صحيح الأخبار عما ورد عن بدء الخلق من الآيات والآثار - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

صحيح الأخبار عما ورد عن بدء الخلق من الآيات والآثار

  نشر في 22 ماي 2020  وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .

الصحيح مما ورد في القرآن والسنة عن بدء الخلق ونشأت الكون

أعلم رحمك الله أن هذا البحث استغرق مني سنوات عدة ليكون على هذه الهيئة، ولعل القارئ يجد في هذا البحث أني تجاهلت أحاديث يراها هو حجة في هذا الباب، إما لصحة سندها أو لشهرتها، ويخفى عليه السبب الذي دفعني إلى إقصائها وعدم الاعتماد عليها والاحتجاج بها، لذلك فضلت أن أبين منهجي للقارئ حتى يطمئن قلبه لما سوف يقرأه إن شاء الله تعالى.

منهجي في البحث:

1- قمت بجمع الآيات الواردة في بدء الخلق ونشأت الكون، وترتيبها بحسب ما ورد في القرآن.

2- قمت بجمع الآثار الواردة في بدء الخلق ونشأت الكون، ثم قمت بنقد أسانيدها ومتونها، واستخلاص الصحيح منها، ولم أركن إلى شيء من الأحاديث الضعيفة؛ إلا في ثلاث حالات:

الأولى: أن يكون هذا الأثر، مكمل لخبر ناقص في الحديث الصحيح، أو مفسر له.

والثانية: أن لا يكون في متنه ما يتعارض مع القرآن أو الأحاديث الأخرى.

والثالثة: أن لا أجد غيره في المسألة التي احتججت به فيها. 

3- قمت بترتيب خلق المخلوقات بناء على ما ورد في تلك الآثار ثم مقارنتها بالترتيب الذي استنتجته من القرآن فإذا تعارض منها شيء ولم يمكني الجمع بينها قدمت ما ورد في القرآن واسقطت ما ورد في تلك الآثار.

مثال على ذلك: ما روي من أحاديث في ترتيب خلق السماوات والأرض، وهي أربع روايات، بعضها مرفوع وبعضها موقوف، رواية عن أبي هريرة، وثلاث روايات عن عبدالله بن عباس، ورتبت خلق السماوات والأرض بناء على ما ورد فيها، فبحثت أسانيدها، فوجدتها جميعاً لا تخلو من علّة، وبهذا فهي لا تصح سنداً، ثم هي متعارضة مع بعضها البعض، غير متفقة، حتى أن الراويات الثلاثة المروية عن عبدالله بن عباس مختلفة، مع أنها مروية عن صحابي واحد! ونحن لا نتهم الصحابة في ذلك، بل نتهم الرواة، فابن عباس لا يعقل أنه قال كل تلك الروايات المختلفة، بل لا بد أنه روى الخبر بما يتوافق مع ما ورد في القرآن، ولكن الرواة هم من زاد في الخبر ونقص وقدم وأخر، حتى صار متعارضاً مع القرآن، على فرض أنه قال شيئاً منها، وإلا فكما قدمت، فأسانيدها ضعيفة، فلما أردت مقارنتها بالترتيب الذي استنتجته من الآيات القرآنية، وجدتها تخالف القرآن الكريم، ولا أستطيع الجمع بينها أو بين أحدها وبين القرآن! ولذلك رأيت من الواجب تنحية هذه الأحاديث، وتقديم ما ورد في القرآن؛ لأنه محفوظ بحفظ الله تعالى له.

- بدء الخلق

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قلت: يا نبي الله إني إذا رأيتك طابت نفسي وقرت عيني فأنبئني عن كل شيء؟ فقال: "كل شيء خلق من ماء".

رواه أحمد.

وعن عمران بن حصين رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان الله ولم يكن قبله شيء، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السماوات والأرض".

رواه البخاري.

وعن وكيع بن حدس، عن عمه أبي رزين لقيط بن عامر العقيلي، أنه قال: يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ قال: "كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء، ثم خلق عرشه على الماء".

وفي رواية: "أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه".

قال الترمذي: حديث حسن.

والعماء، بالمدّ؛ هو السحاب الأبيض.

والهواء، هو العدم المحض، الذي ليس فيه شيء.


- خلق القلم والكتاب وتقدير المقادير

عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله خلق لوحًا محفوظًا من درة، صفحاتها من ياقوتة حمراء، قلمه نور، لله فيه في كل يوم ستون وثلاث مئة لحظة، يخلق، ويرزق، ويميت، ويحيي، ويعز، ويُذل، ويفعل ما يشاء".

رواه الطبراني مرفوعاً، ورواه الطبري والبغوي موقوفاً على ابن عباس.

وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أول ما خلق الله القلم ثم قال له اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة".

قال الترمذي: حسن صحيح غريب.

وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: إن الله عز وجل كان عرشه على الماء قبل أن يخلق شيئا، ثم خلق، فكان أول ما خلق القلم، ثم أمره فقال: أكتب، فكتب ما هو كائن إلى قيام الساعة، فإنما يجري الناس على أمر قد فرغ منه.

رواه الفريابي بسند صحيح.

قلت: فالقلم هو أول المخلوقات المرتبطة بالكون الذي نعيش فيه، وأما الماء والعرش، فقد تقدم خلقهما قبل القلم، والكتاب، الذي يسمونه: اللوح المحفوظ، كان خلقه متزامناً مع خلق القلم، ففيه كتب القلم مقادير الخلائق.

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة". قال: "وعرشه على الماء".

رواه مسلم.

وأظن أن الخمسين ألف سنة هي المدة التي مكثها القلم في كتابة المقادير.

- بدء خلق السموات والأرض

ثم بدأ الله عز وجل خلق السموات والأرض.

قال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا(

فالسموات والأرض كانت شيئاً واحداً من ماء، فأصعد من ذلك الماء دخان – وهو بخار الماء - فخلق منه السماء، سقفا واحدا من دخان، والدليل قوله تعالى: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان) فدل هذا على أنها خلقت من دخان أول الأمر، وهو بخار الماء، قبل أن يستوي إليها.

وقال تعالى: (أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ)

أي: خلق السماء سقفاً واحداً، ويظهر من الآيات أن خلق السماء وخلق الأرض كان متزامناً، بحيث أن الله يصعد الدخان ويخلق السماء، وفي نفس الوقت كان يحول ما تبقى من الماء إلى تربة، فخلق منها الأرض، فلما فرغ من خلقهما، خلق الشمس والقمر، وأجراهما في فلكيهما، فذلك قوله: (وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا) فتم ذلك في يومين.

قال تعالى: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ)

ولما فرغ من خلق اليابسة، اضطربت وتزلزلت، فخلق الجبال، وألقاها على الأرض لتكون لها أوتادا، فاطمأنت واستقرت.

ودحى الأرض، أي: ملئها بالماء والنباتات، فذلك قوله: (وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) فدحي الأرض تم بعد خلق الشمس والقمر.

ويظهر من الآيات أن بدء إلقاء الجبال، ودحي الأرض، بخلق الماء والنباتات، كان متزامناً، لقوله تعالى (وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا) فالواو هنا هي واو المعيّة، وعلى هذا فيكون بدء إلقاء الجبال تم في بداية اليوم الثالث مع بدء خلق الماء والنباتات.

أما الرياح، فقد يكون خلقها تم أثناء تصاعد الدخان من الماء، فخلق من جزء من ذلك الدخان الرياح، أو خلقت قبل خلق النباتات في اليوم الذي خلقت فيه النباتات؛ لأن النباتات لا تعيش إلا بما في الرياح والشمس والماء والتربة من عناصر.

ثم خلق الدوابّ، وبثها في الأرض.

فتم ذلك كله في يومين أخرين، فهذه أربعة أيام سواء للسائلين، قال تعالى: (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ)

وقال تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)

أي أن الله تعالى لم يستوي إلى السماء، إلا بعد أن فرغ من خلق كل شيء على الأرض.

قال تعالى: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْن (

أي: أن الله تبارك وتعالى خلق الأرض في يومين، ثم قدر فيها أقواتها في يومين أخرين، فهذه أربعة أيام، ثم استوى إلى السماء وهي إذ ذاك دخان، فجعلها سميكة صلبة، وفتقها إلى سبع سموات.

ثم قال تعالى: (وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)

أي: أن تزيين السماء بالنجوم، كان بعد إتمام خلق السموات.

عن ابن عباس رضي الله عنه قال: خلق في كل سماء خلقها من الملائكة وما فيها من البحار وجبال البَرَد وما لا يعلمه إلا الله.

وقوله تعالى: (وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا) أي: زينها بالنجوم، وجعلها علامات يهتدى بها في ظلمات البرّ والبحر، ويحفظ الله بها السماء، من مسترقي السمع، من شياطين الجنّ.

قال تعالى: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ)

وقال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)

أتم ذلك كله في يومين، فتم خلق السماوات والأرض وما فيها وما بينها في ستة أيام، قال تعالى: (الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا(

وقال تعال: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ(

واللغوب، هو: التعب.

فالأيام الستة، هي الأيام التي جرى فيها خلق السموات والأرض، وأما خلق الماء والعرش والقلم والكتاب، فقد تقدم خلق السموات والأرض، بينما تم خلق الجنة والنار وإبليس وآدم بعد خلق السموات والأرض، فإن الله تعالى ذكر أن الأيام ستة تم فيها خلق السموات والأرض فقط.

باب خلق الجنّة والنّار

عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لما خلق الله الجنة والنار أرسل جبريل إلى الجنة، فقال: انظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، قال: فجاءها ونظر إليها وإلى ما أعد الله لأهلها فيها، قال: فرجع إليه، قال: فوعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فأمر بها فحفت بالمكاره، فقال: ارجع إليها فانظر إلى ما أعددت لأهلها فيها، قال: فرجع إليها فإذا هي قد حفت بالمكاره، فرجع إليه فقال: وعزتك لقد خفت أن لا يدخلها أحد، قال: اذهب إلى النار، فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، فإذا هي يركب بعضها بعضا، فرجع إليه، فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها، فأمر بها فحفت بالشهوات، فقال: ارجع إليها، فرجع إليها فقال: وعزتك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد إلا دخلها "

قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

فالشاهد من الحديث أن الجنة والنار خلقت بعد خلق جبريل، مما يعني أن الجنة والنار خلقت بعد الملائكة، والملائكة خلقوا أو خلق جزئ منهم مع خلق السماوات السبع أو بعد الايام الست، فتبين بهذا أن الجنة والنار خلقت بعد خلق السماوات والأرض.

باب خلق الملائكة

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خلقت الملائكة من نور، وخلقت الجان من نار، وخلق آدم مما وصف لكم" أي: من طين.

قلت: الملائكة مخلوقات خلقها الله عز وجل لعبادته وخدمته، مع كمال غناه عنهم سبحانه وتعالى، فهو سبحانه العزيز الجبّار المتكبر، فلا يباشر الأعمال بنفسه إلا ما شاء منها، ويكل ذلك إلى من شاء من خلقه.

قال تعالى واصفاً الملائكة الكرام: (لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)

وقال تعالى : (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)

وقال تعالى: (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ)

وقال تعالى: (بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ)

والملائكة ليسوا ذكوراً ولا إناثاً، ولكنهم في الخِلقَة أقرب للرجال، إلا أنهم أقوى وأعظم وأكمل من الرجال، ولا يأكلون ولا يتوالدون، لأنهم جنس واحد، ثم هم لا يموتون، فليسوا في حاجة إلى التناسل، الذي جعله الله سبباً لبقاء الأنواع التي قدّر عليها الموت.

وهم كائنات ذوات أجنحة، منهم من له جناحان عن يمينه وجناحان عن شماله، ومنهم من له ثلاثة عن يمينه وثلاثة عن شماله، ومنهم من له أربعة عن يمينه وأربعة عن شماله.

قال تعالى: (جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۚ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ)

وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى) قال: رأى جبريل له ستمائة جناح.

ولم يرد في القرآن ولا في الأحاديث ما يفيدنا في الزمن الذي خلقت فيه الملائكة، فمن الممكن أن الملائكة خلقوا دفعة واحدة وفي زمان واحد، وقد يكون خلقهم متفاوتاً ووقع في أزمنة مختلفة، بحيث خلق كل طائفة منهم مع السبب الداعي لوجوده، والله أعلم.

وممن ذكر لنا من طوائفهم: حملة العرش، وطائفة يطوفون حول العرش، يسبحون الله ويمجدونه ويقدسونه، ومنهم خزان الجنّة، وخزان النّار، ومنهم عمّار السموات السبع، ومنهم طوائف موكلون بالأرض، فمنهم ملائكة موكلون بالقطر، وبالجبال، مما يفيدنا أن لكل أمة في الأرض والسماء حي أو جماد كالشمس والقمر والنجوم والتربة والنباتات والبحر والجليد والنيران الأرضية ملائكة موكلون بها بأمر الله تعالى، ليس لهم من الأمر شيء، سوى أنهم يطيعون الله فيما يأمرهم به من الأوامر، فإذا جاءهم الأمر من الله قاموا به على الوجه الذي يرضي الله تعالى، بمشيئة الله.

وأشرف الملائكة ثلاثة هم: جبريل وميكائيل وإسرافيل كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في دعاء استفتاح الصلاة: "اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون أهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراطٍ مستقيم".

ومن أشراف الملائكة أيضاً: مالك رئيس خزنة النار، وملك الموت، وهو رئيس الملائكة الموكلون بقبض الأرواح، والملك الموكل بالنفخ في الصور، وملك الأرحام، وهو رئيس الملائكة الموكلون بنفخ الروح في الأجنة، وغير ذلك مما لا يعلمهم إلا الله.

باب خلق الجن

وأما الجن، فخلقوا من نار السموم، وهو مارج النار، وهو اللهب المتصاعد من النار عند توهجها، وأول خلق الجن هو إبليس، فهو أبوهم.

ولا اختلاف بين أهل العلم أن الجن فيهم ذكور وإناث وأنهم يتناكحون ويتناسلون مثل الإنس، والدليل قوله تعالى: (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ) وهذا يدل على أنه يتأتى منهم الطمث، وهو الجماع والافتضاض.

وقال تعالى: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) ومتى كان فيهم رجال ففيهم إناث، وذلك يقتضي التناسل.

وعن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث. والخبث جمع خبيث، والخبائث جمع خبيثة، يريد: ذكران الشياطين وإناثهم، فقد دل هذا التفسير للحديث على أنه يوجد في الجن ذكران وإناث، وهو يقتضي الجماع والتناسل.

وعن قتادة قال: وهم يتوالدون كما تتوالد بنو آدم.

وقال الشعبي: (سألني رجل: هل لإبليس زوجة؟ فقلت: إن ذلك عرس لم أشهده، ثم ذكرت قوله تعالى: (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي) فعلمت أنه لا تكون ذرية إلا من زوجة، فقلت: نعم.

فإن صحّ ما ذهب إليه الشعبي، فربما خلق الله له زوجة من نوعه، وقيّض لها روحاً خبيثة جاحدة مثله، والله أعلم.

وسمعت أحد الرقاة وهو يسأل شيطانا متلبساً برجل، وكان الحديث قد جرهما إلى أن يسأله الراقي عن علاقته بإبليس فقال: ذاك أبي خرجت منه. فقال له الراقي متعجباً من لفظه: هل تعني أن إبليس وطئ أمك وأمك حملت بك وأنجبتك! فقال له الشيطان: لا فإبليس ليس له زوجه. فقال الراقي: إذا كان ليس له زوجه فكيف ينجب ذريّته؟! فقال له الشيطان: أبناءه يخرجون من ضلعه. قال الراقي: وأنت خرجت من ضلعه؟ فقال: نعم. فقال الراقي: فكيف يكون في الجن ذكور وإناث؟! فقال: نحن الذين خرجنا من ضلعه نخرج رجالاً كلنا، ثم نحن نخرج من أضلاعنا جنّاً ذكوراً وإناثاً. وقد استنكر ذاك الجني أن يوصف بالشيطان، وكان يخبر الراقي بأن نوعهم يسمى: الأبالسة، لأنهم خرجوا من إبليس، هذا ما سمعته، والله أعلم هل صدق ذاك الجني أم كذب.

والجنّ أنواع.

عن أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الجن ثلاثة أصناف، صنف لهم أجنحة يطيرون في الهواء، وصنف حيات وكلاب، وصنف يحلون ويظعنون".

رواه البخاري ومسلم.

قلت: وقول النبي صلى الله عليه وسلم "وصنف حيّات وكلاب" يحتمل معنيان:

الأول: أن هذا خلق الله لهم، فهم فيخلقتهم على صور الحيّات والكلاب، ومع ذلك هم ليسوا بهائم، بل خلق مكلف، مثل سائر أصناف الجن الأخرى.

والثاني: أن الخبر لا يعني أنهم يخلقون على هذه الخلقة، وإنما مراده أنهم يتحولون في صور هذه الحيوانات، عندما يرغبون في الظهور للناس، لكي لا يتعرضوا للأذى منهم، كما أن هذا لا يعني اقتصار ظهورهم في صور هذه الحيوانات، بل قد يظهرون في صور حيوانات أخرى، كالقطط، وإنما اقتصر النبي على هذين النوعين، لأنها أكثر الأنواع التي يظهر فيها الجن، وللدلالة على أن للجن القدرة في الظهور في صور الحيوانات عامة. (والله أعلم)

باب خلق آدم

ثم خلق آدم عليه السلام، من تربة الأرض الطينية، وهي التربة التي إذا مزجت بالماء صارت كالعجينة، ومنها كان الناس يصنعون أوانيهم ويبنون بيوتهم.

عن أبي موسى رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، جاء منهم الأبيض والأحمر والأسود وبين ذلك، والخبيث والطيب، والسهل والحزن وبين ذلك".

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله خلق آدم من تراب، ثم جعله طيناً، ثم تركه حتى إذا كان حمأً مسنوناً خلقه الله وصوّره، ثم تركه حتى إذا كان صلصالاً كالفخار. قال: فكان إبليس يمر به فيقول: لقد خلقت لأمر عظيم، ثم نفخ الله فيه من روحه، فكان أول ما جرى فيه الروح بصره وخياشيمه، فعطس، فلقّاه الله حمد ربه، فقال الله: يرحمك ربك. ثم قال الله: يا آدم، اذهب إلى هؤلاء النفر، فقل لهم: السلام عليكم، فانظر ماذا يقولون؟ فجاء، فسلم عليهم؛ فقالوا: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. فقال: يا آدم، هذه تحيتك وتحية ذريتك. قال: يا رب، وما ذريتي؟ قال: اختر يدي يا آدم، قال: أختار يمين ربّي وكلتا يدي ربي يمين، فبسط كفه، فإذا من هو كائن من ذريته في كف الرحمن، فإذا رجال منهم على أفواههم النور، وإذا رجل يعجب آدم نوره، قال: يا رب، من هذا؟ قال: ابنك داود، قال: يا رب، فكم جعلت له من العمر؟ قال: جعلت له ستين، قال: يا رب، فأتم له من عمري حتى يكون عمره مائة سنة. ففعل الله ذلك، وأشهد على ذلك. فلما تقدم عمر آدم بعث الله إليه ملك الموت، فقال آدم: أولم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال له الملك: أو لم تعطها ابنك داود! فجحد ذلك، فجحدت ذريته، ونسي، فنسيت ذريته".

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال: "خلق الله آدم على صورته؛ وطوله ستون ذراعاً، فلما خلقه قال: اذهب، فسلم على أولئك النفر من الملائكة جلوس، فاستمع ما يجيبونك؛ فإنها تحيتك وتحية ذريتك. فقال: السلام عليكم. فقالوا: السلام عليك ورحمة الله، فزادوه: ورحمة الله. فكل من يدخل الجنة على صورة آدم، فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن".

قال أبو بكر المقرئ في كتاب مجالس ثعلب: في الخبر: لا تقبحوا الوجه؛ فإن الله عز وجل خلق آدم على صورته. قال أبو العباس: الهاء راجعة على صورة الله التي اختارها والكون الذي جعله فيه".

قالت: ما ذكره الإمام أبي العباس في تأويل قول النبي "فإن الله عز وجل خلق آدم على صورته" ينطبق تماماً على حديث "خلق الله آدم على صورته".

جاء في الحديث: "إذا ضرب أحدكم فليتجنب الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته".

وفي لفظ: "فإن الله خلق آدم على صورة الرحمن".

صححه الإمام أحمد وإسحاق بن راهوية.

قلت: أمر الله آدم عليه السلام بالسلام على النفر من الملائكة إنما كان بعد ما سجد له الملائكة بمدة الله أعلم بها، ويتضح من الخبر أن الله عز وجل كان يتحدث إلى آدم متى شاء.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها".

وعن أوس بن أوس رضي اللعنه عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم عليه السلام، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة، فإن صلاتكم معروضة علي". قالوا: يارسول الله وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرِمت – أي يقولون: قد بليت – قال: "إن الله عز وجل قد حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء عليهم السلام".

قلت: وقد يظن البعض بناء على ما ورد في بعض الآثار، أن الجمعة التي خلق فيها آدم، هي أخر يوم من الأيام الستة، ولكن كما قدمنا تلك الأحاديث لا تصح، فإنه بعد الانتهاء من خلق السماوات والأرض، جرى خلق كائنات أخرى منها الجنة والنار وإبليس، وأدخل ابليس الجنة وكان يعبد الله مع الملائكة، بمعنى أنه مر زمن منذ أن فرغ من خلق السماوات والأرض وإلى الوقت الذي خلق فيه آدم عليه السلام، ثم إنه منذ خلق آدم عليه السلام إلى أن أخرج منها، جرت حوادث أخرى، مما يجعل القول بأن آدم خلق في أخر ساعة من يوم الجمعة، وأنه كان يتحاور مع ربه، ثم خلقت حواء، وما جرى لهما مع إبليس من الوسوسة، وغير ذلك، في لحظة، شيئاً بعيداً عن التصديق؛ لأنه بخلاف ما جرت عليه العادة، فوقوع مثل هذه الحوادث تحتاج إلى زمن، وبما أنه كما ورد في الأحاديث أدخل الجنة طينة يوم الجمعة، وأخرج منها يوم الجمعة، فهذا يعني أن آدم على أقل تقدير، مكث في الجنة أسبوعاً، والله أعلم.

باب خلق حوّاء

ثم خلقت حوّاء، زوج آدم عليهما السلام.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استوصوا بالنساء، فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء".

وعن ابن عباس قال : خلقت المرأة من الرجل، فجعل نهمتها في الرجل، وخلق الرجل من الأرض، فجعل نهمته في الأرض، فاحبسوا نساءكم .

وهذا يؤكد ما جاء في التوراة ما نصه: "فأوقع الرب الاله سباتاً على آدم فنام، فأخذ واحدة من أضلاعه وملأ مكانها لحما، وبنى الرب الاله الضلع التي أخذها من آدم امرأة، وأحضرها إلى آدم، فقال آدم: هذه الآن عظم من عظامي ولحم من لحمي، هذه تدعى امرأة؛ لأنها من امرئ أخذت .. ودعا آدم اسم امرأته حواء؛ لأنها أمّ كل حيّ".

أي: أمّ كل حيّ من ولده.

والله أعلم وأحكم


  • 1

   نشر في 22 ماي 2020  وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا