هل عاد دارناطينوس من بين الأموات ليسلب حضارتنا ؟
هل أصبحت ظاهرة إحياء الشخصيات الميتة تاريخيا موضة تجارية جديدة ؟
نشر في 01 يناير 2018 وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .
و أنا جالس بحي النجع القديم باسكندرية , أرتشف قهوتي الصباحية ككل يوم , حاملا جريدتي المفضلة التي أقرؤها على الدوام , حتى لفت انتباهي احدى المقالات المصغرة في أسفل الصفحة بعنوان " باحثون ايطاليون يتوصلون إلى أن المسيح سافر إلى الأمريكيتين " , نزعت نظارتي و مسحتها ثم أعدتها لأنظر و أدقق النظر مجددا في كلمة " المسيح " , فوجدت أن العنوان لا زال كما هو , لقد زعزتني نزعتي الدينية المسيحية , فكيف أصدق هذا العنوان الذي يعتبر مخالفا للناموس الذي كبرت عليه من المهد , و كل التاريخ الذي تعلمته من الكنيسة و من كل كتاب قرأته عن السيد المسيح الذي مات مصلوبا و قام بين الأموات في اليوم الثالث و عاد لملكوت الرب , دخلت مباشرة في صلب الموضوع لأكتشف التفاصيل , فوجدت أن هذا الاستنتاج تم التوصل إليه عن طريق إعادة إحيائهم لما يسمى بـ " معضلة دارناطينوس " , فعرفت مجريات المقال من غير أن أكمله حتى !
إن إحياء ما يسمى بـ " معضلة دارناطينوس " لهو بحد ذاته تخريف و إضاعة للمال و الوقت , فقد نوقشت قبل عقود في إيطاليا و تم تصنيفها ضمن مجال الميثولوجيا كون مصادرها لم تتجاوز بضع كتب طغى عليها الغبار و أكلتها الحشرات و لم تعد أصلا ذات قيمة تاريخية و علمية , إضافة إلى الكتاب المزعم تأليفه من طرف الرحالة الايطالي " ميشالانجيلو صوديريني " الذي كان بعنوان " قصة دارناطينوس الفيلسوف البربري " , الذي يزعم بعض المؤرخين الايطاليين انه ترجمة للكتاب الاصلي لهذا الفيلسوف البربري و الذي تمكن " ميشالانجلو " من العثور عليه في نهاية القرن السابع عشر في جنوب امريكا الشمالية , رغم أن موضوع " أسطورة دارناطينوس " قد تم إغلاقه بتصنيفه ضمن " الميثولوجيا " في بدايات التسعينات , إلا أن ما يعرف بـ " نادي سانتا لوس رومانا " أعاد فتح الجدل بخصوصه بطباعة نسخة جديدة من كتاب " قصة دارناطينوس " في عام 2004 و إعادة طبع نسخة ثانية مترجمة إلى العربية من طرف الكاتب المصري " آدم زكي " في عام 2006 , لا أخفي على القارء شيئا و لكنني اعترف انني اقتنيت نسخة منه بعد عام تقريبا عن طريق صديق مقرب من هناك و حاولت استكشاف شخصية " دارناطينوس " الذي انتشرت عنه شائعات و اساطير عديدة منسوبة , فوجدت أنه مجرد شاب بربري كان والده راعي خنازير , حاول صنع المجد لوطنه بذكر أساطير بأن أجداده الذي سبقوه بآلاف السنين كانوا ذوي علم بكل العلوم و أنهم هم بناة الحضارة و أنهم هم من بنى الأهرام و شيدوا المباني الضخمة , و أن خراب حضارتهم كان بسبب الحضارات المجاورة كالحضارة المصرية و بعض الحضارات الغريبة الاسماء المبهمة أماكنها , و كذا روايته لقصته حيث ذكر أنه ابتكر فلسفته الخاصة استنادا على فلسفة أجداده و علومه , و محاولته اكتساب المعارف الجديدة بالسفر إلى اليونان , و كذا انضمامه للجيش الروماني ثم تمرده عليهم و التأثر بمبادئ صديقه الروحي " يانايور " , إضافة إلى بعض الأحداث لسنا في صدد للتطرق إليها , بل و فقد ذلك أيضا محاولة هؤلاء الباحثين نسب تسمية أمريكا إلى هذا الفيلسوف البربري , و الزعم بأنه قام بتسميتها باسم " أموريكا " و الذي يعني بالبربرية " أرض الوطن " بإضافة الاختصار الروماني " إيكا " الذي يأتي في نهاية كل كلمة ترمز إلى منطقة معينة .
باختصار أرى من خلال قراءتي لذلك الكتاب , أن شخصية " دارناطينوس " كانت شخصية عنصرية متعصبة للقضية البربرية معادية للحضارات المجاورة و للوافدين , و كذا شخصية مهرطقة تكره رجال الدين و المعابد , بل تصل بها الوقاحة إلى تشبيه المعابد بـ " غار الشياطين " , و كذا التدخل في الفلسفة الدينية و القول بأن جنة الرب هي في تخلص أرواحنا من هذه الأجساد المنهكة و رحيلنا إلى مكان لا ذكر فيه و لا أنثى و لا شيخ و لا شاب و لا شهوة و لا أي شيء آخر يمكن تخيله , إضافة إلى هرطقات أخرى ..
في الحقيقة ما الفائدة أًصلا من إحياء شخصية ميتة تاريخية و لم يتعدى ذكرها بضع أسطر في كتب بالية لم تعد ذات قيمة أصلا , و هل في إحيائها مصلحة للجهة الناشرة أو محاولة تجارية كسبية , أم محاولة تشويه و طمس للحضارات الأخرى ؟
و لكن ما يزعجني حقا هو أنه كيف لجريدة مصرية لا داعي لذكر اسمها أن تذكر هذه الشخصية التي كانت تعادي مصر و الحضارة المصرية و تحاول سلب انجازات الحضارة المصرية لنسبها لحضارة اخرى , بل و ما دخلنا فيها أصلا و لماذا التطرق لدعوة الباحثين الجزائريين في المساهمة في البحث لإحياء هذه الشخصية .
أقول إلى كاتب المقال و إلى رئيس تحرير تلك الجريدة , فلنبقى في تاريخ بلدنا الذي يعود إلى أكثر من 5000 عام بدل من التطرق إلى تاريخ أوطان لا ناقة لنا و لا جمل معها , فرغم احترامي للحضارة البربرية , و لكن تعدي حضارة على حضارة أخرى بل و السعي إلى دعمها لهو أكبر جريمة في حق التاريخ .