قبل الخوض في الطبيعة الجزيئية للذاكرة، ينبغي ابتداء محاولة تجزئة الذاكرة إلى أنواع محددة بصفات مميزة وذلك لتسهيل عملية البحث المفضية إلى فهم طبيعتها الجزيئية.
فالتعامل مع الذاكرة على أنها وحدة واحدة سيجعلنا تائهين في صحراء.
فهل للذاكرة أنواع؟ وعلى أي الأسس يمكن تقسيمها؟
يمكن لدراسات علم النفس أن تمدنا بالأساس النظري للانطلاق منه والعثور على الأساس الجزيئي المادي الذي يستخدمه الدماغ للاحتفاظ بالذكريات.
من الأشخاص البارزين الذين طرحوا فكرة أن للذكريات نوعين مختلفين يمكن تميزهما: فرويد مؤسس مدرسة التحليل النفسي. والذي اعتمد في علاجاته النفسية على الذاكرة الضمنية التي تؤثر على سلوكونا وتصرفاتنا دون أن نعي بوجودها أو نشعر بتحكمها، وهو ما أسماه باللاشعور.
تم الربط بين هذا التقسيم للذكريات وبين الدراسة التجريبية للدماغ بعد مراقبة أحد مرضى الصرع الذي خضع لعملية إزالة الفص الصدغي من الدماغ بما في ذلك الحصين.
تسببت هذه الجراحة بفقدان المريض الذي يبلغ ٢٧ عاما قدرته على الاحتفاظ بذكريات واعية عن الأفكار الجديدة التي يتلقاها وعن الأحداث الطارئة على حياته، بينما بقي محتفظا بذكرياته القديمة عن السنين الفائتة المتعلقة بطفولته.
و ما يثير الدهشة حقا أن هذا المريض ظل قادرا على تشكيل ذكريات ضمنية تتعلق بالمهارات الحركية لكن دون أن يمتلك ذاكرة واعية بخصوصها. فبعد التدريب يظهر سلوكه قدرته على أداء بعض التمارين لكنه لا يتذكر أبدا أنه قام بممارستها.
شكلت هذه الملاحظات منصة للانطلاق في دراسة الذاكرة على أساس تقسيمها إلى ذاكرة علنية وضمنية.
الذاكرة العلنية
هي ذاكرة تختص بتذكر الأفكار والأحداث، وتظهر من خلال التعبير الواعي، فنحن نستحضرها بشكل واعي، كما أننا نعرف بوجودها في حافظتنا الدماغية، وفي معظم الأحيان حين نتحدث عن الذاكرة فإننا نقصد بها هذه الذاكرة العلنية.
الذاكرة الضمنية
ذاكرة تتعلق بالمهارات والأداء الحركي المتصل بالعضلات الإرادية، ويتم التعبير عنها من خلال السلوك والتصرفات، في معظم الأحيان لا نشعر بوجودها إلا من خلال الاستدلال عليها.
يعتبر النطق واللغة من الأمثلة الجيدة على الذاكرة الضمنية، حيث يتعلم الطفل تقليد الأصوات التي يسمعها دون وعي منه، ودون أن يدرك كيف يتحرك لسانه بشكل متناسق مع شفتيه للتحدث والتعبير. لذا فإن عملية نطق الأحرف وتشكيل الكلمات والتعبير عن الأفكار لم تُفقد عند هذا المريض.
أيضا تعتبر القدرة على القيام بالمهارات الحركية بعد التمرين كركوب الدراجة وقيادة السيارة والسباحة والتقطيع بالسكين والكتابة بالقلم أو على لوحة المفاتيح ورص المسامير بالمفك كلها أمثلة تتجلى بها الذاكرة الضمنية.
وفي هذه الذاكرة قد لا ندرك تماما كيف نقوم بهذه المهارات، ومعظم الناس لا يمتلكون القدرة على شرح ما يفعلونه، ففي أثناء لعبة البلاستشين التي يتم التحكم بها من خلال اليد، يتحرك الأصبع برشاقة بين الأزرار دون التركيز عليها أو الوعي بحركة الإصبع وبدلا من ذلك ينصب التركيز على الشاشة وتتولى الذاكرة الضمنية إدارة اللعبة، لذا لا تعتبر هذه الألعاب وسيلة لتنمية الفكر حيث يغيب فيها الوعي وينعدم التفكير ويصير العقل مقيدا تسيره الذاكرة الضمنية.
إن راقبنا نشاطتنا نلحظ أننا نستطيع القيام ببعض الأمور إما بالاعتماد على الذاكرة الضمنية أو العلنية، إن التكرار الرتيب يجعلنا نستسهل القيام بمعظم النشاطات بالاعتماد على الذاكرة الضمنية، تبرز هذه المشكلة أثناء قيامنا بالصلاة، معظم الناس يعانون من مشكلة انشغال الذهن أثناء الصلاة، الذهن لا يستطيع الانشغال بشيئين في ذات الوقت مما يبين لنا أننا نعتمد على الذاكرة الضمنية لأداء الصلاة لا على الذاكرة العلنية التي يسيرها الوعي
ما هو الوعي؟
لا نعرف ما هو الوعي على وجه التحديد، لكن يبدو مما سبق أنه يمكن استحضار الوعي لإنشاء مسارات و روابط جديدة بين الذكريات والمعلومات التي نحتفظ بها.
بينما يغيب الوعي عندما نعتمد على مسارات سبق إنشاؤها. فنحن نتذكر الذكريات بشكل علني حينما نعملها في التفكير والفهم والاستيعاب.
عامل الزمن في تقسيم الذاكرة
يمكن أيضا تقسيم الذاكرة بطريقة مختلفة بناء على مدتها إلى قصيرة الأمد وطويلة الأمد.. ماذا نقصد بذلك ولماذا هذا التقسيم؟
أظهر المريض الذي سبق الحديث عنه سلوكا مثيرا للاهتمام، فقد قلنا أنه قد فقد قدرته على تشكيل أية ذكريات علنية فهو لا يتذكر أي حدث يمر به حتى إن كان حدثا وقع قبل دقائق لكن بشرط أن يلتفت انتباهه عنه،
ظل المريض محتفظا بقدرته على التذكر طالما أن تلك الذكريات مرتبطة باللحظة الراهنة التي يعيشها.
فقد كان المريض ينسى المعالج الذي يتولى رعايته في كل يوم يلقاه فيه، لكنه يبدأ بتشكيل ذكريات جديدة عنه طالما بقى جالسا معه، فإذا قام عنه لبضعة دقائق وانشغل المريض بشيء آخر فإنه ينساه كما لو أنه لم يقابله أبدا ويبدو له شخصا جديدا يراه لأول مرة. أطلق على تلك القدرة البسيطة التي ظل المريض محتفظا بها التذكر قصير الأمد.
ما يحدث لذلك المريض يحدث أيضا للأشخاص الطبيعين لكن بنسبة أقل، فنحن نبقى متذكرين بتفاصيل دقيقة جدا عن الدقائق الفائتة للحظتنا الراهنة، نحتفظ بالألوان والصور والأصوات والروائح والأشخاص ودرجة الحرارة والانطباع العام عن الأمكنة والشعور الراهن المخيم علينا في الدقائق المنصرمة عن الحاضر الواقع،
ومعظم هذه الذكريات يكون مصيرها النسيان والاضمحلال ما لم ترتبط بحدث مهم.
والغرض من هذه الذاكرة القصيرة الأمد أن نمتلك الزخم الكافي من المعلومات عن البيئة المحيطة بنا لنتخذ أفضل القرارات المبنية على الذكريات المرافقة للحظتنا الحاضرة.
-
رقية طحانحاصلة على درجة بكالوريوس من جامعة الطائف في الأحياء الدقيقة، كاتبة مقالات علمية في موقع فهرس نت، مدربة ومقدمة دورات على منصة شغوفه