لما كان صلح الحديبية، أصر سهيل بن عمر على أن تتضمن بنود الصلح أن من جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بدون إذن وليه يرده على قريش، ومن جاء قريشا من أصحاب رسول الله لم يردوه عليه.
هذا البند من الصلح أغاظ المسلمين كثيرا فراجعوا رسول الله فيه وقال له عمر رضي الله عنه " ألست نبي الله حقا؟"
قال صلى الله عليه وسلم: "بلى"
قال عمر: "ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟"
قال صلى الله عليه وسلم: "بلى"
قال عمر : "فلم نعطي الدنية في ديننا؟"
قال صلى الله عليه وسلم: "إني رسول الله ولست أعصيه، وهو ناصري"
قال عمر: "أو ليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟"
قال صلى الله عليه وسلم: "بلى، فأخبرتك أنَّا نأتيه العام؟"
قالعمر: "لا"
قال صلى الله عليه وسلم: "فإنك آتيه ومطوف به"
فلم يذهب الكرب عن عمر حتى جاء أبا بكر الصديق فحدثه بحديث مثله فقال له الصديق رضي الله عنه: "يابن الخطاب، إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبدا، فالزم غرز رسول الله".
ومازاد من شدة الكرب أنه ما كاد الصلح يكتب ويُشهد عليه حتى جاء أبو جندل بن سهيل بن عمر فارا من قريش يطلب الأمان من رسول الله والمسلمين، فرفض أبوه سهيل بن عمر أن يبقى مع المسلمين وأن على رسول الله أن يحترم بنود الصلح، فأمره رسول الله أن يرجع مع أبيه فقال أبو جندل :" أأعود للمشركين يفتنونني في ديني"
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :"يا أبا جندل، اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله، وإنا لا نغدر بهم"
والله كم نعجب ليقين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله ناصره وجاعل له خيرا وللمسلمين، وهو ما كان، رغم أن ظاهر الأمر كان يوحي عكس ذلك.
وكان ممن جاء رسول الله هاربا من المشركين أبو بصير، فتبعه من يطلبه ويصر على أن يعود معهم لأنه جاء بدون إذن وليه.. فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجع معهم وأخبره مثلما أخبر أبا جندل قبله.
فلما كانوا عائدين به، وإذا هم قائلون، باغثهم أبو بصير فأخذ سيفا من أحدهم وقتله وهرب من الآخر، ثم رجع إلى المدينة.. فقال له الصحابة لم رجعت وقد علمت بالصلح الذي بيننا وبينهم.. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: " يارسول الله، أوفيت ذمتك، وأرجعتني معهم، وقد فررت منهم بديني أن يفتنوني، ولترين مني قريش ما تكره".
فخرج من المدينة وذهب إلى إلى جانب من مكة في الطريق التي تسلكها عير قريش في اتجاه الشام، فبقي هناك حتى لحق به نفر من المسلمين المستضعفين الذين كانوا في مكة، فجعل يقطع طريق قوافل قريش ويسلبهم مالهم ويخلي سبيلهم.. ويقول لهم "هذه غنائم لنا بأموالنا التي اخذتموها منا غصبا."
فإذا خرجت طلائع من قريش تطلبهم لتحاربهم تفرقوا في الصحراء فلم تجدهم.. ثم لما يعودوا لتجارتهم تظهر لهم هذه العصبة من المسلمين ويقطعوا عليهم الطريق.
لحق بعصبة أبي بصير كل من أبي جندل بن سهيل بن عمر، والوليد بن الوليد بن المغيرة أخ خالد بن الوليد، وعدد غير يسير ممن استضعفهم المشركون وكانوا لا يظنون أنهم قادرون على شيء حتى بلغوا حوالي 70 من المسلمين فصاروا كتيبة بحق.
العجيب أن من اجتمعوا في عصبة أبي بصير كان أغلبهم ممن لا يرى لهم القوم عزما وحزما.. فقال سهيل بن عمر لما بلغه خبر ابنه أبي جندل مع عصبة أبي بصير " أخيرا أراني أبو جندل من نفسه عزما" فكان مفتخرا بذلك رغم عدم موافقته لما قام به. وكذلك خالد بن الوليد عجب من أمر أخيه وكيف أنه كان لا يرى له عزما فصار مع إخوانه من المستضعفين قوة أعيت قريشا بشدادها.
بقي الأمر على ذلك حتى كسدت تجارة قريش بالشام وصاروا لا يأمنون على عيرهم المتجهة لها فأجمعوا أن ينزلوا عن ذلك الشرط من الصلح يطلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤوي إليه هذه العصبة لأنها ضيقت عليهم.
فلما جاء عصبة أبا بصير البشير، بشرهم، ثم سأل عن أبي بصير فإذا هو مريض طريح الفراش، فما لبث أن مات ودفن هناك.. سبحان الله !
كما لو أن أبا بصير يسر الله على يديه أمر جمع مستضعفي المسلمين من قريش، فلما أنهى "مهمته" بنجاح قبضه الله إليه.. وصدق الله ورسوله، حقا لقد جعل الله للمستضعفين من المسلمين فرجا ومخرجا.
رحم الله أبا بصير.. وألحقنا به مؤمنين.