حين تفسد صغائر الأمور نجاحاتك
قوائم التدقيق
نشر في 22 مارس 2017 وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .
أرادت القوّات الجوّيّة الأمريكيّة في ثلاثينيّات القرن الماضي، تطوير جيل جديد من قاذفات القنابل، فعمدت إلى تنظيم منافسة بين شركات تصنيع الطَّائرات. لم تفوّتْ كُبرى الشّركات هذه الفرصة، فجعلت كلّ منها توظِّفُ جميع إمكانيَّاتها، وتبذل قصارى جهدها، لإنتاج الطَّائرة الأفضل وفق المعايير المطلوبة. لكنَّ شركة (بوينغ) لم تترك أيَّة فرصة لأحد! لقد حطَّمت آمال جميع منافساتها، وجعلت سعيهم هباءاً منثوراً. كيف لا وطائِرتها من طراز ٢٢٩ الَّتي أنتجتها قادرة على حمل ٥ أضعاف حمولة القنابل المطلوبة، كما أنَّها تقطع ضعفي المسافة الَّتي كانت سابقاتها تقطعها وبسرعة أكبر. إنَّها "القلعة الطَّيَّارة" كما وصفها الصَّحفيُّ (ريتشارد وليامز) الَّذي كان شاهداً على تحليقها أثناء المراحل التَّجريبيّة.
جاء يوم الفصل في ٣٠ من شهر أكتوبر / تشرين الأول عام ١٩٣٥، وانطلقت الطائرة من طراز ٢٢٩ في رحلتها التَّجريبيّة الأخيرة؛ فحلَّقت بمحركاتها الأربع، وجناحين يساوي طول كلٍّ منهما ٣٢ متراً، وبطاقم مؤلَّف من ٥ طيَّارين. ما أنْ وصلتْ "القلعة الطَّيَّارة" لارتفاع ٣٠٠ قدم حتَّى تعثَّرت واختلَّ توازنها، ثم تهاوت سريعاً لترتطم بالأرض. أودى الحدث الكارثي بحياة أفراد الطَّاقم، وخسرت شركة (بوينغ) على إثره المنافسة، وانهارت سمعتُها حتَّى وصلت إلى شفير الإفلاس.
بدأت الشَّركة في التَّحقيق للكشف عن أسباب الحادث، فتبيَّن لها أنَّ الحالة التِّقنيَّة للطَّائرة سليمة تماماً، وأن الخطأ القاتل إنَّما كان خطأ كابتن الطائرة حين نسي إغلاق قفل الرَّياح وهو نظام أمان يحافظ على توازن الطائرة ضد التَّيارات الهوائية. وتجنباً لتكرار الخطأ، قامت الشَّركة بإعداد قوائم تدقيق، وزّعتها على جميع الطَّيَّارين ليقوموا بمراجعتها قبل التَّحليق. لم يخطر في بال أحد أنَّ حلاً بسيطاً كهذا سيكون كافياً. وعادت الطائرات من طراز 229 للتحليق من جديد وقطعت في مجموع سنوات خدمتها مسافة 2.88 مليون كم دون أيَّ حادث.
كم من بارعٍ متميِّز أفسد عليه نسيانه بعض التَّفاصيل الصَّغيرة، أثناء إتمامِ عمله، نشوةً السعادة بالنّجاح؛ كالطَّاهي ينسى إضافة الملح إلى ألذِّ أطباقه، أو كالمصور المحترف ينسى حمل شريحة الذَّاكرة الإضافيَّة وهو ذاهب لتوثيق حدث مهمٍّ، أو كالطّالب المتفوِّق يغفل عن تحويل وحدات القياس في مادة الفيزياء على ورقة الامتحان.. ألم يحدث أنْ نسيتَ محفظة نقودك أو مفاتيح منزلك وأنت خارج على عجل فأفسد ذلك عليك يومك؟
يقوم صديقي كامل بطبيعة عمله بتحرير النَّصوص، ومراجعتها قبل النشر أو الطباعة. وحدث معه أكثر من مرَّة أنْ غفل عن توحيد العملات المالية في مادة النشر، أو توحيد الأرقام داخل النصوص بين اللاتينية والهندية، أو نسي علامات الترقيم، فنغصت عليه هذه الهفوات فرحته بإنجاز العمل. حلَّ كامل هذه المعضلة بإنشاءِ قائمة تدقيق يقوم بمراجعتها عند كلِّ نصِّ قبل نشره أو طباعته.
1. وحد العملات.
2. وحد الصيغ.
3. راجع النص قواعدياً.
4. راجع النص إملائياً.
5. ....
ثم إنَّه يقوم بقراءة النص لمراجعة كل منها على حدة، وبدأ بتطبيق ذلك على سائر أعماله حتى اليومية منها.
وليس من الضروري أن تكون هذه القوائم مكتوبة او مرئيّة، بل يمكن أن تكون افتراضيّة عقليّة كأنْ تعوِّد نفسكَ على سؤالها قبل الخروج من المنزل:
1. هل أخذت المفاتيح؟
2. هل الحقيبة جاهزة؟
3. هل المحفظة في جيبي؟
4. ....
إنَّ العصمةَ منفيَّةٌ عنَّا نحن بني البشر، لكنَّنا مطالبون بالاجتهاد والإتقان في العمل، والسعي وراء الكمال، أم أنَّك ترى غيرَ ذلك؟
-
Hussam Hamzehقصاص | فلاح في حقل علم الاجتماع | أعشق الترحال