صديقي سليم .. - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

صديقي سليم ..

  نشر في 30 ماي 2018 .

قضيت عمري في قرية فقيرة .. ونحن أطفال كنا عندما يأتي مغترب من أبناء القرية من دول الخليج نركض خلف سيارته حتى يصل بيته، نحدق في السيارة ؛ نتلمسها ونتسلق بابها ننظر إلى داخلها مبهورين وكنا نفرح أيما فرح بدرهم أو بضع سنتيمات يوزعها علينا المسافر.

عشت في القرية وأنا أبحث فيها عن شخص يملك مواصفات مناسبة تدفعه للانتحار، كانت القرية صغيرة و هادئة ، كنت اود القول وحقيرة لكي لا يأتي يوم ويشعر أحد أبنائها بمجد ضائع ،كان لايوجد فيها حتى حانوت بقالة . كانت البقالة بالقرية المجاورة، وكانت عبارة عن غرفة بجوار البيت فمن أراد شراء شيء ما عليه ان ينادي بأعلى صوته في حوش صاحب البقالة عشر مرات، ليأتي ويبيعه واحد كبريت وخمس حبات شمع .

ولعل الحق معه ليتأخر في الحضور، فقد كنا زبائن فقراء ولا نستحق عناء تركه جلوسه مع زوجته و أبناءه.

حسنا لست الآن بصدد وصف جغرافية قرية ليست مذكورة في كتب التاريخ .

الان لدي رغبة بالإعتراف بشيء قد يثير نجاعة بعض المتخصصين في العلم الجنائي مع أنني لا أعتبر نفسي أصغر قاتل في العالم، فأنا أتذكر جريمتي وتفاصيلها الدقيقة بطريقة كوميدية، لذلك أنا الأن أروي قصة جنائية ليس بدافع الاعتراف والخلاص من الذنب، بل لأجل تسلية الناس في هذا الزمن الذي أصبح وعاءا للخيبات والأوجاع المتثالية.

ففي السابعة عشرة من عمري حصلت على صديق يملك مقومات مناسبة لأتقرب منه، كان يملك حماراً وأهله يشتهرون بزراعة الفوم ، ولكن أكثر ما ميزه فيما بعد هو اسمه الذي أخطئ أبواه في تسميته : سليم ؛ فهو لم يكن سليما بالمره.

القدر منحه رجاحة عقل كافية وسلب منه مجازفة الوجود كما أنه كان تلميذا مجتهدا في مادة اللغة الانجليزية والرياضيات. و لا ادري كيف كان يحفظ عدد و ألوان الاقلام التي كان يعيرني إياها في كل مرة. 

هذه المقومات كانت كافية لأتقرب منه وأخصص له معظم وقتي وأقضيه معه في البحث عن شتيمة جديدة للآخرين.

كنا مراهقين وكان سليم يحب الجرائد تلك التي يوجد فيها صور كثيرة للنساء وتلك التي فيها صور إعلانات عن منتجات نسائية. حتى انني عرفت لاحقا انه كان يحاور في خلوته تلك الصور التي في آخر الصفحة .

كنا نتسلل إلى حقل والده لسرقة الفوم..

سافر سليم برفقة والده وأخيه الأكبر إلى المدينة لإجراء عملية لوالده .فلبثوا في المستشفى لفترة أكثر من أسبوعين ، أعجب سليم بمساعدة الطبيب والتي كانت هي المسؤولة على حالة والده ودائمة التردد على غرفته، كانت تكبر سليم بثمان سنوات على حد قوله .و بعد عودتهم القرية اخبرني أن الطبيبة تحبه وان لديه رقم هاتفها ؛ فقد كان دائم الحديث عنها..

كان سليم يملك هاتفا من نوع نوكيا أول موديل على عكسي، كنت معجبا بذلك التلفون و لطالما كنت أتحايل عليه كي العب لعبة الحنش، كان سليم دائما ما يتصل إلى خدمات الشركة وعندما يرد عليه صوت رجل يغلق التلفون ويكرر الاتصال كي يحظى بسماع صوت امرأة.

ألان بات يتصل إلى الطبيبة ويسمع صوت امرأة يناديها باسمها وكان يتعلل بسؤالها في كيفية استخدام العلاج وكل يوم يخلق مبررا جديدا وهكذا . ومن كثر إزعاجه لها كانت نادرا ما ترد عليه ، كان حبه لها من ذلك النوع، حب الطالب لأستاذته ، بعد فترة أصبح هاتفها مغلقا . فأصبح سليم منزعجا طول الوقت .

بعد شهرين كانت عودة والده للمستشفى وهذا جعل صديقي مسرورا جدا لأنه سيلتقي بالمساعدة فكانت المفاجأة والصدمة ..

فالمساعدة لم تعد متواجدة في المستشفى واخبروه أنها تزوجت وسافرت مع زوجها إلى السعودية فأصاب الخبر صديقي بخيبة كبيرة وعجز عاطفي حتى أن الصدمة دفعته في احد الأيام إلى التفكير بالانتحار .

كان متأثرا بالأفلام الرومانسية الهندية.

وفي إحدى الصباحات و عندما كنا متسللان إلى حقل جده أخبرني أن رغبة الانتحار لديه أصبحت أكثر إلحاحا وبصراحة راقني الأمر ، تخيلت أن الأمر سيكون مثيرا وأنني قد أكون المشتبه الوحيد في قضية موته ،لذلك تعمدت أن أتركه وحيدا لتزداد تلك الرغبة على الانتحار.

تركته وحيدا وأكملت بقية يومي الذي كان من المفترض أن اقضيه بالدراسة متعللا بالمرض.

بعد مغيب الشمس هرعت القرية لصراخ امرأة يصل عويلها إلى القرى المجاورة ،عندما وصلنا إلى المكان وجدناها ام سليم، كانت تصرخ وتولول وتستنجد الناس للبحث عن ولدها الذي اعتقدت أن مكروها قد أصابه.

ولم تكذب القرية الخبر وخرجت برجالها ونسائها للبحث عن صديقي مصطحبين معهم قناديل الفتيل للبحث عنه في عتمة الليل.

بقينا نبحث لأربع ساعات متواصلة، ولم يكن قد ظهر اثر لصديقي الذي كنت أتشوق لرؤيته مشنوقا على شجرة القرية، وأرجله تتدلى كعقارب الساعة.

بعد ست ساعات من البحث تلقينا نبأ إيجاد صديقي عند بيت احد أقاربه في إحدى قرى المنطقة المجاورة ،فعدنا أدراجنا وحلفت والدته بكل المقدسات، أن لا يرحل احد إلا وأن يتعشى عندها تلك الليلة .كان العشاء معصوبة بالسمن واتذكر جيدا إنهم لم يقدموا لنا فوما ولا بلسة واحدة أو كوب صعة _ حليب البقرة _والتي تخيلتها كنوع من الثواب على تعب البحث عن ابنهم الذي كان مفقودا ومنذ ذلك الوقت أصبح كل أهل القرية ينادونه :سليم الضايع .

هرب سليم لاحقا من القرية بعد تخرجه من الثانوية مسافرا إلى السعودية للعمل هناك كدهان. ثم عاد بعد ست سنوات راكبا سيارة فاخرة و هاتفا نقالا حديث يحوي على الكاميرا و جديد التكنولوجيا. وكانت له هالة كبيرة حتى إن البعض صار يناديه الشيخ سليم.

اما أنا فلازلت ضائعا ابحث عن صديق يتوفر فيه المقومات المناسبة للانتحار ..


  • 10

   نشر في 30 ماي 2018 .

التعليقات

ابو البراء منذ 9 شهر
ههههه رهيب
0

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا