كل المشاعرِ تحمل بعضَ الزيفِ، إلا الحزنُ، فهو عفيفٌ وصادقٌ، كذلك الكتابةُ، يتسربُ الحزنُ ببطءٍ نحو قلبي، يجلسُ بهدوءٍ في مساحته الفسيحة التي اعتاد الجلوسَ بها، يخرجُ سيجارًا أنيقًا وينفثُ الدخانَ، يقرأ كتابًا ضحمًا، يستنشق عصارة السيجارِ جيدًا، أغلي، ترتفع حرارة تجويف قفصي الصدري، وخزةٌ مؤلمة في الجانب الأيمن، مؤلمة للغايةِ، تنقبضُ أنفاسي، أهرعُ نحو مساحة wordالبيضاءِ، لأكتبَ، أجدُ المفردات هذه المرةِ سلسلةً، تنساب كجدول ماءٍ هادئ رغم ارتفاع حرارتي.
أحاولُ أن أطمسَ هويتي هذه الأيامِ، ألا أكتبَ نصًا عني، أكتبُ عن أي موضوعٍ باستثنائي، مشاعري متضاربةٌ، كيمياءُ دماغي ليست على مايرامُ، يزدادُ قلقي بشدةٍ، أفكرُ كثيرًا، أصبحت أحمل أعباءً لم أتوقع يومًا التفكير بها، أحاولُ الانسياب مع الأيامِ كما علمني معلمي، دع الغد للغد فهو يكفي خيره وشره، لكن الغدُ وقحٌ، يقتحمُ خصوصية يومي، يقعدُ فوق رأسي، هذا لا يعدُ تعبيرًا مجازيًا، بالفعلُ يجلسُ فوق رأسي، تتدلي قدماه الطويلتان أمام عيناي، يؤرجهما وكأنه يتعمد مضايقتي واستفزازي، أمارسُ بعض التأمل والتفكرِ، فيلوحُ لي من بعيدٍ، أحادثُ صديقةً ما، فيقهقه ويسخر، أبحث عن كل الطرق للهربِ منه، يمرُ اليومُ ويقدمُ الغدُ، فيتدلي غدٌ آخر فوق رأسي، بنفس القدمين، يستفزني، يمرُ الاسبوع فالشهر فالسنة، هكذا مضت معظم حياتي، قلقةً بشأن الغد الذي لم يأتْ بعد، وفي كل يومٍ أكتبُ نصًا.
تعيدُ الكتابةَ تنسيقَ دواخلي، ترتبُ ملفاتي، أحب البوحَ كثيرًا للأصدقاءِ، لكن الكتابةُ تدوايني حقًا، لا أحب التصريحُ بذلك، لكنها صلتي الأعمق باللهِ، أتقربُ لله بها، أدعو بها، أعربُ بها، أشكو، عندما يغلبني التعبُ، أكتبُ فيتسربُ كل الحزن والأسى.
يتعثرُ علىَّ أحيانًا وصفَ مشاعري،فأكتبُ لأفكَ ألغازي، لا أحتاجُ طقوسًا مميزةً لأكتبَ، الكتابةُ هي طقسي الخاص، معبري نحو الحقائق التي أطمسها، نحو متاهاتي، نحو الذات الحقيقية الهشة، نحو الذات الإلهية، نحو ما أكره وما أحب، نحو وحوشي ومخاوفي وصراعاتي، نحو الحب، نحو الألمِ، نحو كل شئ يمت بصلةٍ للحياةِ، ربما أبالغُ قليلًا لكنها أنفاسي، أنا أحيا بقدر ما أكتبُ.
لا أعتبرُ ما أكتبُه أدبًا، بل هو أنا، واكتفي أنها تكشفني، وتكشفُ ندوبي للهواءِ الطلقِ، تمنحني مساحةً كي لا أخجلُ منها أو أوأريها، يدغدغني الهواءُ وهو يصطدم بجراحي ويعبرُ أنفاقي المظلمة، لا بأسُ، الكتابةُ ستشفيني حتى لو كانت عمليةٌ مرهقةٌ، حتى لو دفعتني للبكاءِ والعويلِ، إنها المرةُ الأولى التي أمتنُ لها، وأعفيها من كونها "لعنة"، ربما لو حرمني الله منها لأضحت حياتي جحيمًا.