يتسارع النبض ليشابه في سرعته مرور السحاب العابر لصفحة السماء، تبدو الغيوم قلقة، مكفهرة، ثقيلة الخطوات، يمتد من صدرها أهداب رعد يخرق لحاف صمت طويل، وطيف برق يضيء ظلاماً سكن في هجعة ليل بهيم.
تتنادى أحداقها للبكاء، يتسارع وقع السقوط، ترتطم بالأرض، يتقافز الفرح كحبات اللؤلؤ المنضود، يغدو الصوت بلا صدى، والرؤى جانبها الكرى، وفزع الجفاف قد ولى وهوى.
ربما هي أولى أحاديث المطر.
أولى القبل التي تطبعها السماء على وجنات الأرض وبتلات الزهر وأكداس الحنطة والشعير.
يستبيح النور هالة القمر، ويكتب بمداد من ضوء النجوم الحالمة، التي تغدو شامات تزين وجه الأرض مع وجه السماء.
يترنح غبار الشوارع والحارات والأشجار والأرصفة، ليذوب في ذرة طين.
تبزغ على المُحيا نضارة أمل أخضر بعد شحوب رحيل أوراق الخريف المملوءة بالخفة والهشاشة، المهمشة بأقدام المسافرين الراحلين مع أسراب السنونو إلى مطارات الغربة، ومنافي المجهول.
يتأنق الربيع ويتألق، يصبح مقدمه واقعاً لا محالة.
تشتعل حقول الأقحوان وشقائق النعمان والخزامى والسوسن في كل الأرجاء، تهدي عطرها أنفاس الفجر ونسيم السَحَر، وتنسج الضفاف ببسط مطرزة بأجمل الألوان الزاهية.
تستيقظ الأشجار من وهم الاستلقاء، الذي طالما أضر بهيبتها، إنها من خشب عتيق لا يجدر بها إلا الوقوف شموخا، تقاوم جنون الريح العنيد.
مع لمعة نور وقطرات احتشدت على ريش طير، يبتسم قوس قزح ويفتر من ثغره أطياف سعادة ونشوة، تعانق صيحات صغار لاحقت طائراتهم الورقية، وانتعلت أقدامهم الوحل.
تفور القهوة مع تأتأت المطر ونغاء الصغار وابتسامات الصباح الباكر وفلة مازالت بيضاء على فننها الريان.
يتلاشى الغسق، وتتلألأ الحياة بسخاء، وتتبرعم براعم الحب و البهجة، يتلاشى وهم أيام عجاف، وجدب المراعي والبوادي.
يغدو حلم الحصاد والبيادر المكدسة بالحَبِ مع كل قطرة واقعاً قريباً.
وأن زمن الجوع ذهب بعيداً أدراج ريح اليأس البائسة.
في المطر ننجذب إلى الصوت ونحنُ إلى الأصل، ماء وطين .
سِقاءٌ للأرواح وسقاية، وسمفونية تعزف على أوتارها صرخات الميلاد للأحلام البعيدة، لتأتي الولادة في الأرحام سهلة بعد سنين عقيمة.
في المطر لانعرف الجفاف، لانعرف الهَرم.
يحيي القلوب وهي رميم ويبلسم ثقوبها بالشوق والحنين.
ليس أمام الغيمات إلا أن تبكي طويلاً وكثيراً، لأن الجوعى كثر، وزهرنا اندثر، والحصار اشتد، والمناجل تشتاق عناق السنابل الملأى بالخير المروي بالأمل.