قال ذات يوم الكيميائي الفرنسي أنطوان لافوازييه: "إن الحياة نشئت بسبب تفاعلات كيميائية" (جينا سميث، عصر علوم مابعد الجينوم، ص23) ، هكذا انطلق العلماء منذ القرن 19م يبحثون عن فهم علمي لنشأة الحياة متوسلين في ذلك قوانين الكيمياء ، حيث حاولوا العمل على تجارب تحاكي وضعية كوكب الأرض قبل 4,6 مليار سنة بخواصه الفيزيائية و الكيميائية و الجيولوجية لفهم نشوء البيولوجيا ، مثل البراكين ثائرة، و المحيطات الغليانية ، و جو بمستويات عالية من الغازات السامة ، بالإضافة إلى ذلك كان الهواء يتكون من تراكيز عالية من الميثان و الأمونيا و الهيدروجين و بخار الماء نظرا لإحترار الكوكب . ففي هذه الظروف كيف نشأت الحياة ؟ سؤال كبير لكن لم يفتئ الإنسان يبحث له عن جواب بمختلف الصيغ .
معلوم أن الحياة بدأت من خلية حية ، و الخلية تتكون من عدة مكونات كسيتوبلازم-غشاء سيتوبلازمي-الجسيمات الريبية- النوية: التي تنتج الحمض النووي الريبوزي (RNA) و الكروماتين الذي يحتوي على الحمض النووي (DNA) ... ثم الفوسفولبيد بايلير أو الطبقة المزدوجة من الفوسفولبيد التي تعتبر المكون الأساس لسطح كل الخلايا الحية ، ثم لكي تشتغل الخلية لابد لها من طاقة و من غازات كـ CO2 و O2 ، لكي تنتج البروتين الذي هو شرط لا محيد عنه للحياة ، فكيف تجمعت كل هذه العناصر لكي تخلق الخلية الأولى ؟
تحتوي نواة الخلية على المادة الوراثية DNA ، التي تظم 23 زوج من الكروموزومات ، ثم RNA الذي يتكون من سكر رايبوزي غير منقوص الأكسجين ، كما يحتوي على القاعدة النيتروجينية "اليوراسيل" ، كما أنه يتكون من شريط مفرد ، عكس DNA الذي يتكون من شريط مزدوج ، و الذي يعتبر وسيلة أساسية لتخزين المعلومات الوراثية ، من جانب آخر يعمل البروتين على تحفيز ردود الفعل ، لكن الـ RNA يستطيع أن يعمل عمل الإثنين ، فهو يعتبر بمثابة مكتبة جينية و محفز لردود الفعل ، وذلك ما يجعل RNA مرشحاً ليكون العامل الذي بدأت به الحياة على الأرض .
RNA يتكون من القواعد النوكليوتيداتية الأربعة : الأدينين والجوانين والسيتوزين واليوراسيل. إذا تم التوصل إلى كيفية تكوين هذه القواعد في الأرض المبكرة تحت الظروف المحيطة التي كانت سائدة آنذاك ، فإن جزءاً كبيراً من الجواب يكون قد تم تحصيله ، خصوصا و أن في الأونة الأخيرة تم تأكيد أن بعض الجزئيات تستطيع تكوين جميع هذه القواعد الأربعة في حال توفرت أشعة الشمس أو الأشعة فوق البنفسجية .
افتراضات و تجارب:
افترض "تشالز داروين" أن الحياة ربما قد بدأت في “بركة صغيرة دافئة” تحتوي على كل العناصر الضرورية للتفاعل الكيميائي الذي أنتج الخلية الأولى ، حيث اندمجت هذه المركبات لتشكل مادة ساهمت في تكوين الحياة كالبروتين ، والتي بإمكانها أن تبدأ بعد ذلك بالتطور وتصبح أكثر تعقيداً ، و بالتالي تنتج عنها لأنواع الطبيعية . رغم كونها فكرة غير مفصّلة ، لكنها من بعد أصبح أساساً للفرضية الأولى لكيفية بدء الحياة ، و ذلك ما أبحاث العالم الروسي "ألكسندر أوبارين" الذي شابهت فرضياته آراء دارون ، و ذلك في كتابه “The Origin of Life” الذي نشر في سنة 1924 ، حيث وضح فيه أن الأرض كانت في بداياتها مُحتَرَّة جدا ، و ذلك ما ساعد على ذوبان الصخور التي كانت مليئة بالمواد الكيميائية ، تكثيف بخار الماء إلى ماء سائل ، و سقوط المطر لأول مرة . قبل فترةٍ طويلة من إحتواء الأرض على المحيطات، حيث كانت ساخنة وغنية بالمواد الكيميائية المرتكزة على الكربون ، هكذا افترض أوبراين أن بعض الجزيئات الرئيسية لنشوء الحياة كالسكريات و الأحماض الأمينية، قد تكونت في مياه الأرض .
هكذا تفاعل هذا الخليط فأنتج عضويات على شكل كريات مجهرية ، و التي تتصرف كخلايا حية ، حيث تنمو ويتغيّر شكلها ، وفي بعض الأحيان تنقسم إلى قسمين ، كما يمكنها أيضاً أن تسحب المواد الكيميائية من المياه المحيطة ، لذلك من الممكن أن تصبح المواد الكيميائية اللازمة للحياة مرتكزةً داخلها ، حيث إفترض أوبارين أن هذه الكريات كانت أسلاف الخلايا الحديثة . ثم سار في نفس الإتجاه الكيميائي الإنجليزي "جون هالدين" الذي افترض هو الآخر أن المواد الكيميائية العضوية تراكمت في المياه ، إلى أن تكونت المحيطات البدائية ، و نتيجة تماسك الحساء الخفيف الساخن هذا ، تطورت التفاعلات الكيميائية بين هذه المواد ، وبذلك تكونت الخلية الأولى ، ثم نشوء نصف الكائنات الحية في البحر .
غير فرضية "أوبارين-هالدين" القائلة بتشكل الحياة في الحساء البدائي من المواد الكيميائية العضوية ، لم يكن هناك أي دليلٍ تجريبي يدعمها ، إلى أن أتى "هارولد يوري" الكيميائي الأمريكي الذي أكد أن الأوكسيجين لم يكن موجوداً عند تشكّل الغلاف الجوي للأض في بادئ الأمر ، هذا ما عرّض الظروف المثالية للحساء البدائي لأوبارين وهالدين ، لنموذج قد يتم فيه تدمير المواد الكيميائية الهشة من خلال غياب الإتصال مع الأوكسجين ، و للبحث عن تفسير جديد قام أحد تلامذة "يوري" و هو "ستانلي ميلر" بعمل تجربة فريدة ، حيث قام بتوصيل سلسلة من قوارير الزجاج ، ثم وزع أربع مواد كيميائية يُشتبه في أنها كانت موجودة في الأرض المبكرة: الماء المغلي والهيدروجين والأمونيا والميثان ، و لمحاكاة الصواعق التي كانت شائعة الحدوث على الأرض في ذلك الوقت ، قام بإخضاع الغازات للصدمات الكهربائية بشكلٍ متكرر. و من ذلك كانت نتائج التجربة مدهشة ، حيث وجد عند تحليله للخليط الذي أعقب التجربة أنه يحتوي على على إثنين من الأحماض الأمينية: الجلايسين و الألانين ، حيث توصف الأحماض الأمينية غالباً بأنها عناصر أساسية لنشوء الحياة ، فهي تُستخدم لتكوين البروتينات التي تتحكم بمعظم العمليات الحيوية في أجسام الأحياء . هكذا صنع ميلر إثنين من أهم مكونات الحياة من نقطة الصفر .
غير أنه و مع الأبحاث ، إتضح أن الحياة أكثر تعقيداً من الإعتقاد بنشوئها في بركة ماء دافئ يحتوي على العناصر الكيميائية الضرورية لتشكل الحياة ، فقد إتضح أن الخلايا الحية ليست مجرد أكياس من المواد الكيميائية ، بل كانت عضويات صغيرة معقدة جدا ، حيث بدت هذه العضويات تعيش وفق نظام بيولوجي مُحكَم التنظيم و هو ما يستبعد نشوء كائنات بيولوجية بدائية من تفاعل كيميائي بسيط ، و بذلك تبيّن أن صنع أحد هذه العضويات من الصفر بدأ يصبح تحدياً أكبر بكثير مما كان يظن العلماء من قبل .
من بذلك توالت الأبحاث ، و من أبرزها تلك التي قام بها كل من "Richard Wolfenden" , و "Charles Carter" الذين انتهيا إلى أن العلاقة القائمة بين كل من الخصائص الفيزيائية للأحماض الأمينية في حساء البركة الدافئة ، و المادة الوراثية و عملية تَشَكُل البروتين كانت علاقة أساسية منذ البداية ، أي قبل ظهور أي جزيئات كبيرة و معقدة بزمن طويل ، و هو يتيح إمكانية كون هذا التفاعل هو المفتاح الأول لبدء عملية التطور من الأساسيات إلى كائنات كاملة ، و من ذلك ناقش كل من ولفندن وكارتر بأن جزيء RNA لا يعمل لوحده ، وفي الحقيقة ليس من المحتمل أن يكون RNA قد قام بتحفيز تَكَوُن البيبتايد الذي يعتبر سلسلة أحماض أمينية مترابطة كيميائيا تنشأ بين الأحماض الأمينية لتكوين البروتينات المختلفة الأساسية للخلايا الأولية ، بل قد حصل العكس حيث حفز البيبتايد لتَكَوُن RNA . هكذا ، فالعلاقة القائمة بين كل من RNA و البيبتيدات كانت مهمة جداً لظهور التعقيد بطريقة عفوية ، و بذلك فإن العالم بات عالم البيبتيد و RNA وليس عالم RNA لوحده ، و من هذه العلاقة نشأت الحياة .
بل إنتهى الباحثين في تجربة في السنوات الأخيرة إلى أن العديد من التفاعلات البيولوجية الموجودة على الأرض قد تكون لها بداية غير بيولوجية ، حيث أن ناتج التجربة احتوى على أحماض أمينية وثاني أكسيد الكربون ، إذ يعتقد العلماء أن تلك الجزيئات غير البيولوجية شكلت إنزيمات ، حلت محل ذرات الكربون والهيدروجين بعد إتمام التفاعل الرئيسي، ما يُعد أول دليل على أن الحياة نشأت عن ذرات غير عضوية أساسا ، و به يستمر اللغز .