الضفة التي يستحيل العبور إليها /٢/
من رواية " الضفة التي يستحيل العبور إليها".
نشر في 16 يناير 2022 .
كنتُ أجري في الشارع أراقبُ وجوه المارة، كان من الصعب جداً أن أرى ملامحهم تلك تحت المظلات والمطر يهطلُ بشدة. وجدتُ نفسي أصرخ باسمها كالمجنون، لم يكن أحد يسمع، بل كانوا يسمعون لكن لم يكن أحدهم يحملُ اسمك.
مرت سنوات، كنتُ في كل مرةٍ أتعمدُ المرور فيها من ذات المكان لأرى طيفك من بعيد، تقفين هناك عند الباب تحملين في يدك وردة بيضاء، تبتسمين لي ثم تلوحين لتمضي ويختفي أثرك بين المارة.
كنتُ أجري خلفكِ كالمجنون أطارد ظلكِ، وعندما أعود يائساً إلى المنزل، أجدك تجلسين هناك أمام النافذة، تضعين أحد ريشة الرسم في فمك، وأخرى تحملُ خصلات شعرك المبعثرة، وصوت الموسيقا الصاخب يضجُ في المكان. تلك النظرة المشتاقة التي تغويني دائماً.
- كيفَ كان يومك إذاً؟ - تسألينني لكن هذه المرة وأنتِ تنثرين ألوانك على اللوحة أمامك دون أن تلتفتي إلي-.
- لا بأس، لقد كان جيداً، عدا عن أنني .. - أصمت-
كيفَ أخبركِ أنني أضعتكِ للمرة الألف في زحمة المرور وتحت زخات المطر. لا بأس يا صغيرتي، كان يومي وسيبقى جيداً في كل مرةٍ أعودُ فيها إلى المنزل وأجدكِ.
- أعرف أنك لستَ بخير، وأنني أنا السبب في كونك تعيشُ هذه المأساة الشنيعة، ربما حان الوقت حتى أمضي بعيداً.
- هل تخبرينني بطريقة غير مباشرة أنكِ تريدين الرحيل؟-أقولُ لها مقطباً حاجبي غضباً-
- لا يا حبيبي ليس هذا ما عنيته، لكنك ترفض أن تخبر أحداً عن وجودي هنا معك، تصرُ أن تعيش في الظلام كي لا يراك أحد سواي. سامحني لأنني جعلتُ منك ظلاً!
- أنا لستُ ظلاً يا "ريتا" لكنني ..
لكنني بكل بساطة لم استطع يوماً أن أذوق طعم السعادة بدونها، لأنني في كل مرة أكون سعيداً لوحدي أشعرُ بأنني أخونها، بأنني لا أستحقُ أن أعيش حياتي كما يحلو لي بينما هي رحلت.
- أنا مذنب في رحيلك يا "ريتا"، إنه ذنب يصعبُ التعايش معه!
- أنتَ لستَ مذنباً بشيء يا "جمال" أنتَ تعيشُ عقدة الفقدان، حاول أن تتصالح مع أننا مضينا، رغماً عنا ..
- أعدكُ بأنني سأحاول .. - أغقلتُ الباب وخرجت-.
لقد كان شعوراً مؤلماً جداً، أن استيقظ كل يوم ولا أجدكِ، طوال حياتي التي عشتها في الميتم كنتُ استيقظُ على ذات الأحاسيس المريرة، كنتُ أبلعُ ألمي مرغماً حتى لا أتعرض للعقاب، أجل لقد كانوا يعاقبون الأطفال الذي يبكون باستمرار لرغبة فطرية بالاشتياق إلى حضن أهلهم.
كانوا يقنعوني دوماً بأن اللقيط لا يحملُ مشاعر لأهله، لأنهم انجبوه تحت اسم الخطيئة وتخلوا عنه لأن وجوده كان إثماً، لكن كل هذا تغير يا "ريتا" عندما عرفتك، فأنا لم أجد الإنسانة التي عوضتني عن حرمان سنين من العاطفة، بل وجدتُ الملاك الذي لم يكن ليتخلى عني يوماً تحت أي ظرف.
كنتُ أخافُ أن أصدق بيني وبين نفسي أنكِ ميتة، في مكان ما بعد تلك السنين أنكِ أصبحتِ جثة متحللة.
------------------------------------------------------------------------------------------------------