أحيانا يستطيع أن يكون ملهمك والشخص الذي يبعث فيك شغف الحياة بعد أن يكون قد انطفئ داخلك، طفل صغير لا يتجاوز عمره الخمس سنوات..
منذ أول وهلة رأيته فيها علمت أنني سأتورط به وأنني سأرمي تنبيهات أستاذي لي من أن أتعلق بأحد تلامذي أو إحدى تلميذاتي.. كل تنبيهاته المتكررة لنا بهذا الشأن رميتها وراء ظهري، بل حتى إنني حاولت جاهدة أن أكون أهلا حتى يسمح لي ملهمي بأن ألقي ولو نظرة خاطفة على عالمه المحدود الذي يبدو أنه يكفيه و يزيد بحيث لم يستبدله بغيره.
خلال الحصة الأولى لاحظت تميزه حيث كانت المعلمة تلقنهم كلمات لكي يكتبوها على ألواحهم بينما كان هو يكتفي بالنظر إلى الأرض أو يقف ويحوم حول المعلمة وفي القسم.. في البداية استغربت سماح المعلمة بهذه التصرفات، لكنها أفهمتني حالته الخاصة : إذ تبين أنه تم تشخيصه بالتوحد، بداية تفاجئت لأن حالات هذا المرض التي أعرفها أنا، لا تتناسب كثيرا مع حالة ;ملهمي فهو يتحدث وإن لم يكن بطلاقة ، لكن المهم أنه يعبر عن نفسه وحتى أنه يقوم بالاتصال البصري وإن كان في أحيان قليلة ولفترات قصيرة، فأبديت لها استغرابي، فشرحت لي أنه قد قطع أشواط طويلة لدرجة أنه الآن قد تخلى عن المرافقة التي كانت معه في كل وقت وحين توجهه وتقوم تصرفاته.. فسألتها هل هو هكذا دائما لا يقوم بتمارينه ولا يستمع لإرشاداتها فأجابتني أنه بالرغم من كونه يبدو غير منتبه إلا أنه يلتقط كل ماتقوله، وبكونه الأذكى ضمن تلاميذها، وفعلا رأيت برهان ذلك فبعد أن أنهت هي عملها مع التلاميذ أخذ هو اللوحة وأعاد كتابة كل الكلمات التي سمع الأستاذة تلقنها لرفاقه و الأدهى من هذا أنها كانت بخط واضح وجميل ثم لم يكتفي بهذا فأخذا يكتب مقابل تلك الكلمات باللغة الغرنسية، أصبت بالذهول وأخذت أسأل نفسي هل أنا فعلا أمام طفل عمره أربع سنوات وأشهر و لم يسبق له أن درس بالمستوى التمهيدي الأول وفوق كل هذا شخص بإصابته بصعوبات تعلمية و اضطرابات سلوكية!!
ما كل هذا يا هذا؟!
جاء وقت الاستراحة لكنني لم آخذ استراحة من ملاحظتي لملهمي😍 ركزت نظري عليه وحده وتتبعت طريقة لعبه في الساحة ، كان يجري لوحده ويضحك مع نفسه ، يجري دون أدنى انتباه لما يدور حوله أو للمكان الذي يضع فيه قدمه ولا يمكنني أن أحصي عدد المرات التي وقع أرضا وهرعت إليه لأساعده في الوقوف، كان مما لاحظت أنه لايبكي وإن شعر بالألم يأن قليلا ويغمض عينه وكأن تأثير عصا سحرية يحل عليه فيخلصه من الألم ليستكمل جولة الجري وكأن شيئا لم يكن..
أيضا مما لاحظت أنه حين يقترب منه أحد رفاقه ليعانقه أو يمسكه يبدي استيائه الشديد ويبدأ بالصراخ وإبعادهم عنه..
ذهبت إليه وسألته هل يزعجونك بهذا التصرف فأشار برأسه أن أجل، وطبعا مهمتي تقتضي مني أن أسهر على راحته، فطلبت منهم بكل لطف أن يدعوه وشأنه ويلعبوا بعيدا عنه لأنه يفضل الجري لوحده.. فعاد إلي جريه ممتنا ^^
كان لي الحظ الوافر أن شاركت في خرجة مدرسية كانت قد نظمتها المدرسة صباح هذا اليوم لفائدة تلاميذ المستويين التمهيدي الأول والثاني، وكنت قد قضيت ليلة البارحة في مشاهدة أفلام وثائقية عن أطفال التوحد وقرأت بضعة مقالات عن هذا المرض، فاستطعت أن أفهم الشيء القليل عن العالم الذي يعيش فيه ملهمي.. وفي المنتزه الإيكولوجي مجددا كانت عيناي عليه وعلى بضع من رفاقه كنت مسؤولة عنهم لكن الأمر الذي تغير في هذا اليوم المبارك أن ملهمي العزيز قد لاحظ هو الآخر وجودي ويبدو أنه أحس باهتمامي الشديد به لدرجة أنه نظر إلي مباشرة وأشار بسبابته لورائي قائلا : ز..ه..، نظرت ورائي وقلت ماعساه يقصد يا ترى ! وفورا عدت لأنظر إليه وقلت: زهووور؟ فابتسم وأشار برأسه أجل، يا إلهي لا يمكنني أن أصف فرحتي وقتها بلحظة التواصل القصيرة هاته، ولتكمل فرحتي بعدها بوقت قصير قام بقطف زهرة فتوجهت إليه وسألته هل تريد أن تأخذها لأمك ؟ فأشار برأسه مجددا : أجل، وتدخلت وقتها المعلمة طالبة منه أن يهدينها فأطرق رأسه أرضا يفكر للحظات ثم توجه نحوي ومد يده نحوي ليناولني إياها، سررت كثيرا وطلبت منه راجية هل تسمح لي أن أقبلك يا حبيبي آدم؟
لكنه بدل ذلك توجه نحوي وقبل وجنتي بنفسه ومن شدة فرحي حملته لحضني و أنا أقفز به، ابتسم في وجهي ثم طلب مني أن أنزله، فما كان بيدي إلا أن أستجيب له.. حقا شعرت خلال تلك اللحظة أن جمعتي مباركة للغاية!
بودي لو أنني ألتقي بأمه لأهنئها على مجهوداتها الجبارة التي تقوم بها مع آدم في سبيل أن يصير أفضل وأن يتعلم كيف يتواصل ويعبر عن نفسه، صدقا هنيئا لها بطفلها العبقري المميز وهنيئا لآدم بأمه المحبة والمثابرة.
حبيبي آدم👇
-
مريم البداوي...