ســـــيرة قــــلــــب موصـــــد: البداية (2) - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

ســـــيرة قــــلــــب موصـــــد: البداية (2)

الجزء الثاني

  نشر في 05 فبراير 2023  وآخر تعديل بتاريخ 11 فبراير 2023 .

بَدَأَتْ في تجهيز حقائبها، صوت أم كلثوم يصدح في البيت..." كان لك معايا أجمل حكاية في العمر كله، سنين بحالها ما فات جمالها على حب قَبْلُه، سنين ومرت زي الثواني في حبك انتَ، وان كنت أقدر أحب ثاني أحبك انتَ..."

كانت قد عقدت العزم على الهجرة إلى باريس، مدينة الأحلام والأنوار... والرومانسية. لم تكن ممن يصدقون بالحب اللآمشروط، حتى من أقرب الأقربين. ذلك أن الحياة لم تكن دائما منصفة معها وجعلتها تفضل العقل على القلب. كانت تشكل العملية مبدئا في حياتها، لا مكان للعواطف في عالم انتهازي. كانت باريس بالنسبة لها طوق نجاة من حياة لم تعد تلائمها في ديرتها، وفرحت بعقد العمل الذي حصلت عليه رغم المشقة التي كانت ستترتب عنه، فقد كانت تؤمن بالمقولة الشهيرة التي تعودت على سماعها من والدتها حتى تكرست في ذهنها وأصبحت شعارا تحمله على كتفيها: " اللي مصبرك على المُر، اللي أَمَرّ منو". كانت تخطط بعد استقرارها هناك لاستكمال دراستها وتغيير مسارها بالكامل. وكذلك كان.

********************************************************************

مرت خمس سنوات على تواجدها بباريس، حصلت فيها على شهادة عليا في القانون. كان عملها كنادلة يستهلك منها وقتا كبيرا لكنها لم تكن لتستكمل دراستها لولاه. كان فصل الصيف قد أشرف على الانتهاء ومعه عقد عملها، فقد حصلت على فرصة لا تعوض للتدريب في مكتب محاماة، لتبدأ حياة مهنية جديدة كما كانت تحلم.

كان آخر يوم لها بالمطعم عندما تعرفت عليه، أتاها من العدم يخبرها بأن ابتسامتها جميلة وبأنه يبحث عن عروس بمواصفاتها. لم تأخذ كلامه على محمل الجد وضحكت:

-أنت في مطعم يا سيدي، نعرض وجبات وليس عرائسا. ربما تجد طلبك في مكتب خاص بهذه الأمور،

- طلبي أنتِ، ولا أحد غيرك. أنا جاد في طلبي ولا أمزح. هل قرأتِ مسرحية "لا عبث مع الحب" لألفريد موسيت؟ اقرئيها واتصلي بي...هذا رقمي".

********************************************************************

لم تعلم أي سحر ذاك الذي جعلها تتصل به وتقبل دعوته على العشاء. كان يعرف اسمها وأشياءَ كثيرة عنها. كان مثقفا، راقيا في كل تصرفاته، واثقا من نفسه، كانت كل كلمة تقع على روحها كما تقع الريشة على الخد. علمت أنه كان يدير شركة ورود، مع كل وردة يبيعها رسالة...توحي بنهاية أو ببداية جديدة. وكانت بدايتها معه توحي بالنهاية المحتومة لكنها لم تعر اهتماما لكل العلامات. وضعت كل مخاوفها على جنب واختارت أن تصدق بأنها مقبلة على شيء لم تعشه من قبل. وضعت على جنب أنه أرمل وأب لطفلة، وأنه ممن نجوا من الحرب في بلاده، فاختار أن يبيع الحب بدل الكره. وهذا ما جعلها تتعلق به.

كان يبعث لها باقة ورد مع رسالة مكتوبة كل صباح، يعدها فيها بأن اسمها سيُكتب على صدره للأبد، وعلى الحجر العتيق وليس على رمل البحر. ووَعْدُ الرجل للمرأة دين إن خلُف لا تُــؤَدِّيه باقات الدنيا لبقية العمر. ومرت سنة على اللقاء الأول، أظهر فيها جانبا من شخصيته لكنها كانت على يقين أن جوانب أخرى ظلت خفية. فقد كان غامضا ومليئا بالتناقضات، تارة يبدو مهتما وعاشقا وتارة أخرى قاسيا بعيدا، تارة تحس معه بالأمان وتارة تتوجس منه... كان كريما معها ويفرح لنجاحها وطموحها، كانت ترى في عينيه عنفوان الرجل الشرقي وتسلطه في آن واحد. بين الفينة والأخرى كان يختفي دون سبب، متحججا بمرض ابنته أو عياء أمه أو صديقه. وفجأة تتوقف الرسائل الصباحية وتبدأ التساؤلات. لم تسأله يوما عما كان يخفيه، كانت تفضل ألا تعرف، وألا تستيقظ من حلمها الواقعي.

********************************************************************

مع اقتراب الخريف بدأت تتساقط أوراق الشجر واستقبلت المدينة أول نفحات البرد، كان موعدهما هذه المرة في حديقة "اللوكسومبورغ" الشهيرة. كانت تبدو عليه علامات التعب، أمسك بيدها وأخبرها أن في جعبته الكثير وطلب منها ألا تصدر حكما مسبقا بعد ما ستسمع منه:

- "سأنتقل للعيش في نيويورك مع أمي وابنتي، هل ترافقينني؟

- لماذا؟ وما الذي ستصنعه هناك؟ هل عُرض عليك عمل جديد؟

- كنت أخطط للانتقال إلى هناك منذ زمن. كل الظروف توفرت الآن فلما الانتظار؟ وأريدك أن تأتي معي.

- وحياتي هنا؟ وكل هذه السنين التي قضيتها في تحقيق أهدافي؟"

لم تكن تعلم كيف تتعامل مع هذا الطلب الغريب، ولم تجد له تفسيرا آخر سوى الأنانية، أو الهرب من شيء ما!

عادت لشقتها باكية، كانت تعلم أنها بداية النهاية. وبأنها ربما تكون وسط لعبة شطرنج. اللعبة التي تعلمنا أننا مهما فزنا فلا محيد عن الخسارة يوما ما، مهما كنا أذكياء وحذرين. لم تفكر في الأمر كثيرا، لم تكن تود التضحية بكل مكتسباتها من أجل قصة غريبة. ثم قررت أن تواجهه للمرة الأخيرة.

********************************************************************

علمت منه أن سفره المباغت هذا لم يكن نابعا عن إرادته وأنه لم يكن يخطط له كما كان يزعم. اعترف لها أنه يستعين باسم مستعار ليكتب عما يجري في بلده من انتهاكات في صحف عالمية معروفة وأن أمره قد انكشف، وبذلك فقد أصبحت حياته مهددة. اعتبرته للحظة بطلا، لكن سرعان ما استوعبت كم كانت ساذجة. لقد كانت خارج اللعبة تماما.

-"لقد خدعتني! أخبرتني أنك بائع ورد. كنت ترسل لي باقة كل صباح.

-أنا فعلا بائع ورد، لكن مع قدومي إلى هنا لم أنسى أبدا أنني بالأصل صحفي وبأنه من واجبي أن أنقل الحقيقة."

الحقيقة! ولما لم يصارحني بحقيقته منذ البداية؟ كان هذا السؤال يلتهمها من الداخل لكنها لم تنتظر منه جوابا، لم يكن لديها رغبة في معرفة المزيد. هناك حقائق نتمنى لو أننا لم نعرفها ولم نعايشها. وهناك أبطال نتمنى لو لم يسقطوا من أعيننا عندما قرروا أن يخدعونا. ضرب لها موعدا أخيرا لتبلغه بقرارها لكنها لم تذهب، فقد قررت أن تفارقه دون وداع. اتصل بها كثيرا ولم تجب، نفذت منها الكلمات ولم تعد تثق به. تَلَقَّتْ رسالة نصية:

-"سأتصل بكِ للمرة الأخيرة، إن لم تجيبي فاعلمي أنه أنتِ من أردتِ الفراق، وأنني تمسكت بك لآخر لحظة".

لم تجب. ولم يعاود الاتصال. علمت فيما بعد أنه سافر. انتابتها أحاسيس كثيرة، شعرت أن العالم ينهار من حولها لكنها تذكرت ما كانت تقول لها أمها عند كل جرح: الحياة لا تتوقف عند أحدهم، وأنتِ من تصنعين أهميتك في أعين الناس وليس العكس. بالرغم من ذلك كانت لا تزال تنتظر رسائله كل يوم كما عودها. لكن الرسائل توقفت. ومن كان بالأمس أملا في الغد أصبح شبحا.

********************************************************************

"لو"، كلمة من حرفين...تختزل كل الخيبات واللوعات. تُعَبِّر عن عجز البشر أمام الماضي، عجز عن اختراع آلة سحرية ترجعهم لتلك اللحظة التي تحول فيها كل شيء دون أن يعو في أغلب الأحيان أن ما سيأتي بعد ذلك سيذكرهم ما حيوا بخطئهم، أو صوابهم. 



   نشر في 05 فبراير 2023  وآخر تعديل بتاريخ 11 فبراير 2023 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا