أقبل أسامة على أمه ليرى فيها شيئا مختلفا، كان وجهها أبيضا مثل الثلج وعيناها ظهرتا أكبر من المعتاد. قالت له وهما يحتسيان كوب قهوة:
- عندما رحل عني أبوك وأنا حامل بك، اسودت الدنيا في وجهي، لمت الكون كله، لم أكن أرغب في أن اعترف بأن الخطأ كان خطئي منذ البداية. ثم أتيتَ لهذه الحياة وعشتها بكل ما فيها. أدري أني لم أكن يوما أما حنونا، كنت في صغرك أنتقم لكرامتي، لم أكن أعلم أنني كنت أنتقم من نفسي. واليوم أثبتت لي أنك أحسن مني ومن أبيك. أنا فخورة بك. وسأظل فخورة بك. أوعدني أن تزورني في قبري.
- ما الخطب يا أمي؟ لما هذا الخطاب؟
نظرت إلى ابنها بتمعن، وضعت يدها الخشنة على وجهه كأنها تودعه... ثم أدارت ظهرها وراحت تحضر فنجان القهوة.
- تعلم أن صديقك نزار عاد من الخارج؟ عاد بوجه آخر لم نعهده من قبل.
- كيف بوجه آخر؟
- وجه الشيطان الذي يزين لك كل شيء، وعندما تقع في شركه ينكر أنك كنت تصاحبه. لطالما توجست منه ومن طموحه الجامح. كنت أقرأ في عينيه الغدر.
- أعلم، لم أره منذ رحل من هنا.
- لا تدع ذكريات صداقتكما تؤثر على مبادئك، ولا تنس أنك قاض.
- أمي، كنت دائما واضحة معي، لما تكلمينني ألغازا؟
- ليست ألغازا، كل شيء سيتضح لك من منبرك.
رحل أسامة عن أمه في آخر النهار، أشارت له من الشرفة بابتسامة لم يرى مثلها من قبل، بادلها الابتسامة. عاد للحي في اليوم الموالي ليرافقها لمثواها الأخير.
كانت جنازة أم أسامة مهيبة، الكل جاء ليعزي القاضي ابن حارة الصعاليك. وكيف لصعلوك أن يصبح قاضيا. الجميع كان يتساءل، كانوا ينظرون إليه على أنه الشاب الذي استطاع أن ينشل نفسه بنفسه من براثن الفقر في حارة ما عاد أهلها يفرقون بين ليلهم ونهارهم. كان يذكرهم بكل ما لم يستطيعوا فعله، لذلك كانت مشاعرهم تجاهه مزيجا من المحبة والافتخار والكراهية. كان أسامة واقفا على ناصية باب البيت يتلقى التعازي إلى أن صافحته يد مصافحة يعرفها جيدا، تطلع إلى وجه المصافح ورمقه مطولا كمن لم يصدق ما يرى، إنه رفيق عمره نزار.
جاء نزار مرفقا بحاشيته، دخل الحارة بما يشبه زوبعة رمل في صحراء قلوب دمرتها مصاعب الحياة. كان أهل الحارة يسمعون بسيرته طوال فترة غيابه لكنهم لم يكونوا يصدقون. اليوم رأوا بأعينهم ما كان يحكى لهم. عاد نزار غنيا، خرج من بئر كان مصيره فيها حتميا إلى دنيا لم يكن يعرف بوجودها من قبل. كل الطرق كانت مشروعة ليبقي على ثروته التي كونها على أنقاض الشرف والقيم.
في نهاية اليوم ومع أول غروب بطعم الموت، وقف أسامة على الشرفة مشعلا سيجارة أحسها تحرق أنفاسه. تذكر أن أمه لم تكن حنونا يوما، لكنه بالرغم من ذلك يشعر باليتم. أقبل نزار على صديقه وأشعل بدوره سيجارة:
- كيف حالك يا صديقي،
- كما ترى، زار الموت بيتنا. اختفى آخر ما كان يربطني بهذه الحارة اللعينة. وأنت؟ يحكى أنك أصبحت غنيا. لماذا عدت؟
- عدت لأستقر هنا. لم أتعود على عاداتهم هناك. كل شيء مزيف وبلا روح.
نظر أسامة إلى صديقه بتعجب، لم يعهده على هذه الحال، فلسفيا وعميقا في حديثه. كان في قرارة نفسه يعلم أنه رجع لشيء ما لم ولن يفصح عنه.
- كيف أصبحت غنيا؟ وما الذي جاء بك للحارة اليوم؟ لا تقل لي أنك جئت لتعزيني فقط. عندما قررت الرحيل لم تودعني حتى ثم انقطعت أخبارك. وها أنت اليوم تعود بسياراتك الفارهة ورجال يحمونك. ما الذي تخفيه؟
- لا أخفي شيئا، الكل سيعرف في الوقت المناسب. كل ما عليك أن تعلمه الآن هو أنني جئت لأستثمر هنا. وعلمت أنك أصبحت قاضيا متخصصا بالأموال العامة، هذا يعني أنك على علم بكل ما يدور في كواليس القضايا. ربما أقصدك لتسهيل شيء ما.
- لا أظن أني سأستطيع مساعدتك، لست من القضاة الذين يقضون المصالح. أنا اخترت هذه المهنة وأمارسها بضمير وشرف.
- هل لديك أخبار عن نرجس؟
- لا زلت تتذكرها؟
- لم أنسها يوما.
- نرجس الآن مهندسة في واحدة من أكبر الشركات بالبلاد، تدير مشاريع كبرى.
- سعدت برؤياك بعد كل هذه السنين.
- وأنا كذلك، ألقاك في ظروف أفضل.
أيقن أسامة أن من وراء اغتناء أعز أصدقائه سرا لا يحب أن يعرفه. كان يفضل الاحتفاظ بذكرى صداقتهما السابقة كما هي، لم يكن ليتحمل أي شائبة تمسها.
********************************************************************
بدأ نزار في إرساء أولى مشاريعه في المدينة ليغطي بمعظمها عن نشاطه الحقيقي: تهريب المجوهرات النادرة والمتاجرة في الأسلحة. وكانت أولى مشاريعه شركة بناء وتأسيس ضخمة. لم يكن يأبه أحد لمصدر أمواله بقدر ما كان يهمهم التقرب منه. صيته جعله يكون علاقات مقربة مع أسمى الموظفين في الدولة. بدأ بذلك يسهل صفقاته وينافس الشركات الكبرى المتواجدة في السوق منذ أن كان طفلا، إلى أن تمكن من ربح صفقة لم يفترض أن تكون من نصيبه لولا تآمر إحدى المسؤولين الكبار. كانت الشركة التي تشتغل بها نرجس، حبيبته السابقة.
كانت نرجس قد طوت صفحة حب لم يجلب لها سوى الأسى، عندما علمت بحال نزار الجديدة تذكرت آخر محادثة بينهما. كانت متأكدة من أن طموحه الجامح سيكون سبب هلاكه يوما ما. لم تتقبل فكرة خسارة الصفقة التي كانت تديرها، وكانت موقنة أن نزار حصل عليها بالتحايل والمراوغة، لكن لم يكن لديها دليل لتقدمه إن هي قررت التحدث عن الأمر. قررت أن تبحث عن دليل إدانته في صمت.
كانت نرجس تعرف إحدى الصحفيين الاستقصائيين في مجال المال والأعمال، اتفقت معه على فضح الطرق الملتوية التي يلجأ إليها نزار على أن تقدم له دليلا دامغا. حاولت بشتى الوسائل أن تبحث عن الدليل، قصدت إحدى الموظفين بالشركة المنافسة، طلبت مقابلات عدة مع مسؤولين في الدولة لكنها فشلت. لم يبق أمامها سوى طريقة وحيدة لمعرفة الحقيقية وهي أن تقصد نزار نفسه.
كان في انتظارها بشركته، عندما رآها بعد طول غياب، أصبح كالطفل في حضن أمه. جلست نرجس على الكرسي وكأنها تجلس على الشوك، وبدأت المحادثة بينهما:
- تبدين رائعة، كأول يوم رأيتك فيه. مضى الكثير من الوقت ولم يتغير فيك شيء سوى نظراتك اللائمة هاته،
- وماذا كنت تتوقع، أن أرتمي في حضنك وأبكي؟
- لا لم أكن أتوقع ذلك. أعلم أنك طويت آخر صفحة من قصتنا منذ زمن، أعلم كذلك أنك لا تتفقين مع طريقتي في العمل وتعتبرينها لا أخلاقية،
- تعترف إذن بأعمالك اللاأخلاقية!
- عزيزتي، أنا لم أنكر يوما، الجميع يعلم فيما أعمل لكنهم ساكتون لأنهم مستفيدون. والأدهى من هذا أنهم يساعدونني في التغطية على نشاطاتي غير المشروعة. المال يشتري كل شيء في أيامنا هذه، حتى الذمم.
- أصحاب القلوب الضعيفة هم من يبيعون أنفسهم بالمال،
- لقد عدتُ يا نرجس، عدتُ ولا شي سيمنعني من الاستمرار فيما بدأته. سأبرهن للجميع أن ابن حي الصعاليك لم يعد صعلوكاً، وأصبح سيداً،
- صدقني، صعلوك يأبى أن يبيع نفسه من أجل المال، أفضل من سيد يعبد المال. أنت عبد يا نزار... عبد ذليل، ولن تكون يوما سيداً.
قررت نرجس منذ ذلك اليوم أن تتتبعه أينما حل، حتى رأته يدخل مخزنا مهجورا منذ سنين. انتظرت غير بعيد حتى غادر لتكتشف أن به أسلحة مهربة. التقطت صورا وبعثتها في الحين إلى الصحفي.
********************************************************************
وجد نزار نفسه أمام واحدة من أكبر قضايا التهريب وغسيل الأموال. ليقف في المحكمة أمام صديق عمره القاضي...
تلقى أسامة العديد من العروض ليحكم لصالح صديقه لكنه رفض. بعد النطق بالحكم خرج كل واحد منهما من باب مختلف، الأول ليكمل في طريق الحق الذي اختاره رغم صعوبته، والثاني إلى سجن قاده إليه حمقه.
في ليلة النطق بالحكم، قُتل أسامة ونرجس معا ... ليعلم الجميع أن نزار مجرد بيدق... في لعبة شطرنج لا منتهية.