موشحات باكية - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

موشحات باكية

هيام فؤاد ضمرة

  نشر في 07 يونيو 2019 .

موشحات باكية..

تعتلي صافنات جياد عربية أنهكها الانحطاط>>

كتبت.. هيام ضمرة>>

شقية تلك الشمس التي ما فتئت ترسل شواظ أشعتها بقوة دامغة، وحرارة الجو تتعدى على جلودنا لتجعل منها مرشحاً نشطاً للتعرق، فنعبُّ الماء بلا تروِّي وغايتنا أنْ نطفئ عطشاً لا يهمد، نقصد مكاناً لا يجوز أن نغادر المغرب دون أن نلقي عليه نظرة، ونقول هناك كلمتنا في موقف يثير الكوامن أمام مرقد هذا الإنسان رغم بؤس حظه، فله تاريخ عالق بالذهن تستعيد شواهده ذاكرة الأثر القائم العظيم

الرحلة باتجاه قرية أغمات قرب العاصمة المغربية مراكش عبر طريق أوريكا على بعد 30 كم، تحركنا إليه من مدينة آيت أورير قرب مراكش في حافلة صغيرة ضمت شقوة أدباء من دول متعددة، في أغلبهم ينتمون لدول المغرب العربي شمال القارة الإفريقية، والمقصد مرقد لأحد ملوك الطوائف، كان ملكاً لإشبيلية وقرطبة من الأندلس واعتبرت حياته ومآله عبرة لمن يعتبر، وبدت رحلتنا كأنما هي سفر عبر الزمن، فحين تزور مرقداً لأحد الأقدمين المرتبط إسمهم بقوة بالتاريخ عليك أن تتهيأ ذهنياً للانتقال إلى زمنه لتعيش الحالة الذهنية المناسبة والمتعاطفة مع الأحداث الماضية، وأغمات هي مدينة المرابطين الذين زحفوا إليها من الصحراء المغربية، والمرابطون هم من تصدوا لجيش قشتالة الإسباني في السنوات الأولى للقرن الحادي عشر الميلادي بقيادة الأمير البطل يوسف بن تاشفين مؤسس مدينة مراكش المغربية سنة 1062م لتكون عاصمة للمرابطين، ليحقق النصر الأبي على القائد ألفونسو السادس، وليتغير وجه التاريخ بعد ذلك بقسوة قلبت الحال وغيرت وجه المآل.. ماض يعيدك بالألم إلى مجد غابر انتهى نهاية مجحفة.

كانت صديقتي الشاعرة نبيلة الخطيب أخبرتني بعد عودتها من اسبانيا في رحلة مع مؤسسة عبدالعزيز البابطين الكويتية بعد فوزها معهم بالشعر، أن منظرا جدا أذهلها جماله حين نظرت إلى المنطقة المجاورة لقصر الحمراء من أحد شرفاته المطلة، وكان عبارة عن غابة لشجر اللوز، والقصة التاريخية تقول أن المعتمد كان واقعاً في الهيام حد الوله بزوجته الجميلة اعتماد، وحين تمنت أن ترى جبالا يكسوها الثلج زرع الجبال المجاورة للقصر باللوز، حتى إذا ما أزهر في موسمه بدت الجبال بيضاء تماما، وقصص هيامه بهذه الفاتنة تسرد مثل الخيال.

ما أنْ عبرنا البوابة الكبيرة القائمة تحت قوس رخامي مُنحني، زخرفتهُ يد بناء فنان، حتى ضمتنا قاعة المدفن الرخامية لرجل ذاق أوج العز والرخاء والمجد وأشد أشكال الذل والمهانة بعد ذلك، بلغ ذروة السلطة فاستطعم في حياته حلاوة العيش برفاهية واعتداد ومُلك وجاه وسلطان، على أوسع ما يحتمله خيال إنسان، إلى أنْ انقلب ميزان خيلاءه في لحظة شاردة عن حسبة التاريخ، ليفقد كل هذا المجد بلمح بصر، وقد تعطلت خيل عزه أمام جحافل الهجمة الإسبانية المدعومة من الكنيسة الأوروبية، يواكبه ذل تاريخي لا يرحم، وفقر ذاوٍ بطش به وبأفراد أسرته، أبكى مع بكائه حجر الصوان، ليتبخر تاريخ مجد طويل أطبقت شهرة حضارته وعلومه الآفاق، وتجاوز في عمارته السبعة مئة عام، لتنتهي حقبة تاريخية ثرية كأن شيئاً على تلك الأرض لم يكن، وليسدل الستار على مرحلة حضارية باذخة انتهى بها إنسانها نهاية قاسية لدرجة وحشية بغيضة تتأسى الذاكرة عن تخيلها، وظلَّ أثره مثار دهشة تخبرُ عن أمجاد أمة عظمى، انقلب حجر حظ سعدها فانكشف الوجه المعاكس ليوم عاثر ليس من بعده حياة، ابتنوها أجداده مدماكاً فمدماك، بكد نازف دفعوا في سبيله كثيراً من الدماء والأرواح، حتى صارت الدولة الأسطورة ترويها كتب التاريخ كليال ألف ليلة وليلة

إنه آخر ملوك العرب في الأندلس الملك الشاعر (المعتمد بن عباد) ملك قرطبة واشبيلية، القابع اليوم بقايا جسد همد منذ بعيد زمن تحت قبه صغيرة في مبنى متواضع في قرية مغربية اسمها (أغمات) قريب من مراكش العاصمة، لا يكاد يقاس ببيت من بيوت خدم قصره الذي ما زال يُذهل زواره السائحين في إسبانيا اليوم، ذلك الملك الذي غدر به بؤس التشرذم وانقسام الدولة إلى إمارات وممالك، حين استعرض أمراءها شبق نرجسيتهم بالغدر والخيانة، فانكشفت عورة حكام أعمتهم أناهم عن الحقيقة وعن أخوة الدم، وعن من يتحوطوهم انتظاراً للحظة ضعف، فاشتد ساعد عدوهم بالمقابل وأطلَّ بعين مستفزة، ووجدوا أمامهم الثغرات ليس من يستطيع ملأها سواهم، فانقضوا يبتلعون الإمارة تلو الإمارة حتى أتوا على آخرها، فبسقوط طليلة بيد ألفونسو ملك قشتالة تلقي ملوك الأندلس الضربة التي أفاقتهم على اقتراب الخطر منهم، حينها استصرخوا بعضهم بعد أن ذوى بهم الصوت وصار همساً في فراغ، فلبى النداء يوسف بن تاشفين أمير المرابطين في المغرب وعرف أهل المغرب بالشجاعة والقوة اضافة لقوة الدين والتقشف، وكان لهم فضل فتح الأندلس منذ مبتدأها، والتقى الجمعان بموقع يعرف بالزلاقة فوق أرض الأندلس، فانهزم ألفنسو في معركة عرفت باسم يوم عروبة، حدث هذا في يوم جمعة 12رجب سنة 479هجرياً.. لكن مع عودة ملوك الطوائف لحالهم القديم اضطر ابن تاشفين للعودة والاستيلاء على ممالك الطوائف، ونفي المعتمد ابن عباد إلى أغمات

هكذا بكل بساطة نختصر نهاية ما زالت تبكينا بدل الدمع المنهمل دماً نازفاً قانيا...

لله أنتم بنو يعرب كيف تسامقت بكم حضارة العلماء المستنيري العقل، وسلطة الحكام العادلين وشهامة مواقفهم ومصداقية تعاملهم، حتى غدوتم أمة يحتذي خطاها الآخرون، علومكم محط أنظار ومكمن نهل، وخطاكم قوة يهابها حكام العالم، وكيف حطت بكم من عليائها الدواهي والنوائب وكأنكم ما كنتم ولا كانت بكم أمجاد تتلى.. واليوم تستعيدون صورة انهياركم والحال يستعيد وجهه القبيح وملامحة المخزية، فيما الأوطان العربية المجزأة بفعل القباحة الغربية، تقف عاجزة وموجوعة وسط الفوضى الدموية، على قارعة انتظار انقسامات جديدة أشد قبحاً من الأولى وأنكاها دواهي، لتستقبل أسوأ مراحلها في نشأة الممالك الصغيرة والإمارات المتشرذمة تماما كما كانت عليه الأندلس آنذاك وكما كان لها الحكم بالنهاية الدموية الذليلة، فعلى ماذا توقعون صمتكم الذليل أيها العرب

وقفت في منتصف صدر المكان بين قبر الملك بن عباد وزوجه المصون اعتماد الرميكية، أي فوق رأس قبر ولديهما، وخلفي اللوحة الرخامية التي تحمل قصيدة المعتمد التي أوصى بوضعها على قبره وعلى يميني محافظ المدينة، وقد توجهت إليَّ الأنظار حين وجه إليَّ الطلب لأقدم خطاباً في هذا الموقف، فإذا الدفوف تقرع في رأسي بأناشيد الحماسة، وسط صهيل خيل في معترك تتصلصل به السيوف كحداء المسافرين على طريق صحراوي قائظ، فبسملت وصليت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته وصحبه ومن والاه، واستعرضت زمن ذلك العصر من مبتدأ ما قدمه العرب المسلمين من خسائر بالمال والأرواح والتضحيات لأجل أن يمتدوا بالوطن والدين، وكيف استطاعوا الارتقاء الحضاري إلى مصاف يحسدهم عليه ملوك أوروبا، فينظرون بحسد بالغ نحوهم، حين ملكوا العزم وحملوا الهدف الأسمى وتوانوا بالإخلاص حتى تحقيق الحد الأقصى للنجاح، وكيف أخذتهم بعد ذلك مطامعهم إلى الضلال والانهماك بملذات الدنيا، ونسوا الذين يتربصون بهم ويحلمون بإخراجهم والقضاء عليهم جنساً وعرقا وأيدولوجية، خاصة حين تقلصت الأندلس في مساحتها عما كانت عليه سابقاً، تحدثت عن أسباب تراجع القوة، وعن شدة شبة أحداث اليوم بأحداث الأمس، والوطن العربي يتلقى ضرباته القاصمة بفعل الفتن المخربة، والسموم المداهمة، التي تلوث الجسد العربي وتهدد أمنه وحضارته واقتصاده، وتسوقه نحو الذوبان والتلاشي وهي النتيجة الأخطر

إذ كيف نمر عبر التاريخ دون أن نأخذ منه العبرة واختمار التجربة؟.. كيف نكون مفكرين متنورين واعيين ومدركين معنى استخلاص العبرة من الماضي ونتجمد أمام مقتضيات الحق؟.. فالقيادة المجتمعية تحتاج إلى معرفة وسقف ثقافي عالي، وتلقائية موضوعية وتحليل ناجع، أي أن نحرر عقولنا من الاتجاهات لتتحرك البوصلة بالاتجاه الصحيح، فالإنسانية مترابط ماضيها بحاضرها وبعيدها بقريبها وشرقها بغربها، والمداخل التاريخية رغم اختلاف ظرف الأمس عن اليوم، إلا أن فيها العبرة المؤكدة والفائدة المرجوة، ولعل قصة هذا الملك الذي خذلته المطامع حتى ساقته إلى نهاية موحشة، هي نفس وحشة هذا القبر الذي احتواه أخيرا جسداً هامداً وروحاً متحررة إلى برزخها، ملك السلطان لكنه لم يملك الحكمة التي تقيه مخاطر الآخر المتربص، ورث الحضارة ولم يرث ذات القوة التي تجعله حصناً منيعاً تحرس هذه الحضارة وهذا المُلك، وما أسهل تكسير الأعواد متفرقة وما أصعب تكسيرها مجتمعة، ملك كل ما من شأنه أن يجعله قوياً، وحين أسقط أدوات القوة وانساق للاسراف والبذخ سقط سقوطاً ذريعاً، لكن المؤلم حقاً تلك النهاية البائسة لعزيز قوم ذل، لتصل به وبأسرته الأمور ليصبحوا في حال يرثى لهم، يعيشون الفاقة في فقر مدقع بعد أن كانوا يتنعمون بالخيرات، ويدسون أقدامهم بطين معطر بالمسك وماء الورد والغرابيل، فلا ينظر إليهم سيداً كانوا يوماً تسيدوه، لكنه الإنسان لا يعرف قسوة الإنسان إلا إذا فقد حصانته، وبات غيره من يمسك بيده الصولجان

الأمير يوسف تاشفين كان قائداً قوياً عادلاً، لكنه قسى على ابن عباد لغيظه من انهماكه بالملذات واسرافه غير المبرر، وعداؤه لملوك الطوائف مما يعرض الأندلس للخطر الجسيم.. ولعل موقف تاشفين ما يبرره لأن النهاية كانت فعلاً على مرمى النظر، ولم تستطع بعد ذلك للأسف الشديد أي قوة إيقافها.


  • 1

  • hiyam damra
    عضو هيئة إدارية في عدد من المنظمات المحلية والدولية
   نشر في 07 يونيو 2019 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا