كانت الشمس تستعد لشروق جميل فوق سماء القاهرة حينما فتح عينيه على منظر ذو ألوان ساحرة .. امتدت نظراته عبر نافذة الطائرة التي كانت شيئا فشئيا من مطار القاهرة تقترب ، إلى ما لا نهاية ، ها هو على مقربة أميال قليلة من حلمه الذي راوده منذ صغره ، مذ كان يعيش في عمق روايات كاتبه المفضل الذي كان و لا يزال ، نجيب محفوظ رحمه الله و غفر له ، كان حين صغره ، يتجول كل ليلة في دروب و أزقة القاهرة العتيقة ، من فرط إبداع الكاتب و دقة وصفه لدروبها التليدة ، عاش في أزقة بين القصرين ، و السكرية ، و خان الخليلي ، كان كل ليلة يلتقي بالسيد أحمد عبد الجواد ، و أمينة ، و ياسين ، في قاهرة الأربعينات ، كان من فرط حبه لهذا الكاتب ، ينفق كل أمواله التي كان بها أبوه رحمه الله عليه بها يجود ، في شراء الأعمال الكاملة لهذا الكاتب الفذ ، و كانت له أمنية وحيدة خالدة ، أن يزور القاهرة ، و يلتقي بكاتبه المفضل ، و يجالسه في مقهاه الحبيبة .. ها هو الآن يحقق له الله أمنيته ، بعد رحيل كاتبه المفضل ، و لا ضير .. على الأقل سيزور القاهرة ، مصر التي غزت قلبه و قلوب الكثير من أفراد جيله ، و لا غرابة ، فمصر صدرت الثقافة لبلدان العرب كما يصدر النحل العسل إلى بقاع الأرض .. و كانت المملكة المغربية ، كما البلدان العربية الأخرى مقصدا لإنتاجات و إبداعات أهرامات مصرية ، كنجيب محفوظ و إحسان عبد القدوس و العديد من الكتاب الأفذاذ ..
اقتربت الطائرة من مطار القاهرة الدولي ، نزل منها هو و زوجه و ابنه ذو الخمس سنوات عبر سلم يوصل إلى أرض المطار التي كانت تربض فيه طائرتان ،واحدة تابعة للخطوط الملكية الأردنية ، و الثانية ، تابعة للمصرية للطيران ، كان الجو فجرا ، مفعما بنسيم ساخن منذر بيوم حار قائظ . صعد الثلاثة حافلة تابعة لمطار القاهرة الدولي ، لتوصلهم بعد دقائق إلى صالة الوصول الثانية ، أثنا تجوالهم في أرض المطار للوصول إلى الصالة ، لفت انتباهه ، شساعة المطار النسبية مقارنة بمطار مدينته . عند الوصول إلى صالة المطار ، انتابه شعور بالخوف ممزوج بفرحة غامرة ، ها هو حلم طفولته يتحقق أمام عينيه و عيني ولده ، ها هو فوق أرض قاهرة المعز ، قاهرة نجيب محفوظ ، تلك المدينة التي نسج لها في خياله معالم ركن فيها كل طفولته و مراهقته و شبابه ، قاهرة مصطفى محمود رحمه الله و غفر له ، الذي عاش بين أحضان برنامجه ، العلم و الإيمان ، قاهرة الشيخ الشعراوي ، الذي كان يقيل على صوته كل يوم جمعة ..
انتابه إحساس بالخوف ، من هذا النظام الغاشم الذي يحكم بالحديد و النار بلدا ، ذكرها الله و شرفها في قرآنه غير ما مرة ، قلب عينيه في صلة الوصول و في أفراد الشرطة ، المتواجدين هناك ، بلباسهم الأبيض الذي اعتاد رؤيته في الأفلام و المسلسلات المصرية ، ملأ استمارة الوصول ، و انتظر حتى جاء دوره ليقابل الشرطي المسؤول عن ختم الدخول ، ناوله الجوازات الثلاث ، حاملا بين ذراعيه ابنه ، الذي أبى إلا أن يرتدي قميص ناديه الحبيب برشلونه ، رمقه الشرطي الشاب ، ليتأكد من ملامحه ، و ملامه زوجته ، و بحث عن التأشيرة ، فختمها ثم فتح جواز ابنه ، و ختمه ، و خاطبه مازحا :
- و انتا يا حبيبي بتشجع برشلونه ؟
لم يك مصطفى يتقن اللهجة المصرية كأبيه فابتسم للشرطي ، و بادره يعقوب رادا عليه
- هوا بيشجع برشلونه ، بس بيحب كريستيانو رونالدو فبيشجعهم الإثنين
- لا ما ينفعش يا ابني ، خليك في برشلونه وضحك ضحكة جميلة شابة
- عالعموم أنا ما ليش في الكورة
- أهلا بيكم في مصر ..
ثوان جميلة ، قضاها أمام هذا الشرطي الشاب ، قضت على كل شعور بالرهبة عنده ، ذهب ليقتني حقائبه ، ثم قصد هو و عائلته مصلحة الجمارك ، كان رجل الجمارك رجلا في الأربعينات من عمره ، ناوله الجوازات ، تفحصها ، ثم سأله يعقوب :
- أفتح الشنط ؟
- لا ما تفتحش حاجة ، اتفضل حضرتك ، أهلا بيكم في مصر ..
خرجوا من بوابة الوصول ، ليصلوا إلى البوابة الخارجية حيث كان من المفروض أن ينتظره السيد يحيى الذي سيوصله فيما بعد إلى مدينة شرم الشيخ حيث ستبتدئ عطلته ، و حيث أن هاتفه لم يكن يتوفر على بطاقة مصرية ، و لم يوجد في المطار وايفاي ، لم يتمكن من التواصل مع السيد يحيى , رمقه سائق تاكسي فقال له :
- تاكس يا باشا ؟
- لا شكرا مستني حد ...
- طب انتا مش لاقيه ؟
- أنا قولته على صالة الوصول نمرة 2 بس مش لاقيه ، هو المفروض هايكتب اسمي للتعارف
- معاك رقمه طيب ؟
-آه
- هاته طيب نكلمه نشوفه فين
- لا بلاش أزعجك
- يا عم ما فيش إزعاج هات
اعطاه الرقم ، ركبه ، و اجاب السيد يحيى الذي كان ينتظر في الناحية الأخرى من الشارع المطل على صالة الوصول ..
- متشكر جدا يا افندم
- على إيه .. روح يا ابني ربنا يوصلك بالسلامة
طلب من زوجته أن تناوله ورقة من عشرين جنيها ، كانت تحتفظ بها من زيارتها السابقة لمصر ، و ناوله إياها شاكرا
- ربنا يكرمك يا باشا .
ركب الثلاثة سيارة السيد يحيى ، و شق بهم طرق مدينة القاهرة ، في اتجاه طريق ستقلهم إلى مدينة شرم الشيخ ، كانت القاهرة في تلك الساعة من الصباح كخلية نحل لم تنم من الليل إلا القليل ، الكل في بحث عن لقمة عيش تسد رمقه و رمق عياله آخرالنهار ، لم يعلم أن القاهرة عالم قائم بذاته ، لم يعلم أن أشياء جميلة تنتظره هناك ، و أن هذه البلاد تستحق الزيارة فعلا ، تستحق أن تعيش بين أكنافها ، ما سيعيشه بعد خمس ليال سيقضيها في شرم الشيخ ، حيث سيقابل أناسا لم يك يتخيل أن يقابلهم يوما ... الصهاينة و عرب إسرائيل ..
في غد ..
الطريق إلى سيناء .. ألم و ذكريات و طور مقدس
-
يعقوب مهدياشتغل في مجال نُظم المعلومات .. و اعشق التصوير و الكتابة