طفتُ مساءَ أمسِ في طريق مظلم حالك، لا يضيؤه سوى بعض أعمدة إنارة لها نور خافت، لا تكاد ترى أصابع يدك على ضوئه! وكان الطريق طويلاً، لا صديق فيه ولا أنيس، ولا رفيق فيه ولا ونيس، غير حفيف أوراق الشجر يطربك على أنغامه، وعواء الكلاب يثور ثم يخور، ونسيم الهواء يلاعب أطراف ردائي وكأنه يراودني عن نفسي حتى أطير معه، وأترك هذه الأرض الموحشة، وضوء القمر يهديني في مسيري، في مشهد عاطفي روحاني كأني في العالم الآخر! فطفقت أسير جهة القمر حتى أرشدتني خيوطُ القمر الزرقاء إلى فتاة جالسة في الناحية الأخرى، وكأن القمر قد هداني إلى القمر، فتاة وضاءة بيضاء، ترتدي ثوبا قصيرا أبيض، وبياض ثوبها يغطي كثيرا من بياض جسدها كأن بياض ثوبها يغار من بياض جسمها فأبى إلا أن يغطيه، وشعر بني ينعكس عليه نور القمر فيزداد تلألؤا، وكلما أتى عليه نسيم الهواء تمايل على كتفها العاري، كل ميلة من شعرها تميل بقطعة من قلبي؛ حتى تناثر قلبي في اتجاهات الرياح الأربع!!!
كأنها نجمة سقطت من ظلام الليل، فاستقرت في سواد الأرض، وكانت رؤيتي لها حسنةٌ من حسنات قمر السماء أن دلني في ظلام الليل على قمر الأرض، فمن لي بشكر يده التي أسداها إياي؟!
فاقتربت منها وإن قلبي لأشد خفقانا من النواقيس في كنائسها ، لولا صدري يمسكه لفرَّ مني وراءها، فما أن اقتربت منها حتى شممت عبيرا ما هو بعبير الزهر وعطره، وما هو بأريج الورد ورَيِّه، ولكنه عطر سمائي، سميته عطرَ القمر، ولا تزال رائحته تداعب أنفي، كلما استحضرت صورتها في ذهني، ولما حاولت أن أضع يدي على كتفها لألفتها إليَّ، وأحرفها نحوي - استيقظت من نومي وفِيَّ من الألم لفراقها ما الله به عليم، وأمسكت قلبي مخافة أن يهرب مني، ولا زلت أتحسس المكان حولي في ظلمة الليل عَلِّي أراها أو أجدها، فما هو إلا أن استعدت وعيي، وأدركت أني كنت في عالم الأحلام، وأني رجعت إلى عالم الخلق والأنام حتى هدأت نفسي شيئا فشيئا، وانتظمت أنفاسي، وتوقف خفقان قلبي، وفرت دمعة هاربة من مآقي عيني بعد أن حابستها كثيرا، وهي تأبى إلا الفرار، ثم توالت مثيلاتها وراءها ضنًّا منهن أن تكونَ الدمعة الأولى خيرا منهن، ثم أمسكت القلم والقرطاس حتى أدون هذه الذكرى الجميلة.