كلفت بها أشدّ الكلف وما تركت ذكرها طرفة عين. إنّها تعيش في جوانحي. ما رمت بديلاً عنها، كم خالطت غيرها، وسامرت من حسبت أنّها أجمل منها وأعذب، لكن اتّضح لي أنّي شططت عن الصواب وأخطأت التّقدير. وعاشرت من ظننت أنّها أقرب لي نجيّاً منها، لكن هيهات أن تمتزج بروحي أُخرى غيرها، أو أن تحلو لي.. أو أن تكون مناجاتي لنفسي ولأوراقي بغير ألفاظها وكلماتها وحروفها..
إنّها أمّي الّتي لا يلذّ لي حديثٌ إلّا بها، وحبيبتي الّتي لا أملّ التزوّد منها، أو النظر إلى صورها. كلّ من يحدّثني بها هو أخي. وكلّ من يسقني من عذوبتها ويرسم لي صوراً بديعة من جمالها، أو يُطلعني على جوهرة من جواهرها، إنّما هو معلّمي الرؤوف الّذي تنزل كلماته على قلبي حتّى تستقرّ في سويدائه، نزول الماء المعين البارد في جوف الظمآن الّذي لوّحته الشمس في يوم صيفيّ لاهب. وكم من أخ لي لم تلده أمّي.. وكم من معلّم لي لم أره. وكلّ من حدّثني بغيرها، ومهما كان حديثه مفهوماً وطيّب الكلمات، استوحشت منه.
هي طبيبة روحي. وبها سموّ نفسي. إنّها الوعاء الّذي يستوعب ديني، هي نصف الدّين، أو أكثر..
لَرنين ألفاظها أحبّ إليّ من أعذب موسيقى خلقها فنّان. وإذا تأثرت بشيء منها إلى حدّ أن يغشى عليّ فما ذلك بعجيب!
وليس اللّسان بقادر على أن يفصح تماماً عن ما في القلب، فالقلب أقوى على حمل كمّ من الحبّ يعجز عن حمل عُشر معشاره اللّسان.
لا يلتبسنّ الأمر عليكم، أنتم تعرفونها، وبها ترسمون وتبثّون أفكاركم العطرة. أجل أنا أتحدّث عن أمّنا ولغتنا العربية، هذا الكنز الّذي يكاد يندثر، وهذه الشمس الّتي تكاد تخبو.
يا أيّها العرب إنّ هذه اللّغة خير لغة أُخرجت للناس، وأفصح وأبلغ وأعذب، فكيف نغفل عنها ونهجرها إلى اللّهجات العاميّة الركيكة الّتي لا يشرّفنا أن تكون لنا هويّة؟ إنّ هذه اللّغة هي عزّنا، وكنزنا، وهي المادّة الّتي ذخرها الله لنا من الماضي البعيد، مازجاً وحافظاً لنا بها ديننا وتراثنا الأدبيّ العظيم وفكر أجدادنا العريق. وأمّا من طلب سلوة أو ترويحاً واستعان بها أُجزم أنّه لن يفوته ما طلب.
أتقنوها، وحضّوا الناس على تعلّمها تعلّما صحيحاً، من حيث الإلمام بقواعدها ونحوها، وتعويد اللّسان على أن يُبلغ ويفصح بها، وإلّا ضعنا بضياعها وأضحينا أفراداً لا هويّة لنا.
وكأنّها هي الّتي أوحت إلى حافظ ابراهيم شكواها، فبثّ لنا عن لسانها ما أوحته له في قصيدة اقتبستُ منها هذه الأبيات:
فيا ويحكم أبلى وتبلى محاسني ومنكم وإن عز الدواء أساتي
فلا تكلوني للزمان فإنني أخاف عليكم أن تحين وفاتي
أرى لرجال الغرب عزا ومنعة وكم عز أقوام بعز لغات..
التعليقات
يقول تعالى مخبرا عن الكتاب الذي أنزله على عبده ورسوله محمد ، صلوات الله وسلامه عليه : ( وإنه ) أي : القرآن الذي تقدم ذكره في أول السورة في قوله : ( وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث ) [ الآية ] . ( لتنزيل رب العالمين ) أي : أنزله الله عليك وأوحاه إليك .
( نزل به الروح الأمين ) : وهو جبريل ، عليه السلام ، قاله غير واحد من السلف : ابن عباس ، ومحمد بن كعب ، وقتادة ، وعطية العوفي ، والسدي ، والضحاك ، والزهري ، وابن جريج . وهذا ما لا نزاع فيه . قال الزهري : وهذه كقوله ( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله ) الآية [ البقرة : 97 ] . وقال مجاهد : من كلمه الروح الأمين لا تأكله الأرض .
( على قلبك لتكون من المنذرين ) [ أي : نزل به ملك كريم أمين ، ذو مكانة عند الله ، مطاع في الملأ الأعلى ، ( على قلبك ) يا محمد ، سالما من الدنس والزيادة والنقص ; ( لتكون من المنذرين ) ] أي : لتنذر به بأس الله ونقمته على من خالفه وكذبه ، وتبشر به المؤمنين المتبعين له .
وقوله : ( بلسان عربي مبين ) أي : هذا القرآن الذي أنزلناه إليك [ أنزلناه ] بلسانك العربي الفصيح الكامل الشامل ، ليكون بينا واضحا ظاهرا ، قاطعا للعذر ، مقيما للحجة ، دليلا إلى المحجة .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن أبي بكر العتكي ، حدثنا عباد بن عباد المهلبي ، عن موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي ، عن أبيه قال : بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه في يوم دجن إذ قال لهم : " كيف ترون بواسقها ؟ " . قالوا : ما أحسنها وأشد تراكمها . قال : " فكيف ترون قواعدها ؟ " . قالوا : ما أحسنها وأشد تمكنها . قال : " فكيف ترون جونها ؟ " . قالوا : ما أحسنه وأشد سواده . قال : " فكيف ترون رحاها استدارت ؟ " . قالوا : ما أحسنها وأشد [ ص: 163 ] استدارتها . قال : " فكيف ترون برقها ، أوميض أم خفو أم يشق شقا ؟ " . قالوا : بل يشق شقا . قال : " الحياء الحياء إن شاء الله " . قال : فقال رجل : يا رسول الله ، بأبي وأمي ما أفصحك ، ما رأيت الذي هو أعرب منك . قال : فقال : " حق لي ، وإنما أنزل القرآن بلساني ، والله يقول : ( بلسان عربي مبين ) .
لذلك يقاس مدى تأثير و قوة اي ثقافة لدولة ما .. على بلدا اخر.... بمدى انتشار واستخدام لغته. فالبلد الاقوى هو من يفرض لغته وثقافته ... وذلك جلي وواضح للجميع
دام قلمك ا/ على ... العربي ( لك من إسمك نصيب في اللغة )