لم يكُ قد استيقظ من نشوة وصوله إلى مصر ، كان يحسب أنه في حلم جميل فقط ، اتصل بأصحابه و خلانه الذين يعرفهم في مصر ، فرحبوا به أيما ترحيب ، حتى أن أحدهم حينما علم أنه قريب منه نسبيا حيث يقطن في مدينة الطور ، ألح عليه أن يأتي إليه ، لكن الظروف لم تسمح ، و يعلم الله أنه كان يحب لقاءه ، فهو لم ير منه إلا الخير ، و الحب الصريح الصحيح ..
كانت مدينة شرم الشيخ ليلا ، كمثل هر عجوز نائم ، في ضواحي السواحل التي تشغلها الفنادق و المنتجعات ، و لكنها في وسطها ، كانت أشبه بملهى ليلي كبير مفتوح ، و كانت المسافة الكبيرة التي تفصل منتجعه بوسط المدينة عائقا أمام تعرفه على هذه المدينة ، و كان المنتجع يوفر خدمة توفير سيارة خاصة أو سيارة أجرة ، و لكن السعر كان مبالغا فيه بشكل كبير ، رمقه أحد العاملين في الفندق حين سؤاله عن أسعار سيارات الأجرة ، فغمزه بعينه أن اتبعني حينما تنتهي .. فهم يعقوب الإشارة بسرعة ، و خمن ما كان سيخبره به العامل ، فأتاه ثم بادره العامل :
- حضرتك محتاج توصيلة صح ؟
- صح ، تعرف حد يوصلنا لخليج نعمة ؟
- أنا شوفتك بتسأل عن أسعار التكاسي ، و بيني و بينك ، التاكسي أسعاره في العلالي ، أنا هاوريك تركب ازاي و بسعر كويس جدا ..
-قول قول قول ، قال يعقوب و هو يستحضر سعيد صالح رحمه الله في مدرسة المشاغبين ، بابتسامة ضحوكة ..
- بص حضرتك ، هاتخرج برة المنتجع خالص ، و فالشارع الكبير اللي هناك ، هاتوقف ، فيه عربيات زرقا بتمر ، شاور لها ، و قولها على وجهتك ، و هاتوصلك مطرح ما انتا عاوز ، و بسعر كويس قوي
- و الله أنا مش عارف أشكرك ازاي يا عم سيد
- لا شكر على واجب يا أستاذ ، انتا باين عليك رجولة و ابن ناس ..
كان عم سيد هذا رجلا في الخمسينات من عمره ، يشتغل في استقبال ضيوف المنتجع ، تظهر عليه آثار السنين من تجاعيد وجهه التي زارت جبينه شيئا ما قبل الأوان ، أوحت له ابتسامته الخجله بحيائه ، فاخرج يعقوب ورقة من فئة العشرين جنيها ، وضعها في يده ، و راح يدعو له .. كان الفرق الكبير الذي لاحظه هو التباين بين الجنيه و الدرهم ، الذي هو عملة بلده ، كان الجنيه يعاني من ركود لا يخفى على أحد ، مسببا للمصريين عناء و مكابدة لغلاء طال كل المجالات بعد تعويم الجنيه أمام الدولار الأمريكي ، فكانت ورقة العشرين التي ناولها عم سيد ، تساوي عشرة دراهم فقط في بلده ، و هو ثمن زهيد ، في حين أن عشرون جنيها في مصر تساوي 6 تذكرات من الدرجة الأولى في مترو القاهرة ، في حين أن عشرة دراهم لا تمنحك إلا فرصة ركوب الترامواي لمرة واحدة فقط في مدينة الدارالبيضاء مثلا ، فكان الأجانب هم المستفيدون من قانون التعويم الكلي هذا ، حيث أن مائة دولار مثلا تمكنك من العيش مرتاحا جدا كمصروف جيب ..
اصطحب زوجه و ابنه ، و حرجا من الفندق ، فوجدا سبعة من الناس يقطنون معهم نفس المنتجع ، ينتظرون الميكروباص ، فاطمأن قلبه إلى هذه التجربة التي يخوضها لأول مرة ، كونه سيكون برفقة أناس أجانب ، و مصريين .. أتى ميكروباص ، كان خالي الوفاض ، فوقف سائقه بجانب الشارع ، فتح النافذة الأمامية و سأل
- انتو كام ؟
رد أحد المصريين :
- احنا عشرة ..
- عال ، اتفضلوا اركبوا
ركب الجميع .. كان الميكروباص ضيقا بالنسبة له كونه كان فارع الطول و لكنه كان مريحا ، و كان ممن صعد معه أربعة من الفلسطينيين ، على قدر عال من خفة الدم ، أخذ السائق الأجرة ، و كان أن دفع عشرة جنيهات من أجل التنقل لمسافة 11 كيلومترا ، الشيء الذي يستحيل أن تجده في بلده الأم ..
كان أحد الفلسطينيين يضاحك السائق ، و يقول له : ربنا يكرمك يا اسطى ، شغل الراديو يا اسطا ، و السائق يضحك ، كانت الطريق المؤدية إلى وسط المدينة ، مليئة بلافتات تبايع عبد الفتاح السيسي لولاية تانية ، فقال الفلسطيني ماكرا للسائق مشيرا إلى السيسي :
ألا صحيح يا اسطا ، مين دا اللي في اليافطة دي ؟
- دا كبير الدهاشنة عندنا هنا فمصر
ضج الميكروباص كله بالضحك ، و كانت في إجابة سائق الميكروباص ، قدر كاف من السخرية السوداء ، كي يفهم الجميع ، أنه ليس راضيا عن عبد الفتاح السيسي كرئيس ..
وصل الجميع إلى وسط المدينة ، و كانت عبارة عن محلات تجارية و مقاه كلها تقريبا بطعم و رائحة الشيشة و الأرجيلة ، و محلات تبيع التذكارات المصرية ، و لكن الأمر كان باهض الثمن ، فأجل اقتناءه للهدايا إلى القاهرة ، حيث يوجد بالتأكيد ، مجال كبير للإختيار و التنقل بين الأسعار .. بعد جولة قصيرة في وسط المدينة ، عاد إلى الفندق بنفس الطريقة ، مستقلا ميكروباصا أخر .. أعجبته التجربة ، و أضمر أن تكون جميع تنقلاته في مصر بهذه الطريقة ، باستخدام وسائل التنقل الشعبية التي يستقلها عامة الشعب من أجل أن يتعرف أكثر على الشعب المصري ...
كانت أيامه الخمس في شرم الشيخ عبارة عن استجمام صاف في المنتجع و شاطئ البحر ، كان يمضي قيلولته مقابلا أمواج البحر النائمة ، تحت ظلال مقاعد وثيرة ، فكان يشعر أنه حاز كل الراحة و الدعة هناك ، إلا أنه سرعان ما يتذكر جيران السوء ، و أن الصهاينة يقطنون معه نفس الفندق فتشمئز نفسه ، و لكن عزاءه كان ، أن الأمر الواقع يفرض عليه هذا ، و لم تزده رؤيتهم إلا اشمئزازا و حقدا ، على الرغم من محاولتهم إظهار لطفهم أمام الناس ، لا يعلم لماذا سيطر عليه هذا الإحساس ، فهو يؤمن أن كل صهيوني يعيش على أرض الأقصى فهو محتل ..
في إحدى الليالي ، ذهب إلى متجر من سلسلة كارفور لابتياع الماء ، فدهش من الأثمنة المنخفظة بالمقارنة مع أثمنة بلاده في نفس السلسلة ، كانت الأسعار تصل في بعض الأحيان إلى النصف في الفارق ، فابتاع أربع قنينات ماء من فئة لتر و نصف و لتر من عصير العنب ، و كيلو مانجا ، و بعض الحلوى و رقائق بطاطس شيبسي ، و دفع مائة جنيه ، التي تساوي في بلاده ، 50 درهما ، أي 4.8 دولار ، و بالتأكيد لا يمكنك شراء كل ما اشتراه هو في كارفور مصر ، في المغرب .. رمقه المسؤول عن المبيعات يلتقط صورة لسعر قنينة كوكاكولا من فئة لترين فبادره قائلا :
- لأ حضرته التصوير هنا ممنوع ، ممكن تصور السعر ، بس المنتج لأ
- أنا آسف يا أفندم ما كنتش عارف و الله ، أنا مغربي ، و باصور السعر علشان أنا متفاجئ من اختلاف السعر بين مصر و المغرب
- يا أهلا و سهلا أجدع ناس و الله ، و مستغرب ليه ؟ هو لترين كولا يعملو كام في المغرب ؟
- أربعة و عشرين جنيه !!
- إيه !! كثير يا عم
- شوفت هههههه
- هنا عندنا لترين ب 10 جنيه !
- علشان كدا أنا باصور علشان أوريها لصحابي
- هو الدولار عندكم بكام ؟
- الدولار عندنا ب 9.8 درهم
- على كدا الواحد مننا لو هو عاوز يقضي أجازة عندكم في المغرب هايتخرب بيته ههههه
- الأسعار غالية هناك آه !
- ما هو حضرتك احنا كمان كنا نايمين ، صحينا فيوم لقينا الأسعار اتضاعفت مرة واحدة !
- دا التعويم !
- صح ، سياسة غبية بعيد عنك !
- ربنا يصلح الأحوال .
- يا رب ، عالعموم تشرفنا بيك ، و أهلا و سهلا بيك في بلدك
-ربنا يكرمك و يشرف مقدارك ، أنا و الله حاسس إني فعلا في بلدي ، ناس طيبين قوي و الله .
- دا المفروض يا أستاذ ...
- مهدي ..
- أهلا و سهلا بيك أستاذ مهدي ..
ودعه ، و خرج ، و أكمل جولته في المدينة الجميلة ، ثم عاد إلى الفندق ..
قاربت أيامه الخمس الأول على الإنتهاء في أرض مصر ، و استعد نفسيا لرحلته من مدينة شرم الشيخ إلى القاهرة التي يقضي بها 8 ليال ، من المغامرة ، و كانت فعلا مغامرة جميلة جدا ..
في غد .. وداعا شرم الشيخ
-
يعقوب مهدياشتغل في مجال نُظم المعلومات .. و اعشق التصوير و الكتابة