في عزاء السيد حشمت أبو غيث. جلستْ أرملته الجميلة ثريا, بثوبها الأسود الفاخر وهي تضع رجلا على رجل, وقد تزيّنتْ بكل ما وجدته في صندوق ذهبها. وبكبريائها المعهود كانت تمد يدها ببرود لكل من يريد أن يصافحها مُعزّيا, دون أن تُكلّف نفسها عناء الوقوف أو حتى قول كلمة شكر.
إنها ليست حزينة لموت حشمت. مات وهو في الثالثة والسبعين بعد أن عاش الدنيا بكل متعها, فمنذ ولادته وفي فمه أفخر أنواع الشوكولاتة... ليس مثلها هي, وُلدتْ لعائلة فقيرة وفي فمها أفخر أنواع المُر.
لقد استغلّتْ جمالها الفتّان لتسحره. فانتقلت من منصب سكرتيرته إلى منصب زوجته الثانية. لم تهتم أبدا بأنه متزوج ولديه أولاد, ولم تكترث لكونه يكبرها بعشرين عاما. كل ما كان يهمّها هو حياة الثراء وحسب.
بعد زواجه منها بسنة ماتت زوجته الأولى في حسرتها, فرفع عليه أولاده قضية حجر, لاستهتاره في تبذير الأموال على تحفته الجديدة وانتقاما لوالدتهم. وبعد معارك طويلة في المحاكم خسر الأولاد القضية, وانتقم حشمت من أولاده العاقين بأن كتب نصف ثروته لثريا.
هي الآن أرملة خمسينيّة ثريّة جدا. لكنها ليست سعيدة. فقلبها ما زال شابا, لم يذق شيئا من نشوة الحب وسحره.
لا تعرف لماذا تذكرت عدنان, حبها الأول في أيام الشباب. إنّه ابن الجيران الذي كان يسحرها بوسامته وطريقة مشيته. إنه الرجل الوحيد الذي عرفت من خلاله كيف يكون الحب.
لم لا تتحرى أمره! فسواء كان أعزبا أو أرملا أو مطلقا أو حتى متزوجا, فلا حالة من هذه الحالات ستوقفها عما تريد الحصول عليه.
بعد فترة, عرفت من مصادر خاصة أنه مازال يلهو في دنيا العزوبية, عاطل عن العمل ويعيش بالدّين أوعلى حساب النساء اللاتي يعدهن بالزواج ولا يفعل. يقضي وقته بلعب الورق مع أصحابه وتدخين الشيشة. لم تستطع مداراة صدمتها من الذي سمعته. أيعقل أن يشوّه الواقع أحلى صور خيالاتنا بهذا الشكل!!
ومع ذلك لم تستطع مغالبة فضولها بأن تتحقق بنفسها مما سمعته. اتجهت بسيارتها الفخمة التي يقودها سائق بزيًّ أنيق إلى حارة قديمة مزدحمة, حيث ترعرت في صغرها. نظرت من شباك السيارة للأطفال الذين يلعبون الكرة في منتصف الشارع وهم حفاة, وتذكرت كيف كانت تراقب عدنان من شباك بيتهم وهو يلعب الكرة مع شباب الحارة. عدنان الذي يكبرها بسنتين هو حبها الرجولي الأول... لم يكن لها أب ولا أخ... لذا فقد انصهر رجال العالم وقتها كلهم في عدنان, فتى الحارة الجذاب.
طرقتْ بابه..
ففتح الباب وجه كريه وغاضب.
نظرتْ إلى الوجه الأسمر الذي بانت فيه التجاعيد, وصلعته التي غطت ثلاثة أرباع رأسه, وكرشه الهلامي الكبير, فلم يسرّها ما رأت. أهذا هو حبيب القلب الأول! أهذا هو الذي كانت تقضي الساعات الطوال على شباك بيتهم لترقب تحركاته!
بصوت مصدوم قالت: "مرحبا. هل تذكرني يا عدنان؟"
نظر إليها بعيون نصف مفتوحة ثم حكّ ذراعه التي غطاها وشم كبير لجمجمة تدخّن غليونا. فتح فمه ليتكلم فخرجت منه رائحة خانقة.
قال بأسلوب همجيّ:"هل تعرفيني يا خالة؟"
شعرت بالغضب الممزوج بالنفور من هذا الإنسان الشبيه بغول الحكايات.
نظرت إليه بحزن, ثمّ قالت وهي تستعد للمغادرة: "لا أظن!"
-
نور جاسماسمي نور. عراقية الأصل, أردنية المنشأ, أمريكية الإقامة, وهذا ساعدني كثيرا في التعرف على الثقافات المختلفة وإقامة الصداقات من كل مكان في العالم. أحب الكتابة/ أحلام اليقظة/الرسم/ السفر/ التمثيل/ الغناء/ الأفلام/ التأمل/ وال ...