      فإنها مثلا رصدت لنا ولم تنس دهاء عمرو بن العاص رضى الله عنه ومحاولاته للوقيعة بين ملك الحبشة والمسلمين المهاجرين .. لم يمح ذلك من كتب التاريخ والسير رغم إسلام عمرو رضى الله عنه وكونه من أكابر وأكارم الصحابة رضوان الله عليهم جميعا ، رصدت لنا آلة التاريخ أيضا تطويق خالد بن الوليد رضى الله عنه لجيش المسلمين فى أحد حتى قتل منهم سبعين من الصحابة.. مازال ذلك موجودا فى كتب التاريخ والسير لم يمح رغم كونه رضى الله عنه أسلم وأصبحت له بطولات فى التاريخ الإسلامى ، لم يمح من كتب التاريخ رواية وحشى بن حرب رضى الله عنه عن نفسه فى قتل عم الرسول حمزة رضى الله عنه رغم إسلامه رضى الله عنه ولأن التاريخ لايمكن أن يمح ذلك من ذاكرته ؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما رآه بعد إسلامه قال له صلى الله عليه وسلم : ويحك ‏!‏ غيب وجهك عني، فلا أراك‏ ..

       إن التاريخ يجب أن يعرض على حقيقته كما هو ؛ فيذكر ما كان الناس عليه وما صاروا إليه ، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم ينه عن كتابة التاريخ أو عدم ذكر ما كان من أصحابه قبل إسلامهم ؛ وإنما عالج ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم (إن الإسلام يجب ماقبله) ، كذلك رصدت آلة التاريخ لنا أيضا أقوال الجبابرة والطغاة وأفعالهم على مر الأزمان ورصدت أيضا مآلهم وآخرتهم ،

      لكن آلة الرصد يختلف تأثيرها تبعا لنوعها فيختلف تأتير الكتابة عن الصورة وهنا مكمن الخطورة .. فتبرز آلة رصد التاريخ وشدة قسوتها ؛ فالمثال الواضح على ذلك ما يسمى بالفنانات المعتزلات أو التائبات ؛ فبالرغم من توبتهن لم تمح سقطاتهن ولم تنس بل ازدادت انتشارا .. لنصل فى النهاية إلى قاعدة ثابتة خالدة مؤداها .. إن كان الله عزوجل يغفر ويسامح وكفى .. فإن التاريخ لايسامح.     



   نشر في 04 يونيو 2016  وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا