محمّدٌ ﷺ أم فالنتاين !
مُحمّدٌ للحُبِّ عُنوانُ ..
نشر في 13 فبراير 2016 وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .
خلقَ اللّهُ آدمَ عليهِ السلام و هو -تباركَ في عُلاه- العليمُ الخبيرُ بضعفِ هذا المخلوقِ و نقصِهِ و افتِقارِهِ إلى الكمال , فكانَ أنْ منَّ عليهِ و جعلَ لهُ من ضلعِهِ حواءَ سَكَناً و أمناً يكتمِلُ بهِ نقصُه , و يُجبَرُ بهِ ضعفُه .. أُعطِيَةً مِنَ الكريمِ سخيّة , و مِنّةً جميلةً و هديّة .
قيس و ليلى , عنترة و عبلة , جميل و بُثينة , نزار و بلقيس , جبران و مي , القدّيس فالنتاين و ابنة السجّان , نجومٌ في سماءِ العشقِ لا تُعدُّ و لا تُحصَى , شعَّ بعضُها حيناً فطافَ ذِكــــــــــرُهُ أصقاعَ الأرضِ و تناقَلَتهُ ألسِنَةُ البشر , إلى أن غيّبَهُ الزمانُ أخيراً فاضمَحَلّ و اندَثَر .
ابتُلِينا بإعلامٍ مُسيَّسٍ ما بَرِحَ يحكُمُنا بقاماتٍ و شُيوخٍ ذاتِ ذقونٍ طويلةٍ و لهجاتٍ شديدةٍ تُقدِّمُ الحضرةَ النبويّةَ جافّةً , قاسيةً , مُتجبّرَةً لا تعي مِنَ الدُنيا إلّا الحربَ و السيفَ و تطبيقَ الحدودِ . لم يُقدّمُوهُ لنا شَمساً عظيمةً شدِيدَةَ التوهُّجِ في فضاءِ الهوى و الهيام . لم يُصوِّروهُ لنا نجماً هائِلاً أنارَ دهراً فمَلأَ نورُهُ الأكوانَ و ما وَسِعَتهُ كُتُبٌ و لا شخَّصَتهُ رسُوماتٌ و لا صور . ما إنْ يخفِقَ قلبٌ و تبدأَ بِذرةُ الحُبِّ في النُموِّ داخِلَهُ حتى يسمَعَ بجنونِ قيسٍ , و شجاعةِ عنترة , و لا مَفَرَّ مِنْ أنْ تُداعِبَ وجدانَهُ أشعارُ نِزار , و أنْ يُسافِرَ مع رسائِلِ جبران , و الواقِعُ يفرِضُ عليهِ أنْ يتلوَّنَ بالأحمَرِ في ذكرى فالنتاين نتيجةً لجهلٍ يأسرُنا و غشاوةٍ تُعمينا . آنَ الأوانُ اليومَ لتِلكَ الغشاوةِ أن تُزاح , و آنَ لنا أن نتّخِذَ أيقونةً في الحُبّ ليس كمِثلها أحد , رمزاً في العِشقِ لو تخلّقنا بأخلاقِهِ لغرقت بيوتُنا أمناً و فرحاً و بهجة . إنّهُ سيِّدُ العُشّاقِ و خيرُ المُتحابّينَ " محمّدٌ " صلواتُ ربي و سلامُهُ عليه .
ما إنْ يقُومَ الحُبُّ في القلبِ فلا لُغةَ إلّا لُغةُ الوفاءِ , و من أرادَ أن يتعلّمَ الوفاءَ فلينظُر في حياةِ الحبيبِ ﷺ بعيداً عن الرسالةِ و النُّبوّة , قبلَ القُوّةِ و السيادة و التشريف , وقعَ الشابُ القُرَشِيُّ الفقير في حُبِّ سيدةِ النساءِ العظيمة " خديجة " , و لو دُرِسَتْ قِصَصُ الحُبِّ و تجاربُهُ مُذ بَعَثَ اللّهُ آدم عليهِ السلام حتى يومِنا هذا لما وُجِدَ حُبٌّ أعظمُ من حُبِّ مُحمّدٍ ﷺ لخديجة . و من كمِثلِ خديجةٍ و مُحمّد ﷺ !
- أعمَقُ الارتباطاتِ بين البشرِ تظهَرُ حينَ الألمِ و الخوف , لا يُفكِّرُ الإنسانُ في حالةِ الخوف , بل تقودُهُ مشاعِرُهُ و يُسيِّرُهُ حَدسُهُ إلى مَصدَرِ الأمنِ الأكبر و الراحةِ الأمثل , يبكي الطِّفلُ جَزَعاً فيركُضُ إلى حُضنِ أُمِّهِ , يرتعِدُ الشابُ هلعاً من مُصيبةٍ حلَّت بهِ فيُسارِعُ إلى والدهِ يلوذُ به . يجري كُلُّ مِنّا إلى محبوبِهِ ينشُدُ الأمنَ و الأمان كما فرَّ مُحمّدٌ ﷺ من الجبلِ الصغيرِ - جبلُ ثور - إلى الجبلِ الكبيرِ - خديجة - يقولُ : دثِّروني دثِّروني , زمِّلُوني زمِّلوني .
- " البُعدُ يُميتُ الحُبَّ " , " الموتُ لا يأخُذُ الأجسادَ فقط بل يأخُذُ الحُبّ من القلوبِ أيضاً ! ".
مقولاتٌ تتردّدُ على أسماعِنا كثيراً , و لو بحثنا عن جوابٍ شافٍ لمِثلِ هذهِ العباراتِ لقرأنا عن أُمِّ المُؤمنينَ سيّدتِنا عائشة رضي اللّهُ عنها - و هِيَ التي تزوّجَتهُ بعد أن ماتت خديجة , صارتْ تُراباً , لم تَرَها قط - لكنّها كانت تقولُ : و اللّهِ ما غِرتُ مِن أحدٍ مِن زوجاتِ النبي ﷺ إلّا مِن ( خديجة ) لكَثرَةِ ذِكرِهِ لها , حتّى أنّ امرأةً طرقتْ علينا البابَ مرّةً دون أن تُفصِحَ عن هُوّيّتِها , تسألُ عن رسولِ الله ﷺ , رنّ في أُذنِهِ الشريفَةِ جَرْسُ صوتِ هالة - أُختِ خديجة - ليعُودَ للذاكِرَةِ صوتُ الحبيبةِ , فيُنادي رسولُ اللّهِ ﷺ : اللّهُمَ هالة , اللّهُمّ هالة .
داعبتهُ عائشةُ يوماً أنْ قالتْ : ما تُريدُ مِنِ امرأةٍ عجوزٍ قد أبدَلَكَ اللّهُ خيراً منها - تقصِدُ نفسها - ! , فانتصبَتْ مُقدِّمةُ شعرِ النبي ﷺ غضباً ليقول : لا و اللّه ما أبدلني اللّهُ خيراً منها , لقد آمنت بي , و واستني بمالها , و صدّقتني حينَ كذّبني الناس و فعلتْ و فعلتْ .
- من لم يدري عن وفاءِ مُحمّدٍ ﷺ لخديجة , و لم يُحِط بذِكراها لديه ليس أهلاً للحُبّ و لا يصلُحُ له . دَخَلَ الفاتِحُ العظيمُ , أميرُ الجيشِ المِغوارُ مَكّةَ فَرِحاً بالفتحِ الأكبر , مُنتَشِياً بالدخولِ إلى العُمرة , سيكونُ - غالِباً - لديهِ نَشوةُ النبيّ الذي فازَ و قدّمَ الانتصارَ إلى الأُمّة , لكنّهُ - رغمَ عظمة إنجازِهِ - لم يكُن مُنشَغِلاً بذلِكَ كُلّه عن الوفاءِ لمن تملّكتِ القلبَ و العقلَ و الروح , دخلَ الصحابَةُ مَكّة , و راحَ كُلٌّ إلى بيتِهِ و أهله , إلّا " مُحمّد صلواتُ ربّي و سلامُهُ عليه " ذهبَ يبحثُ عن قبرِ خديجة , ذهبَ إلى حيثُ يجِدُ الطُمأنينة , حيثُ السكينةُ و الراحة . انصرفَ الناسُ جميعُهُم و بقِيَ الحبيبُ ﷺ عِندَ ذلك القبرِ ينصُبُ خيمتهُ ليستَريحَ إلى جوارِها .
أيُوجدُ بعد هذا الحُبّ من حُب ! , أمِثلَ هذا الوفاءِ وَفاء ؟!
- زينَبُ بِنتُ مُحمّد صلّى اللّهُ على مُحمّد , أحبّت أبا العاصِ ابن الربيع ثم أسلَمَت و لم يُسلِم أبو العاص , و الكلامُ هُنا لكُلِّ أبٍ , لكُلّ أخٍ , لكُلّ رجل . هاجَرَ النبيُّ ﷺ و ابنَتُهُ لم تُهاجِر معه , نَعَم بِنتُ النبيّ ﷺ لم تُهاجر , آثَرَتِ البقاءَ مع زوجها لأنّها تُؤمِنُ أنَّ أباها يُقدِّسُ الحُبّ و يحترمه , لن يُجبِرَهَا على الهِجرة و لو أتى الأمر النّبويُّ لهاجرت , و لو أُمِرَت بالطّلاقِ و الزواجِ من سِواهُ لفعلتْ , لكنّ لها أباً يُقدِّسُ الحُبّ , و يعلَمُ أنّها لن تنجَحَ مع أيٍّ كان كما نجحت مع أبي العاص . خرجت زينبُ مُهاجرةً بعد حين فخرج أبو العاص احتراماً للحُبِّ و إن كانَ مُؤمناً بكُفره , خرج يُحامِيها حتى وَصَلتِ المدينةَ المنوّرة .
قامَتْ غزوةُ بدر , فأُسِرَ أبو العاصِ بُنُ الربيع و إذا بزينَبَ تركُضُ إلى الأسرى تحمِلُ عِقداً ورثتهُ من أُمِّها خديجة , تُرسلُ إلى مُحمّد ﷺ - النبيُّ الذي يُقدِّسُ الحُب - : إنّي أُحِبُّه كما تُحِبُّ خديجة , أُدرِكُ أنّهُ كافر لكنّي أُحِبُّه . أجابَ و عينُهُ على القلادة , كيفَ لا و هي من ذكرياتِ حبيبَةِ قلبه : إنْ شِئتُم أطلَقتُم لها أسيرها و ردَدْتُم عليها قلادتها .
- خرجَ أبو العاصِ في تجارةٍ إلى الشام , فتَاهَ حِينَ عودَتِهِ إلى مكّة , و إذ بِهِ يرى الصحابةَ يُطارِدُونَه . إلى أين فرّ ؟ , إلى أينَ ذهب ؟ .. " فرَرْتُ مِنكَ إِليك " , فرّ إلى بيت النبي ﷺ و اختبأ فيهِ عِندَ زينب طيلة الليل , و لما جاءت صلاةُ الفجر , دخلت زينبُ المسجِدَ و هَتَفَتْ بالناس - أثناء الصلاة - , إني أَجرتُ أبا العاص ابنَ الربيع , أينَ احترامُها للنبوّة ؟ , أين احترامُهَا للصلاة ؟ , للصحابة ؟ .
التَفَتَ الوالدُ عليهِ الصلاةُ و السلام , أعَاتَبَهَا ؟! , أغَضِبَ مِنها ؟! . لا و اللّه , لَإِنْ حرَّكَهَا الحُبُّ فهُوَ سيِّدُ المُحبّين , بل قال : هل أجرتُمْ مَنْ أَجارَت ؟ , فقالَ الصحابَةُ : قد أجرنا من أجارت .
- الحُبُّ اهتمام .. و لا شيءَ يُوقِدُ الحُبّ في الفُؤادِ و يُشعِلُهُ كما يفعَلُ الاهتمام . من أجمَلِ صورِ الاهتمام حينَ كان الصحابةُ و النبي ﷺ عائِدِينَ إلى المدينةِ المنوّرة و الطريقُ طويلةٌ , و الشمسُ حارّة , لا سيارَةً و لا طائرة , و مع هذا التعبِ أرادَ التخفيفَ عن أُمِّنا عائشة , فأمَرَ الصحابَةَ بالتقدُّم و التَفَتَ إليها و هي على بعيرِها و قال : أتُسابِقيني ؟ , فتُسابِقُهُ و تسبِقُه , ثُمّ تُسابِقُهُ و يسبِقُها , فيَضرِبُ بين كتِفَيها و يقول : هذهِ بتِلك !
انظُر إلى هذا النبيّ العظيمِ ,لِمَ لا يُعلّمُ في مدارِسِنا خُلُقُه , لِمَ يُقدّمُ لنا مُحذّراً من النارِ داعِياً إلى الجنّةِ فقط , ألم يُعرَف عنهُ حُسنُ خُلُقِهِ قبلِ نُبوّتِه . أليسَ نَشرُ خُلُقِ مُحمّد , و أَدَبِ مُحمّد , و وفاءِ مُحمّد , و أُسلُوبِ حُبِّ مُحمّد أولى من تحقيرِ فالنتاين و سبّهِ و من يحتَفِلُ في ذِكراه ! .
قَدِّمُوهُ لنا نبيّاً , إنسانَاً , راقِيَاً , رقيقاً , يحتَرِمُ الحُبّ و يُقدِّسُه , لتَعشَقهُ و تُحِبَّهُ بناتُ الكونِ أجمَعُهُم .
-
محمد صبحي خطاب - Suphi Hatipoğluشابٌ مُهتمٌ بأوضاعِ العالمين العربيّ و الإسلاميّ .