في انتظار موعد الركوب على متن الطائرة المتوجهة إلى تركيا، قصد سامي قاعة المسافرين وجلس على مقعد بجانب فتاة منهمكة في قراءة كتاب حرب كوسوفو The Kosovo War. بادرها بالتحية فردتها عليه بابتسامة قائلة له "هل أنت أمريكي؟"،

سامي: نعم وكيف عرفت؟

الفتاة: لهجتك تشي بك. إسمي بريشتينا من لندن. وأنت ما اسمك؟

سامي: إسمي سامي من لوس أنجلوس. ما سر اهتمامك بحرب كوسوفو؟

بريشتينا: لأن إسمي عاصمة كوسوفو وتعني بالألبانية المسبح.

سامي: هل أفهم من ذلك أن لك جدورا ألبانية؟

بريشتينا: جدوري ألبانية وفروعي كوسوفارية وثماري أنجليزية.

سامي: هو لغز إذن. فهلا أطلعتني عليه إن لم يكن عندك مانع.

بريشتينا: في سنة 1998م إندلعت الحرب في إقليم كوسوفو بين أغلبية مسلمة وأقلية مسيحية أرتدوكسية صربية. الأغلبية منزوعة السلاح ومضطهدة من طرف الأقلية المدججة بكل أنواع الأسلحة ومدعمة من طرف الحكم المركزي في صربيا.

قبل الحرب، أقدم حكام صربيا على طمس الهوية الألبانية المسلمة في إقليم كوسوفو. فطردوا كل الألبان العاملين في سلك الوظيفة العمومية، وفرضوا اللغة الصربية كلغة أساسية ووحيدة للتمدرس. تعرُّض المسلمين الكوسوفار لمثل هذه المضايقات جعلتهم يدرسون أبناءهم في بيوت سرية أعدت لذلك، يعمل بها المدرسون المطرودون من سلك التعليم العمومي لا لشئ إلا لأنهم مسلمون. لم يكتف الصربيون بذلك بل دبروا لتهجير المسلمين إلى البلدان المجاورة والاستيلاء على أراضيهم وديارهم التي طالما اعتبروها ملكا لهم واغتصبت منهم منذ الاستعمار العثماني. فقطعوا عنهم الماء والكهرباء، وواجهوا احتجاجاتهم بالعنف والقتل. ثم بدأ الجيش الصربي في تدنيس مساجدهم وتحطيمها، وإخراج الكوسوفار من دياهم وإشعال النيران فيها، وقتل الرجال والأطفال ودفنهم في مقابر جماعية، وبقر بطون الحوامل من النساء وقتلهن، واغتصاب أخريات وتدنيس أعراضهن أمام مرآى ومسمع المجتمع الدولي الذي لم يحرك ساكنا حتى قتل أكثر من 13000 من الكوسوفار وجرح مئات الآلاف وهجر منهم قسرا ما يزيد عن 800000 فرد. هنالك تدخلت قوات الناتو في أواخر سنة 1999م، فقصفت الجيش الصربي بالصواريخ فأثنته في مدة لا تزيد عن عشرة أيام عن جرائمه المرتكبة في حق شعب ما زال يعاني إلى يومنا هذا من ويلات حرب استمرت أكثر من سنة ونصف السنة، حرب تركت جروحا لا تلتئم سواء على المستوى الجسماني أو النفسي أو الإجتماعي أو الإقتصادي.

إنتهى العدوان الصربي على كوسوفو وابتدأت معاناة النساء المغتصبات اللواتي يحملن جرحا يلتهم روحهن يوما بعد يوم ويجعلهن تخجلن من أنفسهن أمام عائلاتهن ومجتمعهن. جرح تحملن آثاره طوال حياتهن. منهن من وضعن إناثا أو ذكورا روحهم ملوثة بمورثات مجرمين صربيين.

كنت أنا إحداهن شاهدة على فظاعة اغتصاب امرأة مسلمة حملتني كَرها ووضعتني كَرها وروحها محطمة ونفسها مكتئبة، فلم تطق أن تحتفظ بي، فسلمتني لامرأة وزوجها كانا يعملان مراسلين لصحيفة بريطانية عسى الأيام تجبر خاطرها فتنسيها جريمة رجل قلبه كالحجارة أو أشد قسوة. لقد حرمت من رعاية الأب وحنان الأم البيولوجية ومن عبق أرض أجدادي. وعشت في لندن في رعاية زوجين لم يقصرا معي في شئ، وسموني بريشتينا حتى لا أفقد هويتي الكوسوفارية.

الحقيقة أنني لا أحمل أية هوية ولا أنتمي بالوراثة لأية قبيلة ولا شعب، ولا أعتنق أية ديانة، فالمغتصب مسيحي أرتدوكسي والمغتصبة مسلمة وترعرعت في كنف عائلة ملحدة، فمن أكون أنا؟

كان سامي ينصت لبريشتينا بتمعن ويقول في خاطره إنني أعاني أقل منها لأن لي أبوين بيولوجيين عشت مهعما وتلقيت منهما كل الحنان والرعاية اللازمين، ولي شعب أنتمي إليه. قال لها: إنني أشترك معك في الفراغ الروحي والديني وهذا سر رحلتي.

فلما قص عليها قصته، أدركت أن كل إنسان في الدنيا قصة متفردة، وأن حاجيات الناس و أولوياتهم في الحياة ليست متشابهة وما يسعد هذا لا يسعد ذاك بالضرورة.