حَضَرَ صديقي الذي يعمل بالخارج في إجازةٍ قصيرةٍ إلى مصر، وقُبَيل انتهاء إجازته طلب مني أنْ أوْصله إلى المطار بسيارتي، فوافقتُ بكل ترحابٍ .. وفي اليوم المحدد تذكرتُ أنَّ حقيبة سيارتي ملأى بأغراضٍ كثيرةٍ تحتاج إلى فرزٍ وإعادة ترتيبٍ حتى تكون مهيأةً لاستقبال حقائب السفر الخاصة بصديقي.
فتحتُ باب حقيبة السيارة ووقفتُ للحظاتٍ أنظرُ إلى ما بداخلها مِن أشياءَ تكدَّستْ وانضغطتْ بسبب الإهمال وفعل السنين - التي جاوزت السبع بقليلٍ - لم يمسسها فيها بشرٌ ولم تَطُلْها يد العناية ولم تُراجعها عين الفحص والتمحيص لاستبعاد ما لا فائدة تُرجَى منه وللإبقاء على ما يُستفاد مِن بقائه.
تعوَّدتُ منذ أنْ ابتعتُ سيارتي – وبئس العادة – أنْ أُلقِي في حقيبتها بكل غثٍّ أو سمينٍ ثم أنسى بمرور الوقت ما ألقيتُه فيها، حتى تراكمت الأشياء بداخلها وتراكبت، ولم أفكر طوال السنوات الماضية في تفريغها مِن دفائنها إلا الآن مضطرًّا، حتى أُخلي مكانًا يكون مهيّأً لحقائب صديقي المسافر.
هكذا شمَّرتُ عن ساعديَّ وبدأتُ في إخراج ما تُخبِّئه لي حقيبة سيارتي الحبيبة التي تحمَّلت الكثير بلا أنينٍ أو شكوى طوال سنواتِ استخدامها، وكان أول ما صادفتُه هو غطاء السيارة القماشي المُعبَّأ بالأتربة والذي لم أفكرْ أن أغسله مِن قبل .. ألقيتُه على الأرض فأثار عاصفةً مِن الأتربة جعلتني أسعلُ للحظاتٍ .. انتظرتُ حتى هدأت العاصفة ثم عاودت استكمال المهمة الشاقة .. فوجئتُ بأشياءَ كنتُ قد نسيتُ مِن الأساس أنني وضعتُها: زجاجاتُ مياهٍ فارغةٌ .. قوائمُ أسعارٍ قديمةٌ لعدة مطاعم، جعلَتني أشعرُ بمدى الارتفاع الجنوني الذي أصاب الأسعار عندما قارنتُ الأسعار المكتوبة في تلك القوائم بأسعار اليوم .. بطاقاتُ عملٍ .. أوراقٌ قديمةٌ .. كتابان .. لوحاتٌ هندسيةٌ مِن أيام الدراسة الجامعية، كانت في منزل والدي حتى وقتٍ قريبٍ .. مسامير .. مِفكاتٌ .. سلسلةُ مفاتيحَ قديمةٌ كنتُ أظنُ أنها قد ضاعت .. ثمرةُ فاكهةٍ متعفنةٍ أعتقدُ أنها كانت برتقالةً في يومٍ ما .. شمَّاسةٌ .. مُلمِّعٌ لتابلوه السيارة .. طفايةُ حريقٍ .. مثلثٌ عاكسٌ .. شنطةُ إسعافاتٍ أوَّليَّةٍ .. دعوةٌ قديمةٌ لأحد معارض التشييد والبناء .. تذاكرُ قديمةٌ لمعرض الكتاب .. أكياسٌ بلاستيكيةٌ .. أغلفةُ "شيبسي" و"بسكويت" و"شيكولاتة" لم أجدْ سلة مهملاتٍ - عندما أكلتُ ما بهم - لألقيهم فيها فقررتُ وقتها أنَّ حقيبة سيارتي تصلح كبديلٍ ممتازٍ .. ماسورةٌ حديديةٌ لا أعلم وظيفتها .. "كوريك" .. أوراقُ شجرٍ جافةٌ .. "فلوبي ديسك 3.5 إنش"! .. مِنشفةٌ سوداءُ أظنُّها كانت في الأصل صفراءَ .. "شاحنُ نوكيا" بسنٍّ رفيعٍ ... وغيرها مِن الأشياء التي لا أرغب في إصابة رؤوسكم بالصداع بذكرها .. أما ما جعلني سعيدًا بحقٍّ، فكان أنْ وجدتُ فواحةً عطريةً مُحْكمةَ الغلق، ما جعلها في حالةٍ صالحةٍ للاستعمال.
أعدْتُ ترتيب الأغراض التي ستُفيد السيارة - كالـكوريك والمثلث العاكس وشنطة الإسعافات - وجَمَّعْتُ بقية الأغراض غير المفيدة في كيسٍ بلاستيكيٍّ كبيرٍ ثم ألقيتُه في أقرب صندوقٍ للقمامة .. الآن أصبحت السيارة جاهزةً لاستقبال حقائب السفر الخاصة بصديقي .. دخلتُ إلى سيارتي، وقبل أنْ أُدير محركها عَلَّقْتُ فواحة العطر على مرآة السيارة الداخلية فأطلَقَتْ رائحةً عَبَّقَتْ جو السيارة بطِيبِها .. بعدها توجَّهْتُ على الفور إلى منزل صديقي، بينما أفكارٌ وأسئلةٌ كثيرةٌ قد بدأتْ في الاحتشاد والتزاحم في رأسي أثناء قيادتي !
ما أكثر أوجه التشابه بيني وبين سيارتي !
ما أكثر الأمور التي تَشغل عقلي وتُضَيَّع وقتي وأَحْمِلها معي أينما ذَهَبْتُ، بينما لا فائدة تُنتَظرُ منها !
ما أكثر الأشياء التي أُكَلِّفُ نفسي عبء حملها، بينما لا طاقة لي بها !
ما أكثر الأفكار التي تتغلغلُ وتعشِّشُ في ثنايا عقلي، بينما أحتاج أنْ أتخلصَ مِن طالحها وأُبقِي على صالحها !
ما أكثر الشرور التي أَقتَرِفُها في الخفاء، بينما لا يرى الناس إلا ظاهرًا طيِّبًا مِن قولي وعملي !
ما أكثر الذنوب الصغيرة التي أَرتكِبُها يومًا بعد يومٍ، وشهرًا بعد شهرٍ، وسنةً بعد سنةٍ، حتى صارت جبلاً مِن الآثام أَحملهُ على ظهري لم يَعُدْ بي طاقةٌ لحمله !
كم أنا في حاجةٍ إلى أنْ أخلو بنفسي كي أحاسبها على ما جنته طوال سنوات خَلَتْ !
كم أنا في حاجةٍ إلى أن أواجه شيطان نفسي كي أكبحَ فجورَها وأُلْهَمُ تقواها !
كم أنا في شوقٍ إلى تلك اللحظة التي أتطهَّرُ فيها مما عَلِقَ بنفسي مِن شرورها وسيئات أعمالها !
كم أنا في حاجةٍ إلى أنْ أَجِدَ "فواحةَ عطرٍ منسيةً" - وسط أكوام العفن التي تراكمت - كي تملأ كياني بطِيب نسيمها وتُعَبِّقَ روحي بمِسك عبيرها!
عَثَرْتُ على "فواحة عطرٍ" لسيارتي فبدَّلَتْ هواءها وغيَّرَتْه إلى الأفضل، فهل أنجحُ قريبًا في العثور على "فواحة عطرٍ" لنفسي وروحي فتُصْلِح ما أفسدَته ذنوبي وخطاياي ؟!
التعليقات
لا أحسب أحدًا يمرُّ من هذا المقال إلا وحاسب نفسه، أشكرك .
حقا من اروع ما قيل .... اظن اننا جميعا نحتاج ان نعبق ارواحنا بين الفينة والاخرى ابدعت
ولكن تبقى الفكرة التي أبرقت في مقالتك من رغبتك في تطهير وتعطير روحك واراها فكرة جميلة ورائعة لمراجعة النفس ومحاسبتها.
بالتوفيق والى الامام دائما فنحن بحاجة ماسة لكتاب مثلك ممن يمتلكون ملكة الكتابة والأفكار الجيدة بالاضافة الى المخزون الاخلاقي الكبير، فهذه هي النوعية المطلوبة حاليا لمجتمعنا للارتقاء بالمستوى العام للتخلص من ظواهر الخلل العديدة التي ضربت الأجيال الجديدة.