لغز الأعداد الأولية
الأعداد التي حيرت العلماء عبر العصور
نشر في 09 يونيو 2019 وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .
لطالما كانت الأعداد الأولية لغزا مستعصيا على علماء الرياضيات منذ القدم. هي أعداد ينظر عليها على أنها اللبنات المكونة لباقي الأعداد. فهي بالنسبة لباقي الأعداد كالذرات بالنسبة للجزيئات. و لها تطبيقات هامة خصوصا في التشفير و حماية البيانات. كما تظهر في فرضية ريمان، إحدى أشهر المسائل الرياضية في عصرنا هذا حيث تبلغ قيمة الجائزة المخصصة لمن استطاع حلها مليون دولار أمريكي.
ما هي الأعداد الأولية ؟
لقد عرف العلماء الأعداد الأولية بادئ الأمر على أنها الأعداد الصحيحة الطبيعية التي لا تقبل القسمة إلا على العدد 1 و على نفسها. فالعدد 2 عدد أولي لأنه لا يقبل القسمة إلا على 1 و على 2. و كذلك العددان 5 و 7 فهما أوليان، أما العدد 6 فليس بأولي، لأنه يقبل القسمة على 2 و 3، فيقال إنه عدد مركب. و الملحوظ في هذا التعريف أنه يجعل من العدد واحد عددا أوليا لأنه يقبل القسمة على 1 و على نفسه أي 1 أيضا. و لكن العلماء فيما بعد قرروا تعديل هذا التعريف حتى يخرجوا منه العدد واحد فيصير أصغر عدد أولي هو 2. و الدافع لهذا التعديل الوجيه هو إحدى أهم المبرهنات في الحسابيات على الإطلاق كما سنرى في فقرة لاحقة.
كم عددها ؟
هو سؤال أجاب عنه العالم الرياضي الإغريقي إقليدس ثلاثة قرون قبل الميلاد بما يمكن التعبير عنه حاليا باللانهاية. فمهما يكن العدد الذي اخترته كبيرا و فلكيا و مهولا فإنك لا محالة ستجد عددا أوليا أكبر منه. و ذلك أمر في غاية العجب، إذ كيف لعدد مكون من آلاف الأرقام و أكثر أن لا يقبل القسمة إلا على نفسه و على واحد !
كيفية تحديدها
هناك عدة طرق لتحديد ما إن كان عدد ما أوليا أم لا، و أبسطها و أسذجها أن تختبر العدد بقسمته على جميع الأعداد التي هي أصغر منه قطعا مبتدئا بالعدد 2. فإن لم يقبل القسمة على أي منها علمت أنه أولي. و إن قبل القسمة على أحدها علمت أنه غير أولي بل مركب و توقفت عن إكمال هذه الطريقة، أو الخوارزمية. و لنمثل لذلك بمثال. لنأخذ العدد 209 و لنحدد إن كان أوليا أم لا. 209 لا يقبل القسمة على 2 ، ولا على 3 ولا على 4 و لا على 5 و لا على 6 و لا على 7 و لا على 8 و لا على 9 و لا على 10 لكنه يقبل القسمة على 11 لأن 11*19=209 فهو إذن عدد مركب.
و سذاجة هذه الطريقة تكمن في محاولتها اختبار القسمة على جميع الأعداد التي هي أصغر من العدد المختبر، عدا 1, مما يعد مضيعة للوقت. و الواقع أنك لست بحاجة لذلك. فيكفيك أن تجرب فقط الأعداد الأولية التي هي أصغر قطعا من عددك المختبر. وذلك لأن عددك لو كان يقبل القسمة على عدد مركب لقبلها على جميع الأعداد التي تدخل في تركيب هذا العدد المركب، و التي بدورها لو كانت مركبة فستقبل القسمة على ما يركبها، و هكذا إلى أن تصل إلى الذرات التي لا تقبل التركيب من ذرات أخرى (الذرات مركبة أيضا من أجزاء أصغر و لكن تلك الأجزاء ليست جزيئات أو ذرات أخرى بل هي دقائق و جسيمات دون الذرة) و ذرات الأعداد كما ذكرنا ليست إلا الأعداد الأولية. و بهذه الطريقة يصير مثالنا السابق كالتالي: 209 لا يقبل القسمة على 2 و لا على 3 و لا على 5 ولا على 7 و لكنه يقبل القسمة على 11 فهو إذن مركب.
و يمكننا أن نلاحظ أن عدد الخطوات في هذه الطريقة أصغر بكثير من الطريقة الساذجة الأولى. و سيزداد فرق عدد الخطوات كلما كان العدد المختبر كبيرا. و لكننا نلاحظ أيضا في هذه الطريقة أننا نحتاج أن نكون على علم مسبق بالأعداد الأولية التي هي دون العدد المختبر. و هو أمر يمكن التوصل إليه عن طريق إنشاء لائحة تضم أصغر الأعداد الأولية المعروفة في كل خطوة مبتدئين بالعدد 2. كما يمكن تحسين هذه الطريقة بأن لا نحاول القسمة إلا على الأعداد التي هي دون الجذر المربع للعدد المختبر. فمثلا العدد 31 لا يقبل القسمة على 2 و لاعلى 3 و لا على 5 و لا نحتاج لأن نجرب العدد 7 لأن 49=7*7 و 49 أكبر قطعا من 31 أي أن 7 أكبر قطعا من الجذر المربع ل 31 فنستنتج أن 31 عدد أولي مباشرة دون أن نكمل باقي الخطوات.
و توجد هناك طرق أخرى أكثر سرعة و كفاءة لتحديد أولية الأعداد من عدمها. منها طرق تعتمد على الاحتمالات فهي تخبرك بأن العدد المختبر أولي مع احتمال ضئيل بأن يكون مركبا. و كلما زادت ضآلة احتمال التركيب كلما زاد الوقت اللازم لإتمام عميلة الاختبار.
المبرهنة الأساسية في الحسابيات
هذه هي المبرهنة التي من أجلها تم إخراج العدد 1 من تعريف الأعداد الأولية و اعتباره عددا من صنف خاص مستقل بذاته. فهو ليس عددا أوليا و لا عددا مركبا. و ليتضح ذلك فالمبرهنة تقول أن كل عدد من الأعداد الصحيحة الطبيعية عدا الصفر و الواحد يمكن كتابته بطريقة وحيدة على شكل جداء أعداد أولية من الأصغر إلى الأكبر. فمثلا العدد 6 يمكن كتابته على شكل 3*2 و لا توجد أية طريقة أخرى لفعل ذلك إلا بتغيير ترتيب العددين الأوليين 2 و 3 و قد قررنا في المبرهنة أننا يجب أن نلتزم بكتابة الأعداد الأولية من الأصغر إلى الأكبر. و تضح هنا فائدة إخراج العدد 1 من المبرهنة. فلو اعتبرناه أوليا لكان بإمكاننا كتابة 6 على شكل 3*2 و 3*2*1 و 3*2*1*1 و 3*2*1*1*1 و هكذا. فيكون لدينا من الطرق لكتابة كل عدد ما لا نهاية له.
و هذه المبرهنة الأساسية تظهر لنا بجلاء كيف أن الأعداد الأولية تدخل في تركيب باقي الأعداد كما تدخل الذرات في تركيب باقي المواد. مما يكسو الأعداد الأولية أهمية كأهمية الجدول الدوري لترتيب العناصر الكيميائية و الفرق بينهما أن عدد العناصر الكيميائية محدود، بينما الأعداد الأولية لا حصر لها.
توزيع الأعداد الأولية
إن توزيع هذه الأعداد الفريدة لأمر عجيب غاية العجب. و لطالما حير العلماء و أثار اندهاشهم و فضولهم منذ القدم، فضلا عن أن يثير اندهاشي شخصيا و ما أنا إلا محب للرياضيات. فقد تأمل العلماء في متتالية الأعداد الأولية 2، 3، 5، 7، 11، 13، 17، 19، ... فلم يجدوا أي طريقة يستدلون بها على العدد الأولي التالي في كل مرة. بل برهنوا أنه لا توجد أية صيغة حدودية ذات معاملات صحيحة أو حتى جذرية يمكنها أن تعطيك دائما عددا أوليا جديدا.
و العجيب في هذه الأعداد أنها تبدو للناظر و كأنها موزعة ضمن مجموعة الأعداد الصحيحة الطبيعية بشكل عشوائي متفلت عن كل صيغة سهلة تصفها وصفا دقيقا. و لكنها في نفس الوقت تظهر بعض الانتظام على العموم، فهي كخط مستقيم مرسوم بقلم رصاص إن شاهدته بالعين المجردة عن بعد 25 سنتمترا بدا لك منتظما و دقيقا، و لكنك إن رأيته من خلال مكبرة بدا لك عدم الانتظام في جوانبه و كيف أن به فراغات لا يحكمها أي قانون معروف لدينا.
مبرهنة الأعداد الأولية
و مما يدل عل انتظام الأعداد الأولية على العموم، لا على التفصيل. ما برهن عليه العالمان الرياضيان Hadamard و de la Vallée Poussin في القرن التاسع عشر من أن عدد الأعداد الأولية التي هي أصغر من عدد معين n يكافئ (n/ln(n عندما يؤول n إلى اللانهاية. أي إن الصيغة تصير أكثر دقة كلما كبر العدد n. و الدالة (ln(n يمكن فهمها بشكل مبسط هنا على أنها متناسبة مع عدد الأرقام المكونة للعدد n.
و هذه المبرهنة الهامة المسماة مبرهنة الأعداد الأولية تعبر على أن المسافات بين كل عدد أولي و الذي يليه تزداد شساعة في المتوسط كلما كبرت الأعداد التي ينظر إليها و أن الأعداد الأولية تصير أندر و أندر كلما ذهبنا قدما نحو اللانهاية و يصير احتمال وقوعك عشوائيا على عدد أولي أقرب و أقرب للصفر كلما كان العدد الذي اخترته هائلا.
توائم الأعداد الأولية
و مع أن مبرهنة الأعداد الأولية تشير إلى ندرة الأعداد الأولية في اللانهاية فإن ذلك كما أسلفنا فقط في المتوسط. ذلك أن الأعداد الأولية تظهر سلوكا عشوائيا عندما تراقب عن قرب، و تظهر الانتظام إذا روقبت عن بعد تماما كما يحصل عند مراقبة خط قلم الرصاص. و مما يشير إلى أن شساعة المسافات بين كل عدد أولي و الذي يليه مجرد متوسط إحصائي ما تخبر به حدسية توائم الأعداد الأولية. فهي تقول أنه يوجد عدد غير محدود من توائم الأعداد الأولية، و هي أعداد أولية المسافة بينها 2، كالعددين 5 و 7، و العددين 17 و 19. و هي أصغر مسافة ممكنة بين عددين أوليين باستثناء العددين 2 و 3.
خاتمة
و هذا الافتراض الذي تحمله حدسية التوائم هذه غير مبرهن عليه و لا على ضده إلى يوم الناس هذا و إنما لا زالت الحواسيب تكتشف لنا في كل مرة توائم من هذا القبيل مؤلفة من مئات الآلاف من الأرقام لا يفصل بين كل زوج منها إلا 2، أي إنها تكتب على شكل a-1 و a+1 فيا للعجب. و سميت هذه الفرضية حدسية لأن أغلب الظن أنها صحيحة، و هو الرأي السائد في المجتمع الرياضي الدولي. و يوجد من أمثال هذه الحدسية في باب الأعداد الأولية الكثير مما عجز عباقرة العلماء من أمثال ريمان عن حله و ظنوا صحته. إلا أن الظن لا يغني من الحق شيئا، و مهما بلغت قدرة الحواسيب في اختبار مثل هذا النوع من الفرضيات فإنها تبقى عاجزة أمام هول اللانهاية.
-
ياسين اشبانعبد من عباد الله و رجل من المسلمين