الفنون الاكدية طه باقر - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

الفنون الاكدية طه باقر

منقول عن مصدره الفنون الاكدية

  نشر في 05 شتنبر 2023 .

فنون العصر الاكدي

الفصل الأول

فنون العصر الأكدي

(2370-2230ق.م)

البنية الفكرية للدولة الأكدية

تمهيد

في أواخر أيام السلطة السياسية السومرية أي بحدود (2370ق.م)، تمكن أحد حكام السومريين في مدينة الوركاء وأسمه (لوكال زاكيزي) من توحيد دويلات المدن السومرية وعددها أثنتا عشرة، فأنهى بمشروعه السياسي هذا، حالة فدرالية المحافظات السومرية، التي تمتعت بموجبها هذه الدويلات بالأستقلال الذاتي. ومد نفوذه بعدها بالفتوحات الى خارج القطر، مؤسساً ما يصح أن نسميه بالأمبراطورية.

وبعد مرور نحو ربع قرن من قيام (لوكال زاكيزي) بمشروعهِ الأمبراطوري، تمكن (ضابط) من أصل أكدي إشتهر في التاريخ بإسم (سرجون) أي الملك الحق او الملك الشرعي، من أن يثور ضده بالجند الذين تحت أمرتهِ. ومع إننا نجهل تفاصيل المعركة التي نشبت بين هذين البطلين، بيد إنها كانت على ما يبدو حرباً عنيفة، نظرا لما عُرِفَ به البطلين من البأس والقوة. فكان هجوم (سرجون) على مدينة الوركاء- مدينة الأعياد- عاصمة خصمهِ، عنيفاً ومباغتاً، دمرت فيه اسوار المدينة، وأستطاع ان يأسر (لوكال زاكيزي)، ويأتي به مصفداً بالأغلال الى بوابة معبد الأله (إنليل) في مدينة (نفّر) بالقرب من قضاء (عفك) في الديوانية، بوصف (إنليل) مصدر السلطة ومبدئها الفعّال. وذلك مشهد أقنع الناس بإنتصاره، وأثبت لهم بان السلطة السومرية السياسية قد أُسقطت وتم التغلب عليها، وبدأ عهد جديد هو عهد الدولة الأكدية.

قدَّم سرجون الأكدي نفسه للشعبين السومري والأكدي، بدلالة النص الأسطوري، فقد قالَ: "إن أمي كانت كاهنة عليا في المعبد، ومن صنف الكاهنات اللاتي منعن من الزواج، ولم أعرف أبي وكان متجولاً، وأصلي من مدينة (الزعفران) على نهر الفرات. وحملت بي أمي ووضعتني سراً، فأخفتني في سلة مُقيّرة من الحلفاء، وغطّتني ورمتني في الماء الذي لم يغرقني. وحملني الماء الى (آكي) ساقي الماء، فأنتشلني وربّاني وإتخذني ولداً، وجعلني بستانياً عندهُ، وبينما كنت أعمل بستانياً، أحبتني الألهة (عشتار) وتوليت الملوكية" (طه باقر، 1973، ص 360).

أما تسمية (أكدي) و (أكديون) فهي مشتقة من إسم مدينة (أكد) التي أسسها مؤسس السلالة (سرجون) وإتخذها عاصمة له، فهي بذلك تسمية لاحقة لوجود الاكديين على أرض الرافدين، وهم الساميون (الجزريون) الذين نزحوا الى هذه الأرض الطيبة المعطاء حباً بخيراتها المتنوعة، وعاشوا جنباً الى جنب مع السومريين منذ اقدم الأزمان، إلا إن الأمر الذي أرَّق استاذي المرحوم (طه باقر) وما زال يؤرّقني كل حين، هو عدم إكتشاف هذه العاصمة العظيمة حتى هذه اللحظة.

وقد وضع الأستاذ (طه باقر) لموقعها احتمالين: "اولهما أنها تقع في مكان ما بين المحمودية والحلة، والأحتمال الآخر، أنها تقع في مدينة بابل الأثرية نفسها، إذ ذكرت النصوص الكتابية ان (سرجون) أخذ تراب بابل لتأسيس مدينة تنافسها، الأمر الذي أغضب إلاهها مردوخ، وصار هذا الحدث من الأسباب الهامة في سقوط الأكديين" (طه باقر، 1973، ص 362).

وإذا أخذنا بنظر الأعتبار ان الروائع الفنية الأكدية مثل الرأس البرونزي ومسلة النصر، وغيرها الكثير، كانت قد اكتشفت في المدن التابعة للعاصمة الأكدية، فلنا ان لا نتوقع أنها بأسوارها الضخمة ومعابدها المهيبة وقصورها الهائلة الحجوم وروائعها الفنية مثل التماثيل والمسلات الكبيرة الحجوم، ما زالت مختفية تحت تراب أرض الرافدين حتى هذه اللحظة،رغم الاكتشافات العديدة التي قامت بها البعثات العراقية والأجنبية طيلة القرنين الماضيين. ولذلك فنحن نرجح رأي الأستاذ (طه باقر) بكونها تقع في مدينة بابل ذاتها، كامنة تحت أطلال بقايا العصر البابلي الحديث، وبقايا العصر البابلي القديم (عصر حمورابي). فلو اكتشفت بقايا هذه الحاضرة التي تستحق ان نسميها (عاصمة الشرق القديم) ذات يوم، سوف تنبعث من رحم ارض الرافدين عشرات التماثيل البرونزية والرخامية والحجرية، ومثلها من أفاريز النحت البارز المعمارية وأعداد كبيرة من المسلات والأختام الاسطوانية، التي لا يستطيع احتوائها المتحف العراقي بسعتهِ الحالية، وسنعرف في حينه ان أساتذة الفن التشكيلي وفن النحت بشكل خاص لم يكونوا الفراعنة او الإغريق وإنما فنانو (أكد) العظام.

الجوهري في الموضوع هو أن بنية حضارة بلاد الرافدين في العصر الأكدي، قد شكلت تحولا هاما في بنيتها الكلية عن الحضارة السومرية السابقة، فإذا فهمنا التحول على أنه تغير من حال إلى حال آخر، بغض النظر عن كونه يُشّكل تطوراً او نكوصاً، وبغض النظر أيضاً، عن درجة ذلك التحول الذي يقاس بمقياس أشبه بمقياس (ريختر) الذي يحدد درجة الهزات الأرضية، يمكننا القول أن بنية الحضارة السومرية، التي تشكلت بموجب عوامل فكرية ضاغطة متبادلة التفاعل أهمها: هيمنة المعتقدات الدينية، وإنعكاسات اشتراطات البيئة الطبيعية وسطوة الحكام وغيرها، قد تخلخلت أنظمتها، بسبب تخلخل أهمية تلك العوامل الضاغطة في حركة الفكر في بنيته العامة، الأمر الذي أدى الى ولادة بنية فكرية جديدة يُهيمن فيها نظام مهيمن هام هو سطوة الملوك في تشكيل صورة الفكر. فأنتقل الفكر من خاصية الفكر (الميتافيزيقي) السومري، الى النظام العلماني الأكدي.

ولذلك فان دراسة تحليلية لمنظومة العلاقات الموضوعية والمادية والشكلية، التي إنتظمت بشكل أنساق، في بنية (الصور) التشكيلية الأكدية، ممثلة بالأبنية المعمارية والتماثيل والمنحوتات البارزة والاختام الاسطوانية، تُظهر ان عملية فهم وتفسير هذه الابداعات الخالدة، تُعد عقيمة، دون الألمام بالمحركات الفكرية المهيمنة، في حركة الفكر الحضاري الأكدي. وفي ذلك نوع من تفعيل هيمنة (المرجع) في بنية مثل هذه المنجزات الفنية، بوصفها إفرازاً من إفرازات البنية الحضارية الاكدية. فهذه البنية المنغلقة على ذاتها والمكتفية بذاتها، كيفّت أنساقاً من الضغوط الفكرية، مغنطت (الاشكال) بروحية (إخبارية) وتوثيقية لنشاطات الملوك، فقبلها الفكر الاكدي (الجمعي) دون قهر، بعّدها نظاماَ (إعلائياً) للشكل في مثاليتهِ الموقرة.

فلو أُقيم (معرضُ) دون جدران، لجميع المنجزات التشكيلية الابداعية العالمية، وبما يشبه متحف (مالرو) الخيالي. يمكن من أول لمحة، تَعّرف وتشخيص الابداعات التشكيلية الأكدية عن سواها، لما يميزها من طابع أصيل، وهوية محلية محددة، ونمذجة موضوعية وشكلية متضايفة ومتعالقة بشكل حيوي مع محركات الفكر الحضاري الاكدي. وأهم هذه المهيمنات الفكرية هي سطوة ملوك أكد الذين لقبّوا أنفسهم بألقاب الآلهة. الأمر الذي قسمَّ (نوعية) المنجزات التشكيلية الاكدية الى صنفين، هما المنجزات التشكيلية الملكية (الرسمية) واشهر أمثلتها أبنية القصور والتماثيل والمنحوتات البارزة، والآخر هو الابداعات الفنية (الشعبية) واهم نماذجها هي الأختام الاسطوانية.

سطوة الملوك الأكديين:

يمثل العصر الأكدي بداية عصر جديد، تغيرت فيه بنية حضارة بلاد الرافدين، من النواحي القومية واللغوية والسياسية. فقد حكم بلاد أكد عشرة ملوك، إستناداً الى أثبات الملوك الاكدية، كان من أشهرهم (سرجون) وحفيده (نرام ـ سن) أي محبوب الأله القمر. اللذان إتخذا لقبا جديدا هو (ملك الجهات الاربع) وتشير دلالته الى كونه مظهرا من مظاهر إتساع وتعاظم السلطة بفعل توسع رقعة الدولة الاكدية. وهو كذلك ذي مدلول (ديني) لتثبيت السلطان السياسي، اذ كان أحد ألقاب الآلهة مثل (آنو وإنليل). فقد صار الملوك الأكديين ممثلين للآلهة في حكم العالم.

وبغية تثبيت الملوك الأكديون لسلطتهم وطاعتهم العمياء، فقد كتبوا أسمائهم مسبوقة بالعلامة الدالة على أسماء الآلهة، والأكثر من ذلك التطاول فقد لقب (نرام ـ سن) نفسه بلقب (إله أكد) . وأدخلوا أسم الملك في العقود القانونية مع أسماء الآلهة، ووحدوا التقويم بعد ان كان لكل مدينة تقويمها الخاص بها واسماء أشهُرها واعيادها الخاصة. ودكّوا أسوار المدن، فصار حكام المدن جميعاً يلقبون أنفسهم بعنوان (عبد الملك).

وأوجد (سرجون) نظام الجيش القائم على التعبئة العامة، وأحدث أساليباً تعبوية جديدة في أساليب القتال والسلاح، فقد أبطل نظام الصف والكتل البشرية الحائطية في نظام القتال عند السومريين. واحل محله اسلوباً يقوم على المرونة والحركات الحرة والمناورة في ميادين القتال، واكثرَ من استخدام اسلحة الرماية والقذف باستخدام القوس والسهم.

فأهم ما يميز الفكر الملكي الأكدي، هو كثرة الفتوحات الخارجية، التي أنجزها مؤسس الدولة الملك سرجون وخلفاءه (ريموش ومانشتوسو ونرام سين)، واسفرت تلك الفتوحات عن تكوين إمبراطورية واسعة، شملت معظم أجزاء الهلال الخصيب، وبلاد عيلام في إيران، والأقسام الشرقية من آسيا الصغرى الى سواحل البحر المتوسط. ومن المناسب ان نورد هنا، خلاصة ملحمة (سرجون) المسماة (ملك الحرب) وباللغة الأكدية (شار- تمخاري) ومفادها: "إن جماعات من التجار الأكديين كانوا يقيمون في المدينة المسماة (بورشخندا) الواقعة جنوب تركيا. أرسلوا الى الملك (سرجون) يستعطفونه لحمايتهم من الأضطهاد الذي حلَّ بهم من قبل حاكم المدينة، فاستجاب (سرجون) لشكواهم، وخفَ لنجدتهم بحملة حربية وجهها الى تلك البلاد النائية، ولاقى فيها الصعاب، ولما بلغ المدينة إستسلم له حاكمها، وفرضت عليه معاهدة حربية"(طه باقر، 1973، ص 364).

زحف ملوك أكد برجالهم الرماة المشهورين برشاقة الحركات وخفتها. لاخضاع المدن الواقعة على طول نهر الفرات، والاستيلاء على بلاد الشام، وفرضوا السيطرة على أشهر الموانيء الفينيقية على البحر المتوسط مثل جبيل (إبلا)، وبلغوا غابات الأرز المشهورة في ملحمة كلكامش، ومن ثم الى جبال طوروس التي عرفوها بأسم جبال الفضة. ووصلوا بفتوحاتهم الى جزيرة كريت التي أسموها (كفتارا)، بدلالة ما وجد من اعداد الأختام الاسطوانية الأكدية في هذه الجزيرة النائية.

وذكرت الكتابات الأكدية: "أن الملك (مانشتوسو) قاد اسطولا بحرياً، واستولى على مدن (دلمون) البحرين حالياً، و(مكان) أي عمان، ووصل الى إقليم (ملوخا) الذي يشير الى بلاد السند. وجلب الفضة والأحجار الجيدة منها، وأمر بنحت تمثال له منها، وقدمه الى الأله (إنليل)"(طه باقر، 1973، ص 366). حقاً لم ينقص الجيوش الأكدية سوى القوة الجوية.

استهدفت الفتوحات الاكدية بالدرجة الاساس، السيطرة على البقاع الغنية بالموارد والمواد الأولية لأزدهار الحضارة، فقد اشارت النصوص الكتابية الأكدية،"الى ان السفن التجارية القادمة من مناطق مختلفة من العالم قد رست في ميناء العاصمة أكد، وهي محملة بالمواد والبضائع المتنوعة" (لويد،1980،ص163).

ومع الفتوحات الواسعة، حققت حضارة بلاد الرافدين في العصر الاكدي، إنتشاراً واسعاً، فقد استعارت الكثير من الشعوب نظام الخط المسماري لتدوين لغاتها المختلفة واصبحت اللغة الأكدية لغة المراسلات الدبلوماسية في العالم. وكذلك إنتشرت العديد من القصص والملاحم والأساطير والمعتقدات الدينية الرافدينية، الى مناطق مختلفة من العالم، فكانت عاملا هاماً في تحضر الكثير من الشعوب البدائية آنذاك.

وأحدث الاكديون تطورا ملحوظاً على نظام كتابة الخط المسماري وشكل الكتابة بشكل عام، فالألواح الطينية الكتابية الاكدية، ذات اشكال منتظمة يسهل التعرف عليها، مقارنة بالالواح السومرية ذات الاشكال المدورة تقريبا او لنقل ذات الزوايا المدورة، التي تتميز بكتابة غير منتظمة التسطير. فقد تميزت الالواح الاكدية بجودة أطيانها واشكالها المستطيلة المنتظمة وكذلك هندسة كتابتها وتخطيط أسطرها، إذ نقشت العلامات المسمارية بعناية ودقة، فأمتلكت مظهرها الأنيق المميز من بين الألواح الكتابية في أنظمة الكتابة المسمارية في بلاد الرافدين.

وأدخل الاكديون الساميون كذلك في نظام الخط المسماري، الذي وجد في الأصل لتدوين اللغة السومرية. بعض التحويرات لجعلهِ ملائماً لتدوين اللغة الاكدية، ومع ذلك تأثرت اللغة الأكدية عند تدوينها بالخط المسماري،"فأختفت بعض الأصوات منها، وبوجه خاص حروف (الحلق) والاصوات السامية الأخرى مثل الضاد والظاء والعين والحاء، لعدم وجود علامات مسمارية خاصة لكتابتها" (طه باقر، 1973، ص 356).

وظهرت في العصر الآكدي ظاهرة لغوية أخرى في نظام الخط المسماري، وهي ان العلامات المتخذة رموزاً للدلالة على الكلمات في اللغة السومرية، صارت تقرأ في اللغة الأكدية بما يرادفها من كلمات في هذه اللغة، فكانت الحاجة ماسة الى وضع نوع من (المعاجم) لشرح العلامات السومرية وما يرادفها من كلمات وقيم أكدية.

تمتعت بلاد الرافدين في ظل سطوة الملوك الأكديين، بحكومة مركزية قوية حفظت الأمن الداخلي، ووضع الملوك تنظيماً جيداً للتجارة مع العديد من الأقاليم النائية في العالم، لاستيراد المواد الضرورية لازدهار الحضارة ومنها خامات الفنون التشكيلية المتنوعة، وكذلك ادى نجاح الفتوحات الواسعة الى كثرة الغنائم وازدهار الأقتصاد، ومع هذه (البحبوحة) الأقتصادية وحفظ الأمن وإنعدام الفوضى، وتشجيع الملوك للفنانين لتخليد أعمالهم الحياتية والفردية، حقق الفن التشكيلي إنجازات نوعية هامة، تحتفظ بها معظم متاحف العالم، بكل فخر، حتى هذه اللحظة.

وفي الوقت الذي أمسك فيه الأكديون بزمام السلطة السياسية لأول مرة، كانوا منذ البداية من الادراك والوعي الفكري، لأن يواصلوا المسيرة، بدلاً من أن يقوضّوا ما أنتجه أسلافهم في كافة المجالات، وتلك صفة وسلوك إنساني رفيع الشأن ، فالقطيعة لا تسبب إلا الغثيان والتشتت ومن ثم النكوص.

فلم يكن هناك أي (توقف) واضح في تقدم المدنية، ولا أي ثغرة في تطور الفنون. ومع ذلك فان (السجية) السامية راحت تفرض نفسها بشكل مصيب، وتطبع المسحة الخاصة بها، وخيالها أيضاً، على أعمال الفن... وتتصدى لوقت ما، لصرامة السومريين وربما كهنوتهم الموغل بإفراط في الفكر (الميتافيزيقي). وفي النهاية دمرت الحواجز القديمة، وراح نهر الحياة يتدفق بطلاقة اكثر. لكن هذه الحرية كانت أبعد من أن تشجع الأضطراب أو الفوضى. فملوك أكد الأقوياء لم يتساهلوا مع أية مخالفة للقوانين في ممتلكاتهم.

لقد حافظ الفنان الاكدي بأمانة على القيم الحضارية التي ورثها عن السومريين، واستطاع بكل جرأة ان يطور تلك القيم ويصوغها بأطار جديد يتجاوب والظروف الموضوعية لمرحلتهِ التأريخية، التي تختلف عن السومريين بنظرتها للحياة. ففلسفة الدولة الأكدية تأسست على فكرة الملك القوي، والسلطة المركزية الموحدة، والحملات الحربية الناجحة، والقانون الصارم، وحركة البناء الناشطة بشكل ملحوظ.

لذلك تميز الفن بروحيتهِ الخاصة، المشوبة بطبيعة ملكية، وخضع بتوجيههِ لأدارة الملوك، فكان يزدهر بقوة شخصية الملك، ويضمحل بضعفها. فقد نُسيت تماثيل المتعبدين السومريين، المحدقة بالسماء، والمكتسية بروحية من الزهد الديني، التي أخلصَ لها السومريون إيما إخلاص. وحلت محلها منحوتات معبّرة بشكل فعال عن شخصيات هؤلاء الملوك العظام، الذين تطاولوا بألقابهم على ألقاب الآلهة، وتزينوا برموزها المقدسة.

إن دراستنا التحليلية لفنون الدولة الأكدية، ستواجه مشكلة تتعلق بقلة المنجزات الفنية التشكيلية بشكل عام من هذا العصر. ولعل السبب يرجع كما أسلفنا القول، الى عدم إكتشاف عاصمة الدولة الاكدية لحد الآن. لذلك فان اغلب النماذج الفنية التي سنخضعها للدراسة، قد اكتشفت في أقاليم ومدن الدولة الاكدية. ومع ذلك فليس في هذا أية خطورة، لأن اسلوباً وطابعاً فنياً خاصاً وموحداً ساد المحافظات والمدن والأقاليم الأكدية، وشمل بخصوصيتهِ المتفردة جميع مجالات الفنون التشكيلية، التي نشطت بشكل مثير، شأنها شأن جوانب الحياة الاخرى، وأولها فن العمارة.

1- فن العمارة الأكدية:

تتداخل في تركيب الأسلوب الفني المعماري، عدة عوامل اهمها: خاصية ومواصفات الوسيط البيئي الطبيعي، فهو الذي مَيزَّ أبنية المعابد السومرية الطينية، عن مثيلاتها الحجرية الاشورية والفرعونية، او الرخامية الاغريقية. ومنظومة المرجعيات الفكرية الضاغطة، فهي التي قررت الأختلاف ما بين ابنية المعابد والقصور والمسارح وغيرها. والرؤية الذاتية للفنان، التي كان لها الدور الهام في تحول ابنية عصر الحداثة التجريدية ذات الخطوط والسطوح الحادة، الى ابنية عصر ما بعد الحداثة المفرطة في استخدام الاشكال التزينية وهكذا.

فأذا آمنا بفكرة (هيغل): بأن فن العمارة، هو المخطط الأرضي بعد رفع الأحجار عنهُ". فان فن العمارة أكثر الفنون تجريداً، فقد أُستخلص فيه المضمون الى شكل. وبنفس الطريقة التي لخصَّ فيها (موندريان) نظام الكون: الى خط أفقي يمثل الارض، وآخر عمودي يمثل حركة الشمس. فشأن (العمارة) في ذلك شأن الموسيقى، بوصفها نوعاً من البنية(الرياضية) التي تعرض ذاتها كانظمة أشكال خالصة، عوضاً عن ترديد معالم المظاهر الخارجية. ومشكلة فن العمارة الاساسية هي ارتباطها بالوظائف التي أوكلت اليها، فهي تتدخل بشكل (ساخر) في تقرير انظمة الأشكال. ولا ضير في ذلك، فان جمالية فن العمارة الأساسية، هو تناسب فضاءاتها الشكلية مع وظائفها.

ورغم كون المباني المعمارية أنظمة شكلية تجريدية، إلا إنها تحتفظ بدلالات رمزية، منذ كهف التاميرا وحتى ناطحات السحاب في نيويورك. ذلك ان مدلولات خطابها التداولي الشكلي، قد إمتلك تأويلاً رمزيا، ذو دلالات مفاهيمية واسعة ضمن حركة الفكر الأجتماعي. فالمعبد كنسق شكلي مثلاً، يحتفظ بشفرة التقديس على مَرّ العصور، بفعل تقديس بنية الفكر الأجتماعي له، فهناكَ شيءَ من خاصيات (آلالهة) قد حلّ به، فارتقى من مواصفاتهِ المادية نحو عوالم القدسية. وكذلك القصر الذي إرتقى من كونهِ بيتاً كبيراً، الى صيرورة أخرى، بفعل قائمة طويلة من الممنوعات.

إن دراسة تحليلية لمنظومة العلاقات التي تميز الأبنية المعمارية، تظهر أنها نسق من العلاقات الرابطة بين مجموعة من العناصر البنائية، واهمية أي عنصر في التكوين المعماري، متأتية من نظام الترابط والتفاعل ما بين المكونات التركيبية للجسم المعماري. فهي تقترب بخصائصها التعبيرية والجمالية، الى أي تمثال عظيم او لوحة متفردة في أي عصر من العصور.

وتشير الأدلة المادية، الى ان معظم الابنية المعمارية الأكدية التي تم إكتشافها حتى الآن، يمكن تشخيصها استناداً لمواصفاتها المعمارية الفنية على أنها أبنية قصور، وليست أبنية معابد.إلا إن ذلك لا يعني ان الأكديين لم يشيدوا معابداً لعبادة آلهتهم، خصوصاً وانهم كتبوا كثيراً عن حبهم للآلهة (عشتار)، وان (سرجون) قد عينَّ إبنته (إنخيدو-إنا) كاهنة عليا في معبد الأله (سن) في أور في الناصرية. ولعل تلك المعابد الاكدية ما زالت تنتظر الاكتشافات والتنقيب في العاصمة أكد وغيرها.

ولعل إعتزاز الأكديين ببناء القصور والحصن الحربية، متأتي من نزعتهم التي تبحث دائماً، عن قوة الملوك وفكرة تعظيمهم وتمجيد فكرهم الامبراطوري، ففي هذا العصر يبدو ان السطوة الدينية الصارمة للكهنة والنظام الديني السومري، قد خفّت حدتهما، فأتجه الفكر الى الأفراط في توقير الملوك الأقوياء، فكانت فكرة البناء.. أن تكون قصراً للملك، وحصناً حربياً محاطاً بسور ضخم مزود بابراج دفاعية مُعدّة للدفاع عنه بأحكام عند الأخطار.

"بنيت أسس القصور الاكدية في خنادق عميقة، رُصفت بقطع من الحجر، كي تكون قوية أزاء ثقل الجدران الضخمة. واستخدم المهندسون الاكديون قطع كبيرة من اللبن تكون مستطيلة او مربعة الشكل بقياس 52سم ×52سم"(مورتكات، 1975، ص 153)، وقد بلغ سمك الجدران حوالي العشرة أمتار، وذلك قياس يكفي لسير العربات الحربية عليها.

واذا كان الخط أهم العناصر في المبنى المعماري، فان القصور الاكدية مثل القصر الاكدي في مدينة آشور (شكل1)، وحصن الملك نرام ـ سن في منطقة تل براك على الخابور (شكل2) يظهران مخططات أرضية منظمة بشكل دقيق وشكل متناسق في التناسب المعماري، ولكل منهما مدخل ضيق يؤدي الى عدد من الساحات المكشوفة والمحاطة بالغرف، التي تنفتح أحدها على الاخرى عدة مرات، لتتضاعف اعداد الغرف، ويزداد بناء القصر ضخامة وتعقيداً، اذ يصل عدد الغرف الى اكثر من خمسين غرفة، ولعل ذلك يكفي لتهيئة فضاءات معمارية لاستقبال الوفود الاجنبية، وعقد الاجتماعات الأدارية، مع سلسلة من الغرف المتصلة والمخصصة لخزن الغنائم الحربية، مع منظومة من الأبهاء الفسيحة لسكن العائلة المالكة.

وتشير سعة مساحة القصور الأكدية وضخامتها، إذ يصل طول ضلع الواحد منها الى حوالي المائة متر، الى تقدم ملحوظ في علم الهندسة. وذلك يبرز من خلال خط سير الأسوار الخارجية المنتظم والدقيق، والتناسق الجميل للتكوين المعماري في بنيتهِ الكلية.

وفي ملمح آخر، فان القصور الأكدية، تعود بمرجعياتها الى أنظمة القصور السومرية، واشهرها قصر الحاكم السومري في مدينة كيش (الى الشمال من بابل بقليل) (شكل3). فلهذا القصر نفس فكرة المخطط الأرضي للقصور الاكدية، التي تعتمد على تكرار نظام معماري يتألف من ساحة وسطية مكشوفة محاطة بعدد من الغرف المسقّفة، لتكوين مبنى معقد يتألف من عدد كبير من الفضاءات المعمارية. فالذي أضافه الاكديون هو صفة التحصين الكبيرة لابنية القصور، لتعبر عن الروحية الاكدية المتطلعة الى مواصلة الفتوحات والعمليات الحربية على الدوام.

2- التماثيل الأكدية:

الفن في بنيتهِ العامة، غير منفصل عن التاريخ، فلا يمكن فهم أحدهما فهما منطقيا دون الآخر، وغالبا ما يقال: إن فعل الفن هو ان يوصل رسالة لا زمن لها. غير أنه لا يمكن تفسيره وفهمه، الا بالمعرفة المتكاملة تماماً بالبنية الفكرية التي تحكمت في ابداعهِ. فهو حلقة في سلسلة لا نهاية لها، حلقة ذهبية، مرتبطة إرتباطاً وثيقاً بما سبقها وما سيعقبها. فللفن طابع تأريخي، مقولته: هو ان كل تغير هام يطرأ على النظام الفكري للحضارة، لابد ان يترك تأثيراً على خاصية الأساليب الفنية الفاعلة في أي عصر من العصور.

ويرى (تاريخ الفن) كذلك، إن خاصية إبداع المنجزات التشكيلية على مَرّ العصور، هي بمثابة تركيب واعٍ، تهيمن فيهِ ذهنية الفنان على آليات عملية تحليل وتركيب منظومة العلاقات في التشكيل، مستندة الى مرجعيات فكرية، ترتبط ببنية الفكر الحضاري كماً وكيفاً. وتأسيساً على هذه (العقدة) فان (فهم) التماثيل الاكدية يكمن اولاً في تقصي (ماهية) الفكر الكامن في أنسجتها البنائية.. بوصفها أنساق شكلية، تُشّفر عن دلالات فكرية ذات اهمية قصوى في حركة الفكر الأجتماعي.

أما العقدة الثانية، فتكمن في فهم العلاقة الجدلية بين (الفكري) والوسائط المادية (الخامات) المشيدة لكتل التماثيل، أي التحليل التركيبي لآليات تقمّص الخامة للفكري لتحيا بهِ في وجودها الخاص، فتغادر خاصيتها الطبيعية نحو طبيعة من نوع آخر هي بنية الفن. فتمثال (نرام ـ سن) البرونزي، ليس معدناً، بقدر ما هو فكرة.

والعقدة الأخيرة في الدراسة التحليلية للتماثيل الأكدية، هي إشكالية الشكل. بوصفهِ حاملاً للفكري، الذي يتنوع ما بين الواقعية، حين (يتماهى) مع مواصفات مظاهر التجربة الخارجية، او ينحرف نحو التعبيرية، بخاصية (تفعيل) رؤية الفنان الذاتية، او يتسامى نحو مقام الشكل التجريدي، حين (يُفرغ) كل محمولاتهِ من زوائد وتفاصيل المظاهر الخارجية.

وآليات دراستنا التحليلية برمتها، تشبه حركة مكوك الحائك، التي ما أنفكت في سفر دائم ذهاباً ومجيئاً، ذهابا من الفكري الى المادي والى الشكلي، ومجيئاً من الشكلي الى المادي ومن ثم الفكري. في جدل وتفاعل مستمر، فالتماثيل الاكدية في بنيتها العامة ليست مجموع عناصر، وانما قائمة او لنقل مركبة من تفاعل عناصر. بخاصية من البناء المتجانس بين المادي والروحي من جهة، وبين الطبيعي والرمزي من جهة أخرى.

ورغم (قلة) التماثيل الأكدية المكتشفة حتى هذه اللحظة، بسبب المشكلة الكبرى، وهي عدم إكتشاف العاصمة الاكدية. الا إنها مع ذلك، لابد ان تكون تعبيراً عن لون من ألوان الضرورة. فقد أقبلت (العقلية) الأكدية على (فكرة) نحت التماثيل، تواصلا مع التقاليد السومرية، لتوثيق صور الأفراد في أمكنة كونية، متحررة من حدودها الزمانية، الأ وهي باحات وخلوات المعابد، إنه (الألحاح) على وجود صورة المتعبد مع قربانه في (خلوة) الأله، وبتضرع دائم حتى اللازمن.

وأحب الاكديون نحت التماثيل، لان هذه (التقنية) حققت حلاً لعقدتهم الفكرية، الأ وهي اكتشاف الصور المثالية لملوكهم في الأنظمة النحتية. فالتمثال بالنسبة للمتعبد وكذلك الملك الأكدي، كان بمثابة أداة سحرية لمعالجة قلقهما الوجودي. فالأول يبغي ان يكون التمثال بمثابة (الشفيع) الدائم له في محراب الأله، أما الآخر او لنقل الملك، فيظهر انه قد فهم حل (كلكامش) الأخير، بأن نقش اعماله على اسوار الوركاء، كي تدوم أمام الاجيال الى الأبد. فحرص كل الحرص على نحت صوره، وعرضها في ساحات المدن الأكدية.

ولذات الاهمية، فضَّل الاكديون نحت التماثيل، بوصفها وسائل لاكتشاف صور ألهتهم المغيبة، واستظهارها بكتل مادية مدركة بملكة الحس. ولكن ليس بالطريقة التي ابدعها فيما بعد الفراعنة او الأغريق، بأتخاذهم القالب البشري كنواة لبناء شرنقة تماثيل آلهتهم، وإنما بالطريقة التي يُشير بها شكل القصبة المعقوفة الى حضور الألهة (إنانا) في الفنون السومرية. فشكل النجمة المُشعّة الذي يتوج مسلة النصر الاكدية للملك (نرام ـ سن) هو رمز الأله عشتار مزوداً بقوة إرادة. فهنا إلتئمَ الرمز والمرموز اليه معاً، كما يلتئم المتشابهان، حيث غدى الواحد منهما بديلا للآخر.

وبشكل عام يمكننا القول: إن من أبدع مآثر الأكديين كانت في فن النحت، فقد فاقوا فيها معلميهم السومريين ولكن بعد زمن طويل من تعلمهم الحرفة. فلم يستطع الفن الأكدي مجاراة التحول الفكري الذي أصاب بنية الحضارة في بلاد الرافدين. ولذلك يمكننا بكل سهولة تشخيص ثلاث مراحل تطورية لفن نحت التماثيل في العصر الاكدي، يمكن عرضها بالشكل التالي:

أ- تماثيل عصر سرجون:

حكم الملك (سرجون) مدة ستة وخمسون عاماً، شهدت بها الدولة الأكدية تألقاً حضارياً ممتازاً، ومع ذلك لم يتم توثيق سوى العدد القليل من تماثيل المتعبدين من هذه الفترة، وربما يعود ذلك الى إتلاف تماثيل هذا الملك من قبل الكوتيين الغزاة، أو إنها ضاعت في أتربة الأراضي العيلامية في إيران، بعد ان سلبها الملك (شوترك ناخنتي) بعد ذلك بحوالي الألف سنة. وفي (ملمح) آخر، يبدو إن من المنطقي التفكير بان الأسلوب الاكدي، لم يمتلك بعد، هويته المحددة، ولذلك فان مسلة النصر للملك سرجون وكذلك تماثيل المتعبدين الاكديين، ما زالت مشدودة بشكل كبير، الى الأسلوب السومري في جميع خواصها التكوينية.

ويرتبط نسق تماثيل المتعبدين الأكديين، بسياقات فكرية مهيمنة، كانت بمثابة البنية الفكرية العميقة التي قررت النظام الشكلي لهذه المجموعة من التماثيل(شكل4). التي تمثل شخصيات إجتماعية متنوعة في موضوعاتها، اما مضامينها فتشكل خطاباً تداولياً بين افراد المجتمع الأكدي، كوسيلة للمثاقفة في بنية الفكر الأجتماعي. ذلك ان الطقوس والممارسات الدينية بشعائرها الدقيقة ومنذ العصر السومري، كانت تعمل بشكل فاعل الى تثبيت الخبرة الأجتماعية لدى كل فرد في المجتمع، وتفعّل خاصية إقامة عالم قوامه منظومة متماسكة من الرموز والكلمات والمفاهيم والمصطلحات. وفضيلة الأنسان الاكدي في ذلك، هو إنه أوجد حيزاً (ثقافياً) حولّه بفكرهِ وعواطفهِ الى شكل مُعبّر عن طقوسهِ ومعتقداتهِ الدينية.

فالقصد والدافعية في نحت هذه المنظومة من التماثيل الأكدية(شكل4)، هو لتوثيق صور مثل هذه الشخصيات في (حالة) التعبد، إنها بمثابة العوذ او البدائل السحرية التي تنوب عن الاجساد الفيزيائية، حين ينالها(العدم) بحتميتهِ المعهودة. فهو عالم من القيم المطلقة، يسمو على عوالم الظواهر المتبدلة ويتفوق عليها، بل يحررها من كل تعسفات الحياة وإشكالاتها الوقتية.

ولعل إهتمامنا في البحث عن المضمون في نسق هذه المنظومة من التماثيل، متأتي من كونهِ يمثل حالة متحركة، تقوم على فكرة (التأثير) بين المتماثلات. فصفة التشابه بين التمثال والنموذج، من شأنها ان تجعل الصورة البديلة، تعمل بفاعلية الصورة الاصلية، وكي يمعن النحات في (المشابهة)، كان يؤشر على سطوح التماثيل أسماء أصحابها. التي تعمل بفاعليتها السحرية على تأكيد الحضور، حضور (الذات) في محراب الأله، لتقديم طقوس التعبد، فوجدت هذه الأفكار، قوة تعبيرية اعمق، كانت تفتقر إليها خارج خارطة نسق الفن.

وتؤكد منظومة العلامات التي تميز هذه التماثيل، الى إنها قد مثلت في وضع تقديم القربان، مثل ذلك المتعبد الذي أمسك بأحكام بحمل صغير لتضحيتهِ على دكة القرابين في المعبد(شكل4)، وتلك صورة (جديدة) ادخلها الاكديون على تقاليد التعبد، لم تكن معروفة عند السومريين سابقاً. كما ان سمات الأختزال والتبسيط وشتى التأويلات الشكلية الاخرى التي تميز الاشكال التعبيرية السومرية، قد خفت وطأتها عند الاكديين، الذين عملوا بفاعلية على سمات التأكيد على الشخصية الواقعية، بأبراز مقطع الوجه الجانبي النبيل والأنف الأقنى، والاهتمام بدراسة الزي، من خلال محاولة (تجسيم) طيات الملابس والحلي المتنوعة التي تميز الشخصيات(شكل4).

ب- تماثيل عصر (ريموش ومانشتوسو):

حدث في عهد الملكين(ريموش ومانشتوسو) ولدي الملك (سرجون)، اللذان يمثلان الجيل الثاني في سلسلة ملوك الدولة الاكدية، تحولاً ملحوظاً في بنية التماثيل الاكدية، بصدد الخطابات الفكرية الكامنة في أنسجتها البنائية، وتقنيات إظهارها، والسمات الفنية التي تميز منظومتها الشكلية. وذلك يشجعنا على القول، ان ولادة الأسلوب الاكدي الجديد، قد حدثت خلال عهد هذين الملكين. وتلك (مقولة) تؤكدها الخصائص النحتية لتمثالي الملك (مانشتوسو) (شكل5، 6) المحفوظين في متحف اللوفر في باريس، وتماثيل المتعبدين(شكل7)، ومنظومة (البورتريهات) المختلفة التي عثر عليها في المدن الأكدية (شكل8، 9، 10).

لم يعامل (الزمن) بشيء من الرقة تمثالي الملك (مانشتوسو)، إذ فقد القسم العلوي من الجسم وكذلك الرأس من كليهما(شكل5-6) فقد حطم (الكوتيون) الذين أسقطوا الدولة الاكدية، هذين التمثالين، ونقلهما بعد ذلك، كأسلاب الملك العيلامي (شوترك ناخنتي) الى عاصمتهِ (سوسة) في إيران، في القرن الثاني عشر قبل الميلاد. ومع ذلك يظهر من دراسة الاجزاء المتبقية من هذين التمثالين الهامين، روحية (كلاسيكية) جديدة أخذت تميز، فن نحت التماثيل الاكدية، وتلك صفة التماثيل العظيمة في فن النحت، إذ يعبر الجزء عن عظمة الكل، مهما كان ذلك الجزء المتبقي صغيراً.

وتشير الادلة المادية، أنه كان للملك (مانشتوسو) الابن الثاني لسرجون، عدد كبير من التماثيل التي نحتت من خامات متنوعة، وبالحجم الطبيعي، وباوضاع وقوف وجلوس مختلفة، وقد عرضت في مدن مختلفة من المملكة الأكدية. ويمكن فهم خطاب (المركز) بشكل واضح في منظومة هذه التماثيل، الذي يظهر في الروحية الملكية التي تميز اوضاع التماثيل الحركية، وخاصية تمثيل الازياء التي تزين سطوحها الخارجية. وتلك منظومة علامية كافية في التأكيد على الخطاب الفكري لهذه التماثيل، التي تؤكد على خاصية تعظيم فكرة الملك، بمظهر مهيب، ووقفات منضبطة، وملامح حركية خالية من أي إنفعالات عاطفية. وتلك هي سمات الشكل الكلاسيكي في أي عصر من العصور.

فالمضمون المتحرك في تمثالي الملك (مانشتوسو)، ليس إلا فكرة الملك، منفتحة في دلالتها على نوع من الروح الاسطورية، التي تسامت بالتمثالين الى اللامحدود في خاصية السطوة الملكية. وبغية تحقيق ذلك، وجد النحات (صيرورة) التمثالين بنوع من التعالق ما بين الروح البطولية في المضمون، وخاصية الخامة بوقعها الروحي والجمالي. فقد نحت أحد التمثالين من حجر الديورايت الصلب والأسود اللون(شكل5)، الذي كان يجلب من (مكان) سلطنة عمان حالياً، بوصفها أحدى المدن التابعة للدولة الأكدية أما الآخر فقد نحت من مادة الرخام الابيض اللون(شكل6). ومن هنا كان السفر البعيد، وكانت المشّقة، وكانت الكلفة، وكان الوعي الجمالي بخاصية الخامة التعبيرية وهو الأهم. لأحضار مثل هذه الخامات الخاصة جداً في تشييد كتل التماثيل، وبآليات إظهار جمالية تفعّل دورها التعبيري، بغية (تأسيس) تركيب ابداعي، بين (طاقة) الخامة الرمزية، وتجلي (الفكرة) الكامن فيها. وذلك فعل ابداعي يقوده القصد والارادة، لأيقاع أقصى تأثير في سايكولوجيا المتلقين من الجماهير، واقناعهم بعظمة الملك الاكدي.

تمظهر الملك (مانشتوسو) بطراز جديد من نظام الأزياء، يتمثل بجلباب طويل نسج بشكل محكم من مادة صوفية، وله حاشية زخرفية مُهدّبة بامتداد حافة لحمة النسيج، وشرائب جميلة معقودة على جوانب خيوط (سداتهِ). وقد ترك الزي ليسقط بشكل طيات طولية ولولبية متموجة ومتحركة، وكأن المشهد أشبه بسطح بحيرة داعبتها عصفة ريح.

ولعل في نظام إشتغال سطح التمثالين الجمالي، بما يجتازهما من مناطق إمتصاص وعكس للضياء، وتفاوت ملامس المساحات، نوعاً من تحليل سطح الصورة المرئية واعادة تركيبها، لتفعيل قوة التعبير في خاصية التلقي. وفي ذلك تحرير كامل للنحت من (ماديتهِ)، فتمثالي (مانشتوسو) لم يعودا صنمين وانما تمثالين عظيمين بالمعنى الدقيق للكلمة.

أما تماثيل المتعبدين الأكديين من عصر هذين الملكين، فاشهرها تمثال من حجر الديورايت لرجل، يبلغ ارتفاعه 1.37م، وتم اكتشافه في معبد الألهة (عشتار) في آشور، ومحفوظ بمتحف الدولة في برلين حالياً(شكل7). ورغم فقدان راس التمثال، وقبضتي كفيهِ المتلاقيتين أمام صدرهِ. فأن لحيته الطويلة وحركة ذراعيهِ ووقفتهِ المتخشّبة، هي بمثابة منظومة علامية متفاعلة، تُشفر عن كون الرجل في خلوة المعبد أمام رمز الألهة عشتار التي بدت من أهم الآلهة الاكدية في (التقديس) في بنية الفكر الأجتماعي.

وتظهر سمات التحول في خاصية تماثيل المتعبدين، في وصول التماثيل الى حجوم تقرب من الحجم الطبيعي للانسان، إذ بدأت نسب اجزاء الجسم تقرب من الشكل الواقعي البشري المتعارف عليهِ، وبنزعة واقعية حية وإجادة دقيقة في التمثيل. فرغم ان تنورة الرجل الطويلة قد عولجت بتقنية (التسطيح) وعدم الاهتمام بدراسة التفاصيل، إلا أن دراسة تشريح عضلات العضدين، وتدوير عضلتي الكتفين وتجسيمهما، والاهتمام بدراسة عضلات الصدر ولوحي الكتفين، يؤكد ظهور مثل هذه النزعة الواقعية في اسلوب نحت مثل هذه التماثيل الطقوسية(شكل7).

ولعل أهم ما يميز تمثال المتعبد موضوع الدراسة، هو نظام العلاقة القائم على القصد بين خامة حجر الديورايت وقدسية المضمون، وتلك خاصية تعد غاية بحد ذاتها، بغية (تفعيل) نظام العلاقة الجدلي في تركيب التمثال التعبيري والجمالي.

وتعد تماثيل (اليورتريهات) النسوية، من أهم روائع النحت الأكدي في عصر الملكين (ريموش ومانشتوسو) إذ يحتفظ متحف الجامعة في فيلادفيا في امريكا، ومتحف الدولة في برلين، والمتحف البريطاني في لندن. بثلاثة (رؤوس) لنساء يتراوح ارتفاعُها بين 7-9سم، ونحتت إثنين منهما من خامة الرخام الأبيض، أما الآخر فقد نحت من حجر الديورايت الاسود اللون. وقد اكتشف أثنين منهما في أور في الناصرية، اما الثالث فقد اكتشف في آشور (قلعة الشرقاط) (شكل 8، 9، 10).

ويبدو أن هذه الرؤوس الجميلة، كانت اجزاء من تماثيل كاملة، وقد لقيت مثل هذا التدمير العنيف بسبب أهمية الشخصيات التي تمثلها. فلم ينحت السومريون والأكديون، تمثالا لشخصية بدلالة الرأس فقط، بل كانت النزعة (المثالية) بوصفها العامل الفكري المهيمن في نحت هذه المنظومة من التماثيل، التي تمتلك وظائف طقوسية، تفرض ان يُنحت التمثال كاملا، لان أي إقتطاع او إجتزاء من كُلية الصورة، سوف يؤثر وربما يغير دلالتها، فهذه التماثيل بوصفها (دوال)، فأنها تُشفّر عن (مدلولاتها) من خلال بنيتها الكلية، إذ تعلن حركات أجزاء الجسم، وهيمنة بعضها على الآخر، عن دلالاتها في حركة الفكر الاجتماعي.

ولا يمكننا في الوقت الحاضر تحديد هوية هذه الشخصيات، هل إنها بشر إعتيادي؟ أم كاهنات من ذوات المنزلة الرفيعة؟ أم زوجات لملوك؟ فقد تجيب الوجوه عن أي من هذه التساؤلات، نظراً لقوتها التعبيرية الخارقة (شكل 8، 9، 10). وبشكل عام فأننا نرجح ان يكون لهذه (البورتريهات) الجميلة أهمية دينية، بدلالة اكتشاف نماذجها في المعابد، إذ يتعاظم الفكر التأملي للمكان في بنية هذه المنظومة من التماثيل، ليضم المناطق التي لا تدركها التجارب الحسية المباشرة كالسماوات او العالم السفلي. ففي مثل هذه الفضاءات الأسطورية، تلعب الامكنة دوراً مهماً، بمقدار العلاقة التي تعقدها مع المتخيل او لنقل مع اللاواقع.

وابدع النحات الأكدي في تقنية نحت الوجوه، وجمال تشكيلها، وتمييز اجزائها بانسجام دقيق، فملامحها لها قوة تعبيرية كبيرة، فلكل منها شفتان رفيعتان متموجتان تكادان أن تنطقا، وحنك صغير مع طية رقيقة على الوجنتين أمتدت الى الأنف وزادت من جمالهِ. ورغم كون كل من (البورتريهات) يشكل مفردة من مفردات العالم المرئي، إلا إنه (مُعّدل) عن صفتهِ الواقعية، إذ إن دخوله (نسق) الفن.. قد جعل منه رمزاً، فالشخصيات (مفرغة) تماماً من وجودها المادي كأيقونة معاشة، ومرحّلة بفعل ضغوط البنية العميقة للطقس الديني، الى منطقة تتوسط الشعور واللاشعور، وفي ذلك نوع من الصوفية عصفت بالنسوة، ليجتزن حالة الانسان.. وصولاً الى حضور الأبدية.

فهذه المنظومة الشكلية من رؤوس النسوة (شكل 8، 9، 10)، رغم إقتصاديتها اللغوية، فأنها (تُخبّيء) قدرة تكاثرية في ماهية خطاباتها، يمكنها الظهور في المستويين الدلالي والشكلي. ولعل ذلك يفسر تحول دلالاتها الى (ملحمة) في داخلية كل (مواطنة) أكدية. فحقيقتها أكثر تعقيداً وغرابةً مما هي عليه في الواقع.

ج- تماثيل عصر (نرام ـ سن):

يمثل الملك (نرام ـ سن) الجيل الثالث في سلسلة ملوك الدولة الأكدية، الذي إستطاع بقوة الحديد والنار، من تأسيس اعظم امبراطورية في الشرق في النصف الثاني من الالف الثالث قبل الميلاد، وقد حكم مدة سبعة وثلاثين عاماً، تمتعت الدولة الاكدية فيها، بالاستقرار الكامل والازهار الأقتصادي والسيطرة الكاملة على الاقاليم التابعة لها.

يمكن القول ان الاسلوب الأكدي في الفن، قد وصلَ الى خاصيتهِ المتفردة في عهد هذا الملك، وذلك بصدد نوعية مضامينهِ الفكرية، وخواص الخامات المستخدمة في تشكيل موضوعاتهِ، وكذلك السمات الفنية المميزة لأنظمتهِ الشكلية. التي إرتبطت بالمفاهيم الملكية، ففكرة (الملكية) بالنسبة للملك (نرام ـ سن) الذي لقب نفسه بلقب (إله) أكد، والتي تميز معظم تماثيله، قد وسمتها بصفة فوق واقعية، وبالأخص ما يعرف بالرأس البرونزي، ذلك التمثال العظيم في تاريخ النحت العالمي(شكل11) الذي تشوبه روحية (ميتافيزيقية) أضفت عليه فكرة (القدسية)، وارتقت بهِ من صفته الواقعية، الى عالم الصور المثالية المتعالية. فرغم ان عيني (البورتريه) قد فقئتا بيد مجرمة، واستخرجت منهما الاحجار الكريمة الملونة، التي استخدمت في تشكيلهما، إلا ان تلك العدوانية، لم تستطع ان تنال من خاصيتهِ (القدسية) ومظهره المهيب. حيث الحُلم والخيال و(التأمل) الناشط، هو وحده الذي يكتشف عظمة التمثال. إذ إحتل الروحي في تركيبهِ الصوري مكان الصدارة، بعد تراجع ما هو (طبيعي) محض الى مرتبة ثانوية. بخاصية متفردة وحساسة جدا، لتضايف المادي والروحي في بنية العمل النحتي. فذلك النحات المُبدع على مرَّ العصور، لم ينحت تمثالاً للملك، وإنما نحت(نُصباً) لفكرة الملكية المقدسة.

إكتشف (بورتريه) الملك (نرام ـ سن) في مدينة نينوى شمال العراق، بوصفها احدى مدن الدولة الأكدية، ويبلغ إرتفاعه 36سم، ويُعد من أهم روائع المتحف العراقي في بغداد(شكل11). ونحن نرجح ان يكون هذا (الرأس) البرونزي، هو الجزء المتبقي من تمثال كامل، كان معروضاً في احدى ساحات مدينة نينوى، ليؤكد خضوع هذه المدينة لسيطرة الدولة الاكدية خضوعاً كاملاً. إذ ان الروح الأكدية، كان (تنفر) نفوراً كاملاً من فكرة تمثيل ملوكها بدلالة (البورتريه)، فذلك فأل سيء، ربما يؤدي الى تداعي وسقوط هذه الامبراطورية بكامل هيكلها. فأن صحت هذه الفكرة(السحرية)، علينا ان تقابل تمثالاً مُشّعاً بارتفاع يفوق المترين. وتلك خاصية كافية لتقولب بنية التمثال بصفة اسطورية، وهي كفيله بأن توسع دلالتهِ نحو الأفكار غير المحددة في عظمتهِ الملكية، وقدرتهِ البطولية الخارقة.

يَبثّ (بورتريه) الملك نرام ـ سن البرونزي، خطاباً تقنياً متفرداً، بصدد آليات الأظهار، والتمظهرات التعبيرية والجمالية لخامتهِ. فقد كان الجدل الفكري حول نظام العلاقة بين خاصية المضمون والوسيط المادي الذي يحتويهِ، يجتاز (الذات) بصدد فحص خواص الخامات كطبيعة كتلها وصلابتها وملمسها ولون سطوحها. فكان الحل الابداعي بقولبة فكرة الملكية بمادة البرونز، وذلك فعلُ ورؤية متفردة، أكسبت (البرونز) ذلك المعدن الصلب والمشع كالذهب، صفة متحركة في دلالته، تفوق خواصه الطبيعية، وفَعلّت تعبيره، كوعاء (حَلّت) بهِ الفكرة لتعبر عن صيرورتها الأبدية.

إنجز تمثال الملك(نرام ـ سن) بتقنية الصب المجوف، ونرجح ان يكون قد أنجز بطريقة القالب الشمعي، وبموجبها يُصاغ الشمع حسب الشكل المطلوب على شكل التمثال الجبسي. ثم يُغطى نموذج (الصب) بعدة طبقات من طينة نقية، ممزوجة بمواد مختلفة فائدتها غلق المسامات. فعندما تكون (تكسية) الطين بدرجة كافية من السمك، يوضع النموذج في (الكورة) فيفخر الطين الذي يشكل القالب الخارجي، ويذوب الشمع الذي يجري عبر (فتحات) صغيرة مجهزّة لهذا الغرض، فبهِذه الطريقة يمكن الحصول على فراغ مجوف بين اللب والقالب، ليتم ملؤه بمعدن البرونز المذاب، وبعد تصلبهِ يُكسر قالب الفخار، ليظهر التمثال المصبوب كاملاً، إذ يتم توضيح تفاصيلهِ الدقيقة بادوات حادة من قبل النحات في المرحلة النهائية من عملية الأنجاز.

تلك التقنية عرفها الجميع منذ العصر السومري في الالف الثالث قبل الميلاد، وحتى الزمن المعاصر، لكن الشيء الذي لم يعرفه الجميع، هو تلك القدرة الحرفية العالية، والأحساس العميق بالشكل، والدقة المتناهية في اخراج تفاصيل التمثال. فقد إشتغل ذلك النحات العظيم عِبرَ كل العصور، على السطح بمنظومة خطية متماسكة ورائعة، محققاً معالجة شكلية (متفاوتة) في تعدد المستويات والأنارة، ومتميزة بوحدة كلية متفاعلة، قلما تتكرر في تاريخ النحت العالمي، إلا في أعمال النحات (مانزو).

إذ تشير (صنعة) التمثال، الى مهارة فائقة بلغها فن النحت الأكدي، فقد كان هذا الرأس الملكي مدهشاً، الى درجة تجعلنا نقف امامه حائرين، بفعل الاسلوب المتقن الذي نُحتَ بهِ. فهناك مُسحة من الصرامة الحادة والقوة، واضحة في خاصية إبراز ملامح الوجه، الذي تعلوه في ذات الوقت، إبتسامة خفية تغدو صارمة وأبية في الحال، حين تعقد زمام تلك الشفتين اللدنتين الرقيقتين(شكل 11)

أما شعر الرأس الذي يؤطر الجبهة، فقد شَكِلَ من ثلاثة مستويات أحدها فوق آلاخر. فهناك شريط سفلي بشكل نسق من الحلقات المتجاورة يلامس الجبهة، يعلوه إكليل منبسط، وفوقه ضفيرة ملتفة حول الرأس، عُقِدَت خلفَ الرقبة بشكل كرة صغيرة، ثُبتت بثلاث حلقات من الذهب. كما إن شعر الذقن قسم كذلك الى ثلاثة صفوف تألفت من صف من الخصل الناعمة حول الشفتين، وصف آخر شُكَّل من حلزونات ناعمة على الوجه، لينتهي إيقاع هذا التدرج، بصف من حلزونات خشنة وطويلة مسترسلة في الهواء(شكل11).

والجوهري في الموضوع، هو أن الفنان الأكدي لم ينحت تمثاله، بغية الحصول على (تمثلات) مشابهة لوقائع التجربة الخارجية، بل لتأويل (قوة).. تُبقي الفكرة التي يُمثلها التمثال حاضرة أبداً، فصورة التمثال هنا ليست مقصودة لذاتها، بل لتّشفيرها عن مدلولات تنتمي الى مستوى آخر غير منظور. وذلك بمثابة (التأويل) عن خاصية الفكر المتحرك في بنية الفكر الحضاري الأكدي.

ولا تفوتنا الأشارة هنا، الى أن معظم المختصين قد أشاروا الى ان هذا (البورتريه) ربما يمثل الملك سرجون او حفيده نرام ـ سن. ويبدو ان حلَّ هذه المشكلة قد اصبح واضحاً الآن، فبما ان النحت الأكدي في عصر سرجون كان مشدوداً في اسلوبهِ الى الأسلوب السومري، ولم يحقق هويته المتفردة والمشخصة في عهد هذا الملك، كما يظهر في جميع المنجزات الفنية، لذلك يمكننا ان نرجح نسبة هذا التمثال الى الملك نرام ـ سن.. بفعل تكامل سمات الاسلوب الأكدي في التشكيل في عهد هذا الملك.

فهمَ الأكديون أن الفن نوع من الصياغة، لبنية العلاقة بين الأنسان وواقعهِ بالمعنى الشامل لهذه العلاقة. فالتماثيل الأكدية لم تعكس صورة ذلك الواقع، وإنما .. مثلّت (حركته)، وبما إن الواقع عند الأكديين متغير دائماً، فان تمثيله في النحت متغير كذلك. ولذلك فان الجزء المتبقي من تمثال الملك نرام ـ سن، الذي يمثل القدمين فقط، بارتفاع 47سم، المنحوت من حجر الديورايت، والمحفوظ في متحف اللوفر في باريس(شكل 12). يمثل حالة جديدة في خصائص نحت التماثيل في بلاد الرافدين، فاذا كان ارتفاع قدمي التمثال بمثل هذا الأرتفاع الخيالي، فلنا ان نتأمل (نُصباً) بارتفاع شاهق، وتلك (خاصية) كسرت سياقات قاعدة حجوم التماثيل الصغيرة عند السومريين، وأحلّتْ محلها (بدعة) التعبير بدلالة الحجوم الكبيرة.

تُرى هل ان هزة أرضية من النوع العنيف، أصابت مدينة أكد، فأحالت منجزاتها الخالدة الى مجرد شظايا صغيرة؟ أم ان عدوانية الغزاة الكوتيين والعيلاميين كانت على مثل القساوة والخاصية البربرية. وعلى كل حال، فرغم فقدان تمثال نرام- سين، لقسم كبير من تكوينهِ(شكل 12)، فأنه يبدو حتى هذه اللحظة أشد حياة من جسم المتأمل ذاتهِ، وذلك إحساس قد يؤدي بهِ الى الخجل من خمولهِ، مع شعور بالفخر لما حققته الروح الأنسانية من إبداعات. كتلك (الرؤية) التي تُميز تماثيل (مايكل أنجلو) المكتملة بسبب عدم إنهائها، حين (يجلي) الغبار.. عن أشكال كامنة في كتل الرخام، كان يراها هو وحدهُ.

فبتجريد تمثال نرام- سين عن حدود الشخصية، فأنه قد إحتلَ دوراً (كونياً)، أي أنه غدا رمزاً مناسباً لكل الأزمنة، فقد مَرَّ عِبَر الواقع الى (التاريخ).. الذي إختارهُ ليحّوله الى تساؤل او حديث دائم.

أهتم الأغريق وعلى الأخص في عصر إزدهار فنونهم في القرن الخامس قبل الميلاد، بنحت تماثيل آلهتهم وابطالهم باشكال (عارية) بغية التعبير عن مثالية الجمال الكامنة في التناسب الذهبي الذي يميز تشييد أجسامهم. وتلك (تقليعة) لم يألفها الفنانون على أرض الرافدين. إلا إن المدهش حقاً هو إكتشاف أثنين من التماثيل النصفية العارية لرجلين من العصر الاكدي وبالتحديد من عصر الملك نرام- سين.

يبلغ ارتفاع الجزء المتبقي من التمثال الأول 48سم، واكتشف في مدينة آشور (قلعة الشرقاط)، ومنحوت من حجر الديورايت، ومحفوظ في متحف الدولة ببرلين (شكل13). أما ما تبقى من التمثال الآخر فيبلغ إرتفاعه 80.5سم، ومنحوت من حجر قيري، ومحفوظ بمتحف اللوفر في باريس (شكل14). ويظهر التمثالان الى ان النحاتين الاكديين قد قطعوا شوطاً طويلاً في خاصية الدراسة العلمية للجسم البشري، وذلك يؤكد على تقدم (علم) دراسة تشريح جسم الانسان، وربما يعبر كذلك عن تقدم الطب والعمليات الجراحية في عصر الملك نرام –سين. فالطريقة المؤثرة التي تم التأكيد فيها على العضلات وخاصية حركاتها الداخلية والخارجية تُعّد مدهشة حقاً، فقد درست تفاصيل عضلات الجسم وعولجت تكويراتها المتدرجة بدقة متناهية، فبدا مظهر الجلد شفافاً ليكشف عن تفاصيل الأوردة والشرايين وصولاً الى الأوعية الشعرية الدموية الدقيقة الكامنة في الاعماق، فالاغلفة الخارجية للجسم لم تعد تخفي خارطة الجسم الداخلية تحتها، بل إندمجت مع التكوين لأبراز قوتهِ الداخلية. وبنوع (خاص) من تقنيات الأظهار، والإحساس الجمالي بالخامات، يتفوق على تجارب الاغريق في البحث عن مثالية الجمال في الجسم البشري، كما يظهر في تماثيل النحات (براكزتيلس)، بعد الاكديين بنحو ألفي عام.

في عقد السبعينات من القرن العشرين، حصلت هيئة الآثار العراقية من منطقة (باسطكي) في قضاء زاخو شمال العراق، على تمثال برونزي أكدي فريد من نوعه، في اسلوب نحتهِ ودلالتهِ الرمزية (شكل 15). ويتألف التمثال من قاعدة برونزية دائرية الشكل قطرها 71.5سم، إستقر عليها شكل رجل، وقد (شَكَّل) رجليهِ بوضعية صعبة ومتفردة، لم يظهر مثيلها إلا في العاب الجمناستك، وبينهما قاعدة مجوفة اسطوانية الشكل إعدت لتثبيت شيء ما، فيما استغل الجزء المتبقي من القاعدة الدائرية المستوية السطح، لتشكيل نص كتابي، مسماري له شكل مستطيل منتظم، وللاسف الشديد فقد الجزء العلوي من جسم الرجل، وشأنه في ذلك شأن الروائع الاكدية، التي لم يعاملها الاعداء بشيء من اللطف.

في جريمة (نَهبْ) المتحف العراقي التي حدثت في العام 2003، حاول (اللصوص) سرقة هذا التمثال، وصعدوا بهِ من قاعة العرض، الى شباك مفتوح يؤدي الى الخارج، ولحسن الحظ فأن حجم التمثال كان اكبر من فتحة الشباك، ولذلك ترك في مكانهِ، ليعود الى مكانه في القاعة الأكدية بالمتحف العراقي، بوصفهِ واحدا من اهم الروائع الأكدية المتفردة.

يقدم تمثال (باسطكي) خطابه الأبداعي في نقطتين، الأولى تكمن في خاصية تقنية النحت وآليات الأظهار الشكلية، والثانية دلالة هذا النصب الفكرية. فشاعرية الخط فيها شيء من (روعة) الخط عند الفنان (بيكاسو)، ودراسة تفاصيل اصابع القدمين، وشكل الساقين والفخذين الرشيق، فيه شيء كذلك من دقة الاشكال النحتية عند الفنان (كانوفا). وهندسة التكوين في (تركيب) النص المكتوب مع الشكل البشري على المساحة الصغيرة المعدة للتنفيذ، ففيهِ الكثير من تقليلية (جاكومتي) في أنظمة تكوين منحوتاته وعلى الأخص في منجزه (رجل المدينة). أما نعومة وشفافية المشهد المتبقي من التمثال، فلا يضاهيها جمالاً إلا ساقي الألهة أفروديت او أثينا، في مشهد الأفريز الداخلي لمعبد البارثنون في اثينا، من ابداع النحات (فيدياس).

أما بصدد دلالة التمثال، فقد تمكن الدكتور فوزي رشيد، من إعادة إكمال التمثال في ضوء ما ظهر من مشاهد مشابهة على سطوح الأختام الاسطوانية الاكدية، وذلك في دراستهِ المنشورة في مجلة سومر للعام 1976 (شكل 16). كما قدَّم قراءة للنص المكتوب على قاعدة التمثال مفادها: "نرام –سين، الملك القوي، ملك أكد، عندما تحالفت ضده جهات العالم الأربع سوية، بواسطة محبتهِ مع الألهة عشتار التي تحبهُ، إستطاع أن ينتصر في تسع معارك في سنة واحدة، وكبَّل ملوك منطقة شجر الصنوبر" (فوزي، 1976، ص 53).

فاذا إتفقنا مع إقتراح (د. فوزي رشيد) الذي هو قريب من الصحة أو لنقل منطقي، فذلك يعني ان الفكر الأكدي قد إختزل مفهوم الأنتصار الى شكل بطل اسطوري، كان يُثبّت (رايات) الجيش الأكدي. في الاماكن الجغرافية المختلفة والواسعة التي وصلتها الماكنة الحربية الأكدية. فالفكر الأكدي هنا، قد (فعَّل) خاصية الانتقال من الأشارات المحددة الدلالات الى الرموز المنفتحة المتعددة المدلولات، والحرة الحركة في الفكر الحضاري. وبذلك إنتقل الفكر من التعامل مع المادي الملموس الى صورتهِ الذهنية، ومن إستخدام الاشياء الى إستخدام رموزها. فعملية تكوين المفاهيم، قد (أحلّت) المفهوم محل الاشياء المدركة، فأتاحت للانسان الفرصة لان يتعامل مع مفاهيم (دالة).. على وفرة من المدلولات.

إن شكل البطل الأكدي الرمزي، الذي يروي حيوان الجاموس تارة، ويصارع الأسود تارة اخرى، في مشاهد الأختام الاسطوانية الأكدية ويعلن عن إنتصارات الدولة الأكدية. هو شكل (هرقلي) بشعر (أشعث) طويل له ثلاثة حلزونات على جانبي الوجه، ولحية مسترسلة عريضة، ويتمنطق دائما بحزام ذو اربعة (غضون) مع نهاية منسابة الى الاسفل (شكل 16). يرتبط بمرجعياتهِ الفكرية باعمال البطل (كلكامش) في الحضارة السومرية السابقة، فقد سعى الفكر الاكدي كذلك، في تمثيل شكل بطله، الى تحطيم نظام المشابهة والتشخيص مع قالب الجسم البشري، وبقصدية باحثة عن (تفعيل) نظام العلاقة الرمزية بين الشكل ومضمونه، وذلك بالأنتقال بالشكل من صورته العرضية الى نظامه الاسطوري الذي يبغي الأعمام واللامحدود في تعبيره الرمزي، نحو إنفتاح النص الى تغييب محدودية الزمان والمكان نحو المتخيل. وفي ذلك نوع من التسامي فوق مستوى الواقع، لكشف المضمون الباطن للمفاهيم المهيمنة في بنية الفكر الأكدي.

3- المنحوتات البارزة الأكدية:

تمهيد

عرفَ الأكديون تقنية النحت البارز، بأنها تأشير يستند الى الوعي والقصد والوظيفة، على سطح وسيط مادي (خامة) ذو شكل هندسي معين. ينجز برسم الأشكال وإزالة المساحات المحددة لها، بغية إنشاء (تكوين) نحتي مُحمّل بدلالات فكرية. تميل المشاهد فيه الى (التسطيح) حين يعمد النحات الى تغييب المنظور، بفعل ما يدخله في بنية تكويناته من سمات تجريدية. أو قد يستند الى أحكام المراقبة البصرية، فيضم التكوين ثلاثة أبعاد، بفعل خاصية تفعيل المنظور على السطوح البصرية,. مضافاً إليها بعداً زمنياً رابعاً، يُفعّل آليات سرد الأحداث.

فضلَّ الاكديون هذا النوع من أجناس الفنون التشكيلية، بفعل ملائمتهِ لتمثيل المواضيع ذات الطبيعة الجماهيرية، وتميز خاصيته في تفعيل الطاقة السردية للأحداث، فأمتدادات مساحات وسائطه المادية، توفر مساحات تصويرية واسعة، لأنشاء تلك الدراما الرائعة في سرد الوقائع الحربية. فبإمكان (النحات) الاكدي أن يَعدّ فن النحت المدور بكونهِ تقنية تخص تمثيل الشخصيات بوصفها حالات فردية مهما تجردت من ذاتيتها، في حين يمكن (مسرحة) الاحداث بكل أنواعها على وفق امتدادات السطوح البصرية في هذا النوع من التشكيل، ولذلك فقد احتل (جغرافية) ذات إمتدادات عمودية وأفقية واسعة في مجال سوسيولوجيا الفن عند الأكديين.

تحدد الوظيفة عند الاكديين آليات إظهار المشاهد النحتية في تقنيات النحت البارز، فحين يكون (المشهد) إبلاغاً عن المفاهيم الدينية، يتخذ التكوين النحتي نوع من الأبنية الشكلية المعقدة التركيب. وحين يتموضع (الحدث).. بوصفهِ وثيقة تاريخية، تظهر معالمه باشكال المسلات. وقد تفرض وظيفة المشاهد بنية معمارية للاعمال النحتية، حين تُظهر خصوصياتها الفكرية كنحوت جدارية، وبولوج المشاهد النحتية حَيز التداول الأجتماعي، فأنها تتمظهر بأنظمة الأختام الاسطوانية,. إنها تقابلات الوظيفة وآليات (الأبلاغ) الفكري من جهة، وانظمة النحت ومرجعياتها من جهة أخرى.

ويظهر من خلال متابعة آليات شكلنة الأفكار على السطوح البصرية، وخاصية الوعي الجمالي، في إنتقاء الخامات، وأساليب عرض الأحداث وبنائها، ان المنحوتات البارزة الأكدية قد مّرّت بثلاث مراحل تطورية هي:

أ- المرحلة الأولى:

تحدد الحدود الزمنية لهذه المرحلة، بعصر الملك سرجون مؤسس الدولة الاكدية، ولم تقدم لنا متاحف الحضارة سوى مثال واحد من النحت البارز، من عصر هذا الملك، إذ يحتفظ متحف اللوفر في باريس، بنموذج مسلة عُرفت بأسم مسلة النصر السرجونية، التي اكتشفت في سوسة إثر نقلها من قبل العيلاميين كاسلاب حربية من العاصمة اكد الى عاصمتهم في ايران. وعلى الرغم من نحت المسلة من حجر الديورايت الصلب، فلم يبق منها سوى قطعتين، لا يتجاوز ارتفاع الواحدة منهما الخمسين سنتمتراً(شكل17، 18).

إن دراسة تحليلية لهذا المنجز الأبداعي، الذي يمثل اقدم نماذج المنحوتات البارزة الأكدية، يجب ان تتناول هذا التشكيل النحتي، داخل إطار واسع هو إطار الحضارة الأكدية في عمومها. وتنطلق من منظور اهميته الدلالية الفكرية، بوصفه (قيمة) مجردة من وجودهِ المادي، فتلك المنظومة من المدلولات التي يخبّئها التشكيل، كانت بمثابة التعبير عن المفاهيم المتحركة في الوسط الحضاري الاكدي.

فوظيفة المسلة بوصفها (نصاً) تشكيلياً، تُشفّر بدلالة حجمها ونوعية خامتها ومكان عرضها، عن وجود (مُرسل) هو الفنان، الذي أخفى تفرده، إذ إنزوى بين جمهور المتلقين. لان خاصية الخطاب.. تكمن بكونه مقولة فكرية جمعية، محكومة بقوة (مرجعية) ضاغطة، كانت محددة لآليات إظهار نظام التكوين بأشملهِ، ألا وهي شخصية الملك سرجون الذي تم تشخيصه بدلالة اسطر الكتابة التي ترافق الاشكال على سطح المسلة (شكل 17).

وبغية هندسة معنى الحدث، وسرد وقائع المعركة الحربية الممثلة على سطح المسلة، فقد قسم الفنان الاكدي سطحهِ التصويري الى عدد من الحقول الأفقية، وذلك يُفصح عن مدى إخلاصهِ لاساتذتهِ من النحاتين السومريين. وهذا (الفعل) هو بمثابة (سيناريو) لتفعيل خاصية الزمن في رواية الاحداث، وتعليل ذلك يرتبط بآليات عمل الصورة الذهنية للفنان، الذي عمدَ الى سرد وقائع الحدث، على وفق ما يعرفه عنه في خزينهِ الذهني، وليس على وفق ما يراه بالمراقبة البصرية المباشرة، محررا في ذلك نوع من التجريدات الفكرية في روائيتهِ للحدث، لم تألفها أنظمة الصور الفوتوغرافية.

أما آليات سرد الحدث، فيمكن تعرفها من الحقلين الباقيين من هذه المسلة، ففي الحقل السفلي يهيمن حجم الملك سرجون مع عدد من جنوده على المساحة التصويرية، اذ يظهر الملك وهو يمسك باحكام على نهاية شبكة، وقد حبس بها بعضاً من جند الاعداء. اما في الحقل العلوي، فلابد ان تأتي نهاية كل المعارك المظفرة، إذ يُساق عدد من الاسرى العراة المقيدي الأيدي الى مصيرهم المحتوم(شكل 17).

لهذا النصب التذكاري اهمية دينية أيضاً، فاذا كان النصر قد تحقق، فان ذلك كان بفضل الألهة (عشتار) التي أشرفت على سَير صفحات المعركة، إذ مُثلت جالسة على عرشها، وهي متسلحة باسلحتها الحربية من الصولجانات التي تبرز من خلف كتفيها(شكل 17-18). فالبنية الظاهرية للمشهد، قد قسّمت الرسالة المبثوثة الى دائرتين، دائرة البشري ودائرة (الماورائي)، لتقدم بنية النص العميقة دلالتها، بمزج الدائرتين في خطاب واحد، ومدلول الشفرة المبثوثة، هو أن الفاعلية الأهم كانت (للقدسي) الذي قدّمَ (النصر) للبشري على طبق من ذهب.

لم تترك لنا الطبيعة، وكذا عدوانية بني البشر، أية فرصة لتعرف نظام تمثيل الاشكال البشرية في نسق الأشكال المتدافعة في الحقل العلوي من المسلة، إلا إنه يظهر من (صف) الأرجل المتراصفة، ان هناك نوع من الانتقال من (إقتصادية) الفنان السومري الخطية، الى اسلوب يعتمد التجسيم الشكلي ودراسة التشريح العضلي، مع نوع من وضوح جودة التقنية في خاصية الحفر، وتفريغ المساحات السالبة في التكوين (شكل 17). حيث تخطو أشكال الجنود الاسرى متقدمة الى الأمام على وفق إيعازات الضباط الاكديين، وبايقاع خاص مُؤسس على حركة تقديم الرجل اليمنى من قبل كل الجنود. وتلك ظاهرة شكلية بحاجة الى تعليل، فخاصية الحركة هنا لم تكن مرتبطة بنظام خاص من (السيّر)، وإنما برغبة الفنان في إظهار جميع تفاصيل الأشكال دون أي إختزال يُذكر. فلو إفترضنا ان الفنان قدم الساق اليسرى لدى كل الجنود، فان مثل هذه الحركة (العسكرية) سوف تخفي تفاصيل الساق البعيدة عن النظر. وتلك هي خاصية التمثيل الشكلي، الذي تهيمن فيه صفة (التذكر) على حساب المراقبة البصرية المباشرة.

أما في الحقل السفلي من المسلة مجال التحليل، فان الحال أفضل، إذ يمكن تعرف نظام نحت الاشكال البشرية بمجرد حصرها في عدسة عين الناظر. فاشكال الجنود المنتصرين برماحهم وفؤوسهم الحديدية، وكذلك الملك سرجون في الامام (شكل 17)، قد مُثلت باشكال (إصطلاحية) يرتبط بها الوضع الجانبي للوجه مع الصورة الأمامية للعين، والهيئة الامامية للصدر مع الأمتداد الجانبي للساقين. وذلك هو الاسلوب الذي يُنسب دون ادنى شك الى السومريين في تمثيل الأشكال البشرية على السطوح البصرية للمسلات والالواح النذرية والأختام الاسطوانية وغيرها.

ورغم ان نظام الاشكال هذا، يعقد مقترباً مع الاسلوب التكعيبي الذي منحَ الفرصة أيضاً لمشاهدة الشكل بأكثر من زاوية نظر في لحظة زمنية واحدة، إلا إن اهتمام الفنان الاكدي، كان منصبّاً على تركيب نظام الشكل باكثر الأوضاع تعبيراً عن معالمها في كل عنصر من عناصر التكوين الشكلي، معتمداً على ما يعرفه عن كل عنصر من العناصر الشكلية، عوضاً عن الأعتماد على النسخ البصري الفوتوغرافي.

فقد واجه الفنان مشكلة (الكيف) في تمثيل الشكل ذي الأبعاد الثلاثة في الواقع، على سطح ذو بعدين في نسق الفن، شريطة ان لا يخسر أياً من سماتهِ الشكلية المميزة. ولما كان الأمر كذلك، كان لابد للفنان من تركيب عناصرهِ الشكلية التكوينية، بأفضل الاوضاع إظهاراً، طالما انه يتجه الى الظواهر كما يعرفها وليس كما يراها، وتلك فكرة تقوم على الادراك أولاً ومن ثم التأويل في (تطويع) صلابة المظهر الخارجي للشكل، مع عدم المبالاة للأنطباع القائم على النسخ المباشر.

وتلك هي الصورة (المثالية) التي يلتقي بها البشر بالآلهة، نوع من مثالية الفنون الشرقية التي تمثل اشكال الآلهة بمسحة بشرية مثالية متفوقة، وفي ذلك خاصية من (الاستعاضات) الرمزية، التي تجد قدسيتها في شعائر دورية، قائمة على الفهم والأعراف الأجتماعية، فتتجسد في التواصل والعلاقات الذهنية المشتركة، وارتباطاتها الرمزية بوجود الجماعة.

ولعل من أهم سمات التكوين في مشهد مسلة النصر السرجونية (شكل17)، هي تغييب المنظور والميلُ الى التسطيح، فكان تمثيل الاشكال القريبة من النظر بنفس حجوم الاشكال البعيدة. وكذلك التلاعب بحجوم الشخصيات على وفق دورها وهيمنتها في بنية الأفعال داخل النص الممثّل، دون مراعاة لاية قواعد بصرية داخل التكوين، ولذلك إحتل حجم الملك سرجون فضاءً بصرياً مساوياً لحجوم كل جنود جيشهِ.

إن مظاهر الأختيار الواعي في الأختزال والحذف والتبسيط، التي تميز سمات الاشكال في مسلة سرجون، قد مثلت اشكال المقاتلين دون مسميات، إنهم اسرى وجنود مجهولين، وهم في بنية (النص) بمثابة اشكال رمزية، وليسوا شخصيات محددة، ولعل دورهم في (تفعيل) الحدث، هو دور عددي (رقمي)، ولذلك فأن تكرار أشكالهم واحدا تلو الآخر الى ما لا نهاية، بفعل إنفتاح نهايتي التكوين على اللامتوقع، أُريد به تأكيد كثرتهم العددية، بغية (تفعيل) خاصية (العدد) في التعبير الأظهاري الشكلي. بالأنتقال من الحشود البشرية الأرضية، نحو الكونية، التي لا يحصرها عدد محدد، فهي متحركة في حدود دون حدود، وبما يتطلبه النص الأسطوري، الذي يرفض محدودية الازمنة والامكنة والأعداد.

ولعل مأثرة النحات الأكدي المبدع، تكمن في إجتياز أعقد مناطق النص التشكيلي واكثرها إشكالاً، ذلك ان فعله الأبداعي، يكمن في (كيف) إحالة النص.. من كونهِ وثيقة تاريخية، الى (بناية) فنية تشكيلية، تتعدى محدودية الأخبار، نحو إنفتاح النص الاسطوري على اللامتعين في ملابسات الحدث وعقدهِ السردية. فشبكة صيد السمك المعتادة، التي سبق ان أُزيحت دلالتها من وظيفتها الحياتية، الى مدلولات (كونية)، والتي حصرِ بها الأله (ننكرسو) جند أعدائه كما مُثلَ على أحد وجهي مسلة النسور السومرية (شكل 19)، قد أستعيرت بنيتها الأسطورية على سطح هذه المسلة، إذ أُسرَ الملك سرجون جند اعدائهِ في نسيج خيوطها الحديدية (شكل 18)، وكل ذلك قد تم بمساعدة الألهة عشتار، التي وصفتها النصوص الأكدية بأنها:"عشتار الماهرة في صرع خصومها، عيدها هو المقاتلة، ومصادمة المقاتلين، إثارة القواد، وتهييج الجيوش" (بوتيرو،وكريمر،2005، ص29).

ب- المرحلة الثانية:

يمكن تحديد الحدود التأريخية لهذه المرحلة، بأنها تقع في عَهد (إنخيدو- إنا) إبنة الملك سرجون، التي كانت الكاهنة العليا في معبد الأله القمر (سن) في أورفي الناصرية، وعصر ولدي سرجون وهما (ريموش ومانشتوسو). واهم منجزات النحت البارز من هذه المرحلة هو ما يُعرف بقرص (إنخيدو- إنا)، وهو قرص دائري الشكل من الحجر الكلسي، يبلغ قطره 26سم، أكتشف في أور ومحفوظ حالياً في متحف الجامعة في فيلادلفيا في الولايات المتحدة الأمريكية (شكل 20).

يمتلك مشهد النحت البارز المُمثَل على السطح البصري لهذا القرص، أهمية خاصة في دراسة المنحوتات البارزة الأكدية، كونهِ يعرض موضوعاً دينياً بشكل خاص. فقد (هندَّس) الفنان سطح القرص الدائري، وأختار له (إفريزاً) ضيقاً في المركز نحت عليهِ تفاصيل المشهد، التي يبدو أنه قام بتخطيط حدود الاشكال اولاً ومن ثم ازال المساحات السالبة بينها، (بفعل) تقني في الأظهار، يشير الى خبرة ومهارة فائقة في إتقان إنجاز إخراج المشهد (شكل 20).

يهيمن على (شريط) الأشكال المُمَثْل بالنسبة للناظر، مركزان: الأول منهما هو شكل الكاهنة(إنخيدو- إنا) الذي احتل المركز، ولذلك نُحت بحجم اكبر من الشخصيات الاخرى في المشهد، اما المركز الآخر وهو الرئيس، فقد احتل النهاية اليسرى من الأفريز، ويتمثل بشكل معماري مدرج وبما يشبه شكل مأذنة سامراء (الملوية) ومؤلف من أربعة طبقات دائرية الشكل، ترتفع بشكل إيقاعي في تناسب حجومها من الأسفل الى الأعلى، إذ يقع اكبرها في الاسفل واصغرها في الأعلى. ولهذا الشكل المعماري أهمية قصوى لتمثيل نوع خاص من اشكال الزقورات التي ستصبح اكثر إنتشاراً في فترة عصر النهضة السومرية اللاحقة. وفي (ملمح) آخر يمثل هذا الشكل الجذر المعماري الأقدم لشكل (الملوية) السامرائية.

وبشكل عام يتميز المشهد بخيار تقني متميز في آليات إظهارهِ على السطح البصري للقرص، إذ ترك الفنان المساحتين العليا والسفلى لسطح القرص خاليتين من أي شكل من الأشكال، فاستحالتا الى قوسين حجريين لهما ملمس ناعم جداً، ويمثل هذا التلاعب في خاصية الملامس، أبدع الفنان تقابلاً خاصاً في لعبة (الملامس) على السطح البصري، فشريط الأشكال المنحوت (فعَّل) جماليا خاصية السطح الخارجي السالب، وكذلك فان المساحة المتروكة خارج المشهد، قد فعّلت خاصية الاستيعاب البصري ووضوح تفاصيل المشهد (شكل20). وفي الوقت الذي أغلق فيهِ الفنان النهاية اليسرى للنص بشكل النصب المعماري المقدس، فانه ترك النهاية اليمنى بالنسبة للمشاهد مفتوحة الى ما لا نهاية من أعداد الكاهنات المرافقات للكاهنة العليا (إنخيدو- إنا)، الأمر الذي (فعَّل) الخاصية القدسية للفعل الدرامي للطقس الديني المُمثّلْ.

تفتح الطريق أمام الكاهنة العليا(إنخيدو- إنا) احدى الكاهنات، التي إنشغلت بترتيب نوع من القربان على مصطبة القرابين (offering-Table)، التي بنيت أمام (النصب) المقدس، فيما يتابع السيرَ خلف الكاهنة العليا عليّة النسوة من الكاهنات ممن يحملن (عدة) او لنقل أدوات الطقس الديني (شكل20).

وإذ وصلَ الموكب قرب النصب المقدس، فان الصمت هو سيد الموقف، فالنصب هنا قوة ذات تبجيل ديني، وقد إكتسب قدسيته ليس من طبيعته المادية، وإنما لما يسكن فيه من أرواح وإرادات، فقد إمتلك مثل هذا التوقير بفعل الموقف الأجتماعي منه. وذلك بسبب إمتلاكه (إمكانات) خفية يستطيع ان يُؤثر بها على إنسان العصر الأكدي بشكل او بآخر.

ولذلك فان مثل هذا النصب المقدس، يصنف في نظام المعبودات على أنه (فتش) مقدس، وقد أغدق عليهِ الوعي الاجتماعي مضامين خاصة. بوصفه رمزا لظواهر حيوية في حياة الانسان الاكدي، فقد توحَّد مع القوى الماورائية، بعدّهِ (قالب) مُهيّأ لتحّل به الأرواح او تتجلى به حين يستدعيها فعل العبادة، ولعل ذلك يُبرر علاقته بالقرابين المقدمة اليهِ التي تعد من اهم وسائل استرضائهِ.

فبين (الأدبي) والاجتماعي هناك تداخل متشابك، ومقولة النص (القرص)، لا تتعارص على الأطلاق مع ما هو خارجهِ او لنقل ما يُحيط به. فلا معنى لأي تحليل إذا لم يضع فعل تلك المهيمنات بعين الأعتبار. ولذلك فان بنية (النص) على سطح القرص، ترتبط بالمعتقد، وهو الحجر الاساس الذي يقوم عليه الدين الجمعي، ومع مثل هذا المعتقد، يظهر (الطقس) المنظم، الذي مثل على سطح القرص، وهو (أقوى) أشكال التعبير عن الخبرة الدينية. فمن خلال القربان، ربما كانت (إنخيدو- إنا) سعيدة في صهر إستجاباتها الانفعالية في بنية سايكولوجية ذات طابع مُؤسس عام، سيعود على بلاد أكد بمظاهر الخصب والنماء والتجدد.

يعرض متحف اللوفر في باريس منذ أوائل القرن العشرين حتى هذه اللحظة، قطعة صغيرة من الحجر الكلسي يبلغ ارتفاعها 34سم اكتشفت من قبل البعثة الفرنسية في مدينة لكش في الناصرية، وتمثل هذه القطعة الحجرية جزءً من مسلة أكدية تعرضت للتحطيم من قبل اعداء الدولة الأكدية(شكل21).

يمثل المشهد الممثل على وجهي القطعة الحجرية، مجريات احدى المعارك الحربية الأكدية، وبغية إيجاد وسيلة لهندسة وقائع المعركة، عمدَ الفنان الى تقسيم سطحي المساحة البصرية الى عدد من الحقول الأفقية، لمسرحة الحدث على وفق الصورة المترسخة في خزينهِ الذهني وما يعرفه عن صفحات القتال. ومرة اخرى يظهر ألاسلوب الاكدي الذي لم يتضح بَعد ويتفرد بخاصيتهِ المميزة، إنشداده الى الاسلوب السومري، الذي ابتدع هذه الطريقة الهندسية لتوثيق المشاهد الحياتية والدينية (شكل 21).

والشيء الجديد والهام في هذه المسلة، هو ظهور أسلوب تعبوي جديد في اسلوب القتال، فقد تناثرت أشكال الجنود الاكديين على السطح البصري بين حقول المسلة، لاداء نزالات فردية، تعتمد على نوع جديد من التسليح، قوامه الرماح الطويلة ونظام القذف بالسهام. الأمر الذي (فعَّل) الخاصية الدراماتيكية للمشهد بنوع من الحركات الحقيقية والمتنوعة، التي تطلبت نظاماً خاصاً من الزي الحربي، ويتألف من وزرات من قماش خفيف مختلفة الطول ومفتوحة من الامام في معظم الأحوال (شكل21).

وبسبب فقدان الكتابة التي تصاحب المشاهد المصورة في هذه المسلة، فمن الصعب تحديد عائدية هذه القطعة الصغيرة من المسلة، إلا إنه من المنطقي التفكير إستناداً الى اسلوب نحت المسلة ونظام تكوينها الى أنها متأخرة زمنياً عن مسلة النصر للملك سرجون، وفي ذات الوقت فانها اقدم من مسلة النصر للملك نرام ـ سن، الامر الذي يجعلنا ان نحدد عائديتها الى أحد إبني الملك سرجون وهما ريموش او مانشتوسو.

رغم ان الاكديين فضلوا خامة الديورايت الصلبة في معظم منحوتاتهم البارزة، لكونها تعقد صلة مع فكرة البقاء والديمومة، التي تتطلبها مضامينهم الفكرية، وأماكن عرض مسلاتهم التي كانت تعرض في الساحات العامة للمدن، بوصفها وثائق تاريخية تعلن في خطاباتها الفكرية عن مجموعة من الأنتصارات التي حققها الملوك الاكديين. فقد حصل المتحف العراقي في السبعينات من القرن العشرين على قطعتين من مسلة أكدية نحتت من خامة الرخام الهشة والسهلة النحت، يبلغ ارتفاع القطعة الاولى 29سم وتعرض طقساً دينياً يؤديه احد الملكين أما أن يكون ريموش او مانشتوسو، عرفاناً بالجميل للآلهة بعد إنتصاره في معركة ناجحة (شكل22). والقطعة الأخرى بطول21سم، ومُثِلَ عليها صف من الاسرى العراة، وقد حُصِرتْ رؤوسهم بين عمودين أفقيين من الخشب، فيما كبلت أيديهم الى الخلف بحبال قوية (شكل23).

إن صورة الوعي الفكري الأنساني التي بلغتها الحضارة الأكدية، التي تجد (تجذيرها) واضحاً في بنية الحضارة السومرية السابقة لها، بخاصية (حضارية) تقوم على صفتي التواصل والاصالة، وتلك هي خاصية حضارة العراق منذ اقدم تمثال من عصر قبل الكتابة، وحتى نصب الحرية لجواد سليم. ونعني بها تلك الصورة القائمة على الاكتشاف والوعي والإدراك، وهي بمثابة نوع من الكشف الفكري بالتمييز ما بين نظامين للوجود، هما النظام الطبيعي او لنقل الواقعي والحياتي المعاش، والنظام ما فوق الطبيعي (الماورائي) الذي يتضمن قوى غيبية لها فاعليتها الحيوية في سير الظواهر والأحداث. فقد وجد الفكر الأكدي في منجزات النحت البارز، وسيلة لتوضيح مثل هذه الصور الذهنية المجردة. فكان إندفاعه لتكوين عالم آخر من القيم والمعتقدات، له صفة الثبات والديمومة، عوضاً عن عالم الظواهر الحياتية المتغيرة، إنها محاولة غرس الأيدي في الحاضر.

فاذا كان احد ولدي سرجون قد إنتصر في معاركه المتعددة، فان حصول ذلك كان بفضل تدخل الآلهة، ولذلك يُقدّم الملك الاكدي (الشُكر) الى احد الآلهة على وجه القطعة الاولى من المسلة المُهشمة، مقدماً خنجره الحربي قرباناً على مائدة الطقوس المقدسة (شكل22) متمظهراً بزيهِ الحربي، إذ غطى رأسه بخوذة معدنية حربية مزينة بعدد من الخطوط الافقية المتوازية، ومتمنطقاً بحزام عريض لتثبت تنورتهِ الطويلة وسيفه المستقيم المعتدل الطول. ومتزيناً بوقار بزيه الملكي، واضعاً وشاحاً ملوناً عريضاً مثبتاً على احد كتفيهِ، وقد إنساب حتى حدود تنورتهِ السفلية.

لم يمنحنا الزمن فرصة لرؤية حجم المسلة الكلي، وطبيعة المشاهد المصورة عليها، ومع ذلك فان أي من القطعتين الصغيرتين المتبقيتين منها، يمكن ان يكون مسلة بحد ذاتهِ، فالجزء منها يعبر عن الكل، بفعل تكامل التكوين المُمثَلْ على سطحها البصري. ولعل الرؤية الجمالية للفنان العظيم الذي أبدعَ إنجاز المشهد (شكل22-23)، تكمن في الوعي الجمالي في إنتقاء خامتها، تلك الكتلة المرمرية البيضاء اللون التي تجمع بين الصلابة والطراوة في آن واحد. وكذلك (الفعل) التقني المُميَّز لحساسية الخطوط التي أنجزت بها وحدات المشاهد، ورشاقتها وقوتها في آن واحد، فقد حددت الأشكال بمسيرة خطية تشبه تلك الحرية والدقة التي تتحرك بها الخطوط فيما بعد في رسوم كوربيه أو دوميه.

أما خاصية (تفريغ) المساحة السالبة خارج حدود الأشكال، فتلك (إشكالية) تدعونا الى مقارنتها بالدقة الكامنة في أعمال الصاغة الدقيقة او أطباء الأسنان. فقد كانت تقنية النحات تهندس الأشكال بالحذف والحك والشطب، وفي ذات الوقت تقيم تقابلاً عقلياً ويدوياً ما بين المرتفع والمنخفض على سطح التكوين، مما جعل المسلة وكأنها احد أعمال نحات الإنسانية (مايكل انجلو)، شريطة تغييب الحدود التاريخية للمنجزات الفنية.

ج- المرحلة الثالثة:

لم يهبط أسلوب فني بصيغتهِ او لنقل ببنيتهِ المتكاملة في يوم من الأيام من السماء، وإنما يحتاج الاسلوب الفني الجمعي، الى كم وكيف من التجريب ربما يستغرق زمناً طويلا، لوصول خاصية تفرده ونضجهِ وتكاملهِ. وذلك يستوجب تحولاً في أنظمتهِ الاستعارية، وانزياحاً في خطاباتهِ الفكرية، وتطوراً في إنتقائيتهِ للخامات وخاصية بنائها او تشييدها في المنجزات التشكيلية، وتفرداً في أنظمتهِ الشكلية.

ففي المراحل الأولى لولادة الأسلوب الجمعي، تعيش في بنيته نوع من الجينات الوراثية التي ترتبط في صفاتها وخصائصها مع المرحلة السابقة له. ولذلك يعقد تواصلاً وإتصالاً في تشفيراتهِ الفكرية وانظمتهِ الشكلية، وهما أهم خاصيتين في بنية الاسلوب، مع المرحلة السابقة له. والامثلة على ذلك حسب مقولة (تاريخ الفن) عديدة، كأتصال الفنون السومرية بفنون عصر قبل الكتابة في الفنون الرافدينية، وتواصل الاسلوب الأنطباعي رغم ثوريتهِ برسوم الواقعيين والطبيعيين مثل كونستايل وكورو، وكذلك البناء العمودي لأتجاهات الحداثة حيث ارتباط أنظمة الاشكال المستقبلية بالاشكال التكعيبية وصولاً الى الاتجاه التجريدي في قمة الهرم. وفي الفن المعاصر، من السهل إكتشاف (تجذير) الفن الشعبي pop-Art بالدادائية، وخاصية الفن البصري op-Art بتجارب مدرسة الباوهاوس، والقائمة طويلة.

إستغرق الأسلوب الاكدي زمناً طويلاً تجاوز الثمانين عاماً، كي يحقق إنزياحاً مميزاً في بنية الاسلوب الفني على ارض الرافدين. ونعني بذلك تفرده في نوعية خطاباتهِ الفكرية، والبنى اللاشعورية التي تُشفّر عنها، ونوعية تركيب الخامات في منجزاتهِ وخاصية إنتقائها، وكذلك تفرد أنظمتهِ الشكلية وآليات إظهارها في التكوينات الفنية التشكيلية.

وسيد هذه المرحلة في مسيرة تطور الفنون التشكيلية الأكدية، هو الملك نرام ـ سن، فقد حصل متحف أسطنبول في تركيا، على قطعة كبيرة نوعما لمسلة هذا الملك التي اكتشفت في ديار بكر في الأراضي التركية، ويبلغ ارتفاعها 57سم، وهي منحوتة من حجر الديورايت الصلب الأسود اللون (شكل24).

وبسبب تلف الكتابة المسمارية التي سطرّت بشكل جميل والتي تصاحب الشكل المصور، يصعب علينا التكهن بنوعية الابلاغ الفكري الذي يُشفر عنه السطح البصري للمسلة. فهل مُثل سيد الشرق بوقفة تعبدية امام رمز احد الآلهة، ليقدم شكره عن إنتصاره في احدى معاركهِ الحربية المتعددة؟، أم انه مشغول في وقفة تعبوية خاصة بوصفه قائداً للجيش الاكدي وهو يدير صفحات احدى المعارك في تلك المناطق البعيدة عن عاصمتهِ اكد. فكلا الموضوعين قد شغلا البنية السايكولوجية للملوك الأكديين، ولذلك حرصوا أشد الحرص على توثيقها باعمال النحت، كخطاب فكري او لنقل (رسالة) للأجيال على مَرّ التاريخ.

وبسبب التلف الكبير الذي أصاب المسلة، التي نتوقع انها من اكبر المسلات الملكية، لم يبق على سطحها سوى صورة الملك، التي تعرضت هي الاخرى، الى نوع من التعرية أفقدتها الكثير من ملامحها العامة. وفي موقف محرج كهذا بالنسبة لمؤرخ الفن، لا يمكننا الا أن نستشف من هذا النزر اليسير ملامح اسلوب جديد في النحت البارز الاكدي، الذي بدى واضحاً في صورة الملك، بصدد جميع تقنيات إظهار الشكل على سطح المسلة. فقد ظهر الملك بوقفتهِ البطولية المعتادة، وقد أطبقت كفيهِ على اسلحتهِ الشخصية وهي بشكل صولجان طويل وفأس ثقيل، فيما تمظهر بنظام جديد من الزي، ويتكون من (طربوش) مزين بعدد من الحزوز العميقة التي تدور حوله بكل إنتظام. وقد برزت دلالة مظهره الأحتفالي، بشالٍ جميل مشيد من عدد من القطع التي رتبت عمودياً احدهما فوق الاخرى، وقد زينت بخطوط عمودية متموجة، أضفت ايقاعاً جمالياً حركياً، ساهم بشكل فعال في (موسقة) الشكل، وخفف من صلابتهِ وجموده (شكل24).

أما نظام تصفيف (لحية) الملك نرام ـ سن، فانه يُظهر تشابهاً كبيراً، مع صورته فيما يعرف بالرأس البرونزي، فقد شُكَّل شعر (شاربهِ) كذلك من طبقة خفيفة من خصلات الشعر الناعم، فيما نحتُ شعر الوجه من الجانبين على شكل منظومة من الحبال الحلزونية الشكل، التي بدت اكثر سمكاً حين تحررت بشكل طليق في الهواء. ومن ذلك الفعل التقني، نستنتج دلالتين، الاولى هي المعنى الذي نقل الملك من دائرة البشري الاعتيادي، الى دائرة الكائن المُوقّر. اما الأخرى فهي الدلالة الشكلية التزينية، التي أضفت على شكل البورتريه نوعاً من الزخرفية الجميلة(شكل24).

فصورة الملك على سطح هذه المسلة الخالدة، اكثر تعقيداً وغرابة مما هي عليه في الواقع، ذلك ان الملك نرام ـ سن، بحركتهِ التعبدية او وقفتهِ الحربية، يؤدي دور (الرمز).. الدائم لذلك الكائن البشري الباحث عن سر الحياة. فبتجريده عن حدود الشخصية، فأن دوره يصبح اسطورياً، أي إنه رمزٌ صالحٌ لكل الاماكن والازمنة، فقد مَرَّ عِبرَ الواقع الى (التاريخ) الذي إختاره ليحيله الى رمز مايثولوجي لفكرة البطولة في تاريخ الانسانية.

تمثل مسلة النصر الأكدية للملك نرام ـ سن، إنزياحاً هاما في بنية المنجزات الفنية التشكيلية الرافدينية بصدد حجمها ونوعية خامتها وطبيعة موضوعها ونظام تكوينها الشكلي وتقنيات نحتها وآليات الأظهار الجديدة التي تميز نظامها الشكلي. فاذا فهمنا التاريخ بدلالة الفن، فان هذه المسلة التي تُعد من اعظم منجزات النحت البارز على ارض الرافدين، تؤشر فوراً الى خاصية الأسلوب الجديد في خارطة الفن العراقي، وفي (ملمح) آخر فانها تعلن عن منظومة الأفكار الضاغطة في بنية الفن التي شُكلِنَت على السطح البصري لهذه المسلة (شكل25).

اكتشفت هذه المسلة العظيمة من قبل الأثاريين الفرنسيين في مدينة (سوسة) عاصمة الدولة العيلامية في إيران في اوائل القرن العشرين، فقد تم عرضها اصلاً من قبل الملك نرام ـ سن في احدى ساحات مدينة (سبار) بالقرب من اليوسفية، تلك المدينة الهامة في حركة الادارة لدى الدولة الاكدية، إنها مدينة الأله (شمش) إله الشمس، التي اكتشف فيها المرحوم الدكتور وليد الجادر في السبعينات من القرن العشرين، واحدة من أهم مكتبات العالم القديم. وتلك هي الحالة المتفوقة الجميلة لمدن بلاد الرافدين، التي تزهو دائماً بالابداع والاهتمام بالمعرفة، وتمجيد الانسان بوصفهِ أعظم قيم الوجود.

وبعد تاريخ عرضها في مدينة (سبار) بألف سنة، أي بحدود 1200ق.م، نهبها الملك العيلامي الذي غزا بلاد الرافدين غزواً همجياً سافراً، ولم يترك فيها عملاً تشكيلياً جمالياً سليماً، فقد حطم ما يحلو له، ونقل الكثير من روائع الفن الى عاصمتهِ العيلامية. وبعد اكتشافها من قبل الفرنسيين، عُرضت للانسانية في احدى قاعات متحف اللوفر الفسيحة، التي كتب عليها جملة (آثار بلاد الرافدين)، وأحمد (الله) كثيراً على ارجاع الحق لأهلهِ.

نُحتت المسلة من خامة خاصة جداً، تُعبّر عن نوع من الانتقائية الذكية للنحات، الذي شكلّها من حجر رملي ضارب الى الحمرة، وتلك معادلة جمالية واعية، تعقد نظاماً من الأتصال بين اهمية موضوع المسلة، وخاصية التفاعل بين عناصرها التشكيلية واهمها الخامة. وتمتد منظومة العلاقات الشكلية الى حجم المسلة الذي بلغ المترين في الارتفاع، أما عرضها فمتر واحد. وقد نحتت من وجه واحد فقط، بموضوع أصرَّ الملك نرام ـ سن على توثيقهِ، الأ وهو واقعة إنتصار الملك على قبيلة اللولبي Lulipi، التي تقطن المناطق الجبلية على الحدود العراقية الأيرانية. بسبب إثارتها (القلاقل) وقطعها لطرق القوافل، وذلك (فعل) كان يزعج كثيرا مزاج الملوك الاكديين، الذين رغبوا دوماً بإمبراطورية يسودها النظام والخضوع التام للعاصمة المركزية أكد.

ويظهر من التكوين التشكيلي العام للمسلة، الى ان الفنان كان على علم مسبق بخاصية البيئة المكانية للحدث وطبيعة الموضوع المزمع تمثيله، أما تفاصيل المشهد المتنوعة، فلاشك مطلقاً من ان الفنان قد رافق الملك نرام سن في معركتهِ مع هذه القبائلِ. إذ ان التمثيل الدقيق لطبيعة النباتات الجبلية وخاصية التضاريس الأرضية، وحركة المحاربين من الجانبين، تشكل أدلة قاطعة على مثل هذا التصور (شكل24).

هندسَّ النحات، وهو من أعظم النحاتين على ارض الرافدين، رغم تخفيهِ خلف النص. نظام التكوين الشكلي للمسلة بشكل حر، فقد تركَ نظام الأشرطة الأفقية السومري الذي يُقطّع وجه الشاشة البصرية الى مساحات هندسية محددة بفواصل خطية، الى نظام الإنشاء (الهرمي)، إذ يهيمن على مساحة سطح المسلة شكل الملك نرام ـ سن بوقفتهِ الملكية المنضبطة. مرتدياً خوذتهِ الحربية المزينة بزوج من قرون الثور، وقد أمسك بأحكام بقوس كبير بيده اليسرى، وبما يشبه قوس (اوديسيوس) الاسطوري الذي لم يستطع أحد استخدامه إلا هو في ضوء ما ورد في أسطورة (هوميروس). فيما أحتفظت يده اليمنى بسهم طويل يشبه كثيراً السهام المعاصرة في المسابقات الاولمبية.

إشترك في تمثيل الحالة الدراماتيكية للحدث خمسة عشر شخصية، هم خلاصة جيشين ملتحمين في معركة، يتألف احدهما من ثمانية جنود في جانب، ومن سبعة جنود في الجانب الآخر. اذ يتحرك المحاربون الاكديون خلف قائدهم، مزودين بتسليح خفيف ورايات مرفرة متوجة بأشكال (طوطمية) مقدسة، وهم يرتقون سفح الجبل برتل مزدوج، فيما إنهزم الجيش المعادي أمامهم مستغيثاً طلباً للنجاة (شكل24).

ولعل البيئة المكانية بجميع تفاصيلها من اشجار الصنوبر، والجوز وطرق تقدم المحاربين قد أصبحت لأول مرة جزءاً من التركيب العام للحدث المصور، إذ ان خطوط (النياسم) الجبلية المرتبة احدها فوق الآخر، تمثل تضاريس الأرض أشبه بالأمواج، وقد مُثلت بشكل مائل من القعر في يسار المسلة بالنسبة للناظر، إلى أعلى اليمين في القمة. وقد توَّج المشهد كلهُ بذروة جبل مخروطية الشكل. وتلك رؤية جمالية أبدعها النحات لأنشاء نوع من التناسب والألفة بين خاصية نظام التكوين الداخلي للمسلة والشكل الخارجي لها (شكل25).

وكما هو الحال في معظم المسلات الاكدية، فقد نقش سفح الجبل في الاعلى بأسطر منتظمة وجميلة من الكتابة المسمارية وباللغة الاكدية، التي تشرح تفاصيل المعركة، وإشكالية إنتصار الملك نرام ـ سن بفعل محبة الألهة عشتار له، التي تكرر شكلها الرمزي عدة مرات في قمة المسلة، ويتألف من نقطة مركزية (مجسمة) تشع منها ثمانية رؤوس مسننة ومثلها من حزم الأشعة الضوئية (شكل25).

لقد أوضح السيد إيهاب أحمد بشجاعة نادرة، "بأن عدد الأشكال الرمزية التي تشير او لنقل (ترمز) الى الاله عشتار، كان سبعة أشكال في الأصل، وقد تساقط معظمها بفعل التعرية التي أصابت سطح المسلة" (إيهاب،2006، ص 252). وذلك يعني بالنسبة لنا ان نجمة الصباح المُشعّة قد ظهرت في سماء المعركة سبع مرات، وربما (يُشفّر) ذلك عن عدد أيام المعركة، ويمتد تأويلنا للشكل الرمزي للألهة عشتار وتكراره العددي، الى قدسية الرقم سبعة في الفكر الديني على أرض الرافدين.

ويشير استخدام رمز الألهة عشتار على سطح العملة النقدية المعدنية العراقية من فئة (الخمسة او العشرة فلوس)، في ذلك الزمن السعيد من العقدين الخامس والسادس من القرن العشرين، الى نوع من التواصل الحيوي ما بين (الأثر) والفن العراقي المعاصر، ليس بمعنى الأعادة، وإنما الأستنتاج والبحث عن الهوية، أليست (أم الخمسة فلوس) أقرب الى نفوس العراقيين من ورقة الدولار؟ فذلك أمرُ لا أشك فيه مطلقاً.

تَقُصّ أسطورة الخلق الأكدية وبشكل مقتضب، أن إله السماء (آن) قد تزوج إلهة الارض (كي)، فأنجبا بكرهما (إنليل) إله الهواء، الذي مضى يرتع بينهما، لكن (إنليل) كان يعيش في ظلام دامس، فأنجب من زوجتهِ (نليل) إبنه البكر (سن) إله القمر، ليبدد الظلام في السماء وينير الأرض، بعدها أنجب (سن) إبنه الأله (شمش) إله الشمس، كي تغمر اشعته الدافئة وجه البسيطة. والذي يهمنا في تأويل النص الأسطوري، هو ان اكثر الاشكال الرمزية ظهوراً في المنجزات التشكيلية الأكدية، كان الأله (سن) الأله القمر، ذلك الكوكب الذي ينير السماء للأكديين في موطنهم الأصلي في صحراء الجزيرة العربية وبادية الشام قبل هجرتهم الى أرض الرافدين.

أما إشكالية اعتزاز الاكديين بالألهة عشتار، التي عرفت بأسم (إنانا) عند السومريين، وابدعو لها شكلاً تجريدياً بشكل حزمة القصب المعقوفة كما يظهر في مشهد إناء الوركاء النذري، وجعلوها مسؤولة عن فكرة الحب والخصب والتجدد في مظاهر الحياة. فقد غيرَّ الاكديون اسمها الى (عشتار) وأضافوا لها الصفة الحربية، بالأضافة الى صفاتها السابقة التي (تَجذّرت) في ذاكرتهم، وأبدعوا لها رمزا بشكل نجمة الصباح المُشّعة، التي يتحرك الرعاة الاكديون بمجرد ظهورها مع الضياء الأول، لرعي حيواناتهم في بيئتهم الصحراوية.

كل ذلك نتج عن فعل التجريب المتكرر، الذي إستنتج نوعاً من العلاقة بين الحاضر (الفرد) والمغيب الماورائي، تسودها نظرة شخصانية لا تناقض فيها، فشُخصّت المظاهر الكونية المحيطة بالإنسان الاكدي على درجات متفاوتة، وهي حية بشكل ما، ولها ارادات خاصة، وكل منها له شخصية ومسؤوليات محددة. وذلك هو مبدأ حيوية الطبيعة ذو المرجعيات البيئية لأكثر الاشكال الرمزية المقدسة ظهوراً في الفنون التشكيلية الأكدية.

كتب مؤرخو الفن واشهرهم الاستاذين (انطوان مورتكات وأندريه بارو)، "بان الملك نرام ـ سن قد تطاول على الآلهة، بلبسهِ التاج المقرّن، ذلك الشكل الرمزي الذي يميز الآلهة عن البشر في الفنون التشكيلية الرافدينية" (مورتكات،1975،ص181) (بارو،1979،ص 228). ونحن لا نرجح مثل هذا الرأي، لان التاج المقرن يختلف في شكلهِ عن خوذة الملك نرام ـ سن الحربية، التي ألحقَ بها زوج من قرون الثور البارزة من الجهتين الأمامية والخلفية. بوصف قرن الثور هو خلاصة قوة الثور الطوطمية التي كانت مقدسة لدى الشعب الأكدي (شكل25).

ويتأكد رجحان هذا الرأي، من ظهور بعض الأشكال الطوطمية الحيوانية، في أعلى الرايات التي يحملها المحاربون الاكديون (شكل25). فهنا يُبجّل (الطوطم) كفكرة، على أنه قدرة من طبيعة عليا، وكأنه شعار شرف، فصورته على خوذة الملك نرام ـ سن، وفي أعلى رايات الجيش الاكدي، اكثر قدسية وأعظم أثراً بفعلها السحري من الكائن ذاتهِ، وبوسعها تحقيق النصر المؤكد في الوقائع الحربية.

ويتضح في مشهد هذه المسلة العظيمة في تاريخ النحت سمات الاسلوب الأكدي الواقعي المشوب بروحية مثالية بشكل كامل، فصورة الملك نرام ـ سن، بدت (مجسّمة) على سطح المسلة المستوي، بفعل (الحرفية) الكبيرة التي يمتلكها النحات، والأحساس العالي بالشكل. فمن خلال حركة أزميل النحات وشفراتهِ النحتية وادواتهِ الدقيقة الاخرى، بدت عضلات الجسم وبالأخص عضلتي الساقين، وتدوير شكل عضلة العجز، وتحرير شكلي اليدين من كتلة المسلة بشكل رشيق وجميل. وكأن دلالة القوة والحكمة أيضاً تكادان أن تنطلقا من (لُب) شكل الملك نرام ـ سن (شكل26). فهذا الأنتصار التقني للنحات يذكرنا بالروح المثالية التي تجتاز تمثال (داود) لمايكل أنجلو.

أما خاصية (تفاوت).. مستويات النحت على سطح المسلة، فتلك ظاهرة تقنية شهدها النحت العراقي لاول مرة، فلو (جردنا) سطح المسلة من شخوصهِ، فان كتل الحجر تحت قدمي الملك، وخطوط الطرق الجبلية التي تجتاز المشهد (شكل26)، كانت تلون سطح المسلة بحزم من الضوء والظل من شمس مدينة سبار المشرقة طيلة أيام السنة، الأمر الذي حوَّل المشهد الى مساحات مسطحة ومشرقة، تجتازها منظومة من الأخاديد (الظلية) الوعرة، وذلك فعل تقني جمالي في آليات إظهار السطوح البصرية النحتية، لم يبلغه فن النحت إلا بحلول عصر الحداثة.

وآخر الأمر فأن المشهد برمتهِ، "يذكرنا برسم (فيلاسكز) الشهير المعروف بأسم (تسليم بريدا) الذي أطبقت فيه ثمانية وعشرون رمحاً على جيش بأكملهِ. فالعبقرية وحدها هي التي تحدث تأثيرات كهذه، فقد كان المبدع المجهول لهذه المسلة الأكدية عبقرياً حقاً، بل إنه في الواقع واحدُ من أعظم نحاتي كل العصور" (بارو،1979، ص230).

حين أنجز (روبرت سمسون) عمله الفني المعروف باسم (حاجز حلزوني) عام 1970، فانه إنتقل بفن النحت من قاعة العرض، الى تشييد الطبيعة باعمال فنية. ولعل النحات الاكدي حين نحت مشهد إنتصار الملك نرام ـ سن في احدى معاركهِ على سفح جبل بالقرب من دربندي كاوور في المناطق الجبلية الى الشمال الشرقي من العراق (شكل27). فانه نقل كذلك فن النحت من التماثيل والمنحوتات البارزة التي تعرض عادة في المعابد والقصور وساحات المدن، الى نحت الطبيعة بهيئة اعمال نحتية وبنفس (خاصية) تلك الفكر المعاصرة التي تنتمي الى واحد من إتجاهات ما بعد الحداثة الهامة.

لم يألف النحت العراقي مثل هذه المحاولة العظيمة بعد عهد الملك الاكدي نرام –سن، الذي فرضَ على النحات ان ينحت سفح الجبل بمشهد توثيقي جداري ثابت، لنهاية احدى معاركهِ الناجحة، ولم يأبه الملك المنتصر بآ ليات (تلقي) المشهد الذي يحتاج فيهِ المتلقي الى ان يحلق بطائرة مروحية للألمام بتفاصيلهِ من الجو، بل كان جُلّ إهتمامهِ او لنقل (رغبتهِ) بأن يخضع مثل هذه المناطق الوعرة لدلالة صورتهِ، التي نحتت بحجم كبير يفوق مائة مرة اشكال المحاربين الأعداء الذين تساقطوا بحركات دراماتيكية تحت قدميهِ (شكل27). وتلك فكرة مناسبة لأن ننهي بها دراستنا التحليلية للمنحوتات البارزة الأكدية.

4- الأختام الاسطوانية الأكدية:

إن خارطة (تطور).. الفن على أرض الرافدين، تمثل سلسلة متصلة الحلقات من التقاليد والموروث الحضاري. نوع من السلسلة التاريخية الأصيلة، التي تتبادل التأثر والتأثير في التاريخ الأنساني. وبفعل هذه (التواصلية) في بنية الفكر الحضاري الرافديني، فقد إستثمر الأكديون (فكرة) الختم الأسطواني التي إكتشفها السومريون في 3500ق.م، بغية (تنظيم) حزم الأنظمة الفكرية والمفاهيم المتحركة في بنية فكرهم الأجتماعي. فالختم الاسطواني الاكدي (الموضوع)، يفصح عن بنية المعتقدات والأعراف والشعائر والطقوس والقيم الأجتماعية. فقد (وجدت) هذه المنظومات الفكرية دلالاتها وفعلها التعبيري (العميق)، بمثل هذه الأستظهارات الشكلية. إنها معادلة التمثيل والأنعكاس بين ما (يبلغه) التشكيل من دلالات، والاشكالات الفكرية الأجتماعية التي (فَعلّّت) إبداعهُ.

فاذا كانت التماثيل والمنحوتات البارزة، بمثابة (أبنية) ترتبط بماكنة الدولة الأكدية، فان الاختام الاسطوانية كانت فناً (شعبياً)، بوصفها (بُنىً) تُفسّر الدلالات (اللاشعورية) في حركة الفكر الأجتماعي، حين (شُكلِنَت) الخطابات التداولية الاجتماعية، على شكل منظومة من العلاقات الشكلية على سطوح مثل هذه القطع الحجرية الصغيرة الحجوم. فخاصية التفكير الاسطوري والملحمي واقاصيص البطولة التي تعمل بفاعلية على إظهارها، هي محاولات (إبداعية) لوضع دعامات تحت فوضى وبلبلة الفكر الأجتماعي، لتمكنه من الكشف عن معالم بنائهِ وإظهار صور التنسيق في حركة (وحداتهِ)، وإيضاح التماسك والمعنى في (بنائهِ)، لتكون له بمثابة (الحامل). فالتصوير (الشعري) لمعظم مشاهدها، الذي إستحال الى منظومة من العلاقات الشكلية، لم يكن مجرد (سرد) لقصص تُخبّيء مضامين رمزية، بل هو (إبلاغ) شكلاني يُمثل بنية الفكر المجردة، الذي اصبحت (التجربة) فيه واعية لذاتها.

والعظيم في كل ذلك، هو أن الأنسان الأكدي، أسس (وسيلة) للمثاقفة مع الآخر، التي (صيرّها) بفعل تفكيرهِ الابداعي، الى (شكل).. معبر عن معتقداتهِ. فأضحى خطاباً روحياً جمعياً، ذلك أن المحتوى الفكري او لنقل (مقولة) المضامين الفكرية في مشاهد الأختام الاكدية، كانت (تتعايش) مع وسيط بيئي (خاص) بمنظومة من الدلالات الثقافية والاجتماعية والدينية، فتبادلت معه الأثر والتأثير بآليات متفاعلة، وبخاصية (متفردة) من التكيف لنوعية المهيمنات الضاغطة الخارجية.

ومنذ العصر السومري المبكر (3500-2800)ق.م وحتى العصر الأكدي، ما زالت وظيفة الاختام الاسطوانية ترتبط بفكرة تنظيم معاملات البيع والشراء بين الأفراد. فقد كانت بمثابة التوقيع الشخصي الذي تختم به الوثائق التجارية. ومع ولادة فكرة التفرد بالتوقيع الشخصي، كانت خاصية (تميز) الذات في حركة الفكر الاجتماعي، إذ تسود الحرية بكل ما لها من معنى، فيشعر المرء بمكانتهِ الاجتماعية المميزة قبل عصر (ديكارت) باكثر من ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة. وذلك هو التحقق (الأول).. لنشوء الافكار الأنسانية على ارض الرافدين.

وفي (ملمح) آخر، فان استخدام الاختام على ارض الرافدين، كان أقدم نشوء لفكرة (الطباعة) في تاريخ الفكر الانساني، إذ أصبح بالامكان إنجاز العديد من (طبعات) المشاهد التشكيلية بمجرد ضغط جسم الختم على الطين وتدويره، فكان اقدم اكتشاف لتقنيات إنجاز المشاهد في فن (الغرافيك).

الاختام الاسطوانية الاكدية مثل سابقتها الاختام السومرية، (مُشكلّة) بعناية فائقة الى اشكال اسطوانية منتظمة ومتناسقة، من احجار مختلفة الصلابة ومتنوعة الألوان، إلا انها اكبر حجماً إذ يتراوح طولها في معظم الاحوال بين 2-4سم. وتكون دائماً مثقوبة طولياً بثقب يسمح بتمرير خيط، لتعليقها برقاب الأشخاص، بوصفها من المقتنيات الشخصية الملازمة لمعظم الأفراد، لاستخدامها بمثابة التوقيع الشخصي، لتأكيد حقوق الشخصية في البناء الاجتماعي. اما سطوحها فمزينة بمشاهد منحوتة تتنوع ما بين المواضيع الأسطورية ومشاهد الصراع الملحمية ومناظر طبيعية حسب ذائقة الأفراد وتفضيلهم الجمالي. وتنحت مشاهدها نحتاً غائراً ببراعة كبيرة وبشكل (شريط) معكوس يعود فيلتقي مع بدايتهِ، فاذا دُحرجَ الختم على سطح الطين الطري، سرعان ما (يُؤشّر) طبعة مشهده واضحةً بشكل صحيح (شكل28).

وتثير تقنيات نحت سطوح الأختام الاسطوانية الاكدية وكذا السومرية (الضيقة)، إشكالات ما زالت تشغل إهتمامات الفكر المعاصر. فمن الصعب تصور إنجاز مثل هذه المشاهد النحتية الدقيقة باوضاعها (المعكوسة)، دون إستخدام انواع من العدسات المكبرّة، وذلك إفتراض لم تؤيده الاكتشافات العلمية، الأمر الذي يؤكد توفر انواعٍ من الادوات والآلات الحجرية والمعدنية الدقيقة، لانجاز نحت المشاهد، وكذلك (وجوب) توفر نوعٍ من الخبرة والمراس والتجريب لحفر الاشكال الصغيرة الحجوم.

تقدم الأختام الاسطوانية الاكدية خطابها (الوجودي) بدلالة صلابة خاماتها الحجرية، فالزمن ذلك (البُعد) الذي اصاب الشخصية الاكدية بالصميم، وأربكها بمزيد من عدم التوازن السايكولوجي، كان يجد حلولاً لأشكالاتهِ (الأنطلوجية) نحو نيل البقاء والصمود أمام عاديات الزمن، بدلالة صلابة خامات هذه الأختام، إذ ان بنيتها كانت حجرية في عمومها وجوهرها. أما تنوع ألوانها المدهش، فيدلّل على (سمو) الذائقية الجمالية ورقيها لدى الشعب الاكدي من جهة، وله ارتباطات بدلالاته الرمزية بثقافة الشخصيات من جهة اخرى. في حين يكشف وضع الاختام داخل أغلفة ذهبية، او تزيينها بتماثيل صغيرة في الأعلى، عن اهمية الشخصية من الناحية الاجتماعية.

وتؤكد الاختام الاسطوانية الاكدية اهميتها التاريخية بوصفها نوع من (الوثائق)، من خلال أسطر الكتابة التي تجتاز فضاءات السطوح البصرية بين الأشكال، التي (تبلغ) عن أسماء الاشخاص والآلهة المعبودة والأدعية ومراكز الشخصيات الأجتماعية، فهي توفر قراءة علامية للمشاهد بدلالة (أرصفة) الكلمات، أي إنها تشرك (اللغة) في فك (شفرات) الاشكال المتحركة على سطوح الاختام الحجرية.

لقد ظهرت الكتابة على سطوح الاختام منذ العصر السومري الذهبي (2800-2370) ق.م، إلا أنها كانت في البداية مبعثرة بين الاشكال. وفضيلة الفنان الاكدي هنا، هو أن أدخل اسطر الكتابة بنظام أنيق من الحس الجمالي العالي في الترتيب والتنظيم، فقد اصبحت العلامات الكتابية (تُنفّذ) بشكل اسطر هندسية الشكل، إذ تحفر حفراً عميقاً، وبتقنية إظهار تُدلّل على خبرة عظيمة لدى الكتبة، ومهما تنوعت الفضاءات المحددة لها على السطوح البصرية، فانها تشكل مع وحدات المشاهد تكوينات مدروسة ومتناسقة بصدد المساحات والحجوم، وهي في ذلك تشبه أناقة اللوحات الكلاسيكية للفنان (دافيد) وإن خلت سطوحها من أسطر الكتابة.

ولعل أهم ما يميز تقنية إظهار المشاهد على سطوح الأختام الاسطوانية الاكدية، هو وضوح طباعاتها وكأنها مشاهد عظيمة من منجزات النحت البارز، فرغم ضيق مساحة السطوح الحجرية الصلبة المهيأة للتنفيذ، إلا ان أنساق الخطوط قد حفرت حفراً عميقاً، فيما درست ادق تفاصيل العضلات والعظام والمفاصل للاشكال البشرية والحيوانية بشكل ممتاز يفوق التصور، وذلك يحتاج الى نوع من الخبرة والصبر وكذلك القصد والارادة لتحقيق مثل هذا الأمر الصعب المنال، الذي لا يمكن أن يكون إلا في ورشة أحد الصاغة المعاصرين في مدن العالم المتقدمة (شكل28).

إن اكثر المواضيع إنتشاراً في مشاهد الاختام الاسطوانية الأكدية، هي أكثرها تداولاً للأفكار المتحركة في بنية الفكر الأجتماعي. إذ لاقت فكرة (البطل) الاكدي الرمزي الذي يحدد مساحات وإتجاهات الفتوح الاكدية في منجزات النحت المدور كما في تمثال (باسطكي)، إقبالاً إجتماعياً واسعا في مواضيع الأختام الاسطوانية كذلك، لكنه في ختم الملك الاكدي (شار-كالي-شري) يظهر وهو يروي (فحل) حيوان الجاموس من إناء إنسابت منه المياه بوفرة، وقد امسكه بكلتي يديهِ بكل إهتمام (شكل 28). فقد استقر البطل على الأرض بجلسة (الركبة ونصف) بكل ثبات، مستعرضاً شكله الاسطوري الذي يتألف من مظهر امامي لوجهه المؤطر بثلاث حلقات دائرية من الشعر على جانبيهِ، وتمنطق بحزام له ثلاث دورات حول الخصر وقد لفت وربطت ربطا محكماً، فيما راح (شفج) الجاموس منشغلاً بكل وداعة بارتشاف آلاف الأمتار المكعبة من مياه الرافدين الخالدين دجلة والفرات التي لا تنتهي (إن شاء الله) الى يوم الدين.

وبغية (تخصيب) دلالة المشهد، فقد تم تكرار ذات الصورة الاسطورية للبطل والحيوان بوضع متقابل ومتماثل بشكل تام على جانبي الختم، فيما احتل مستطيل النص الكتابي الفضاء البصري بين قرون الجاموس التي مثلت بوضع إستعراضي أشبه بسعفتي نخيل وكأنها واحدة من العلامات المهيمنة في القراءة التعرفية للنص. ويظهر من خلال حشود العلامات المركبة في بنية المشهد ان (الحدث) قد جرى على احدى ضفاف الأنهار في منطقة جبلية بدلالة صفوف الأشكال الحرشفية التي تؤطر ضفتي النهر (شكل28).

وربما يجتاز المتلقي (المسؤول) للنص، شيئاً من الملل عند بحثهِ عن دلالة مثل هذه الأفعال، بسبب سمة التكرار التي تميز المشهد، إلا ان عليه ان يُدرك، ان عملية فك مغاليق مثل هذه النصوص الاسطورية، وتعرف آليات (شُكلِنَت) مضامينها، فان للتكرار في بنيتها وظيفة إيقاعية تشبه تكرار الانغام في المعزوفات الموسيقية، فالمشهد بقدر ما هو (إبلاغ) عن معنى، فانه في نفس الوقت، (موسقة) للوحدات التكوينية وأنساقها، كي توحي بمدلولاتها المتشظية بقدر ما يمتلك النص من إنفتاح، الذي يتسع ويكبر ويتفعّل، نحو أبعاد دلالية جديدة، لها مهام وصفية وتأكيدية في (تعميق) الدلالة الفكرية.

أما البنية العميقة للنص، فيمكن تعرفها من خلال خاصية الاشكال الرمزية المتحركة على السطح البصري، فقد إختزل المفكر الأكدي وكثّف قوة الحياة وحيويتها بفكرة (الماء)، وتلك مسألة تأويلية معروفة في الفنون الرافدينية منذ عصر قبل الكتابة مروراً بالعصر السومري والادوار الحضارية التي اعقبته. لكن الجديد في التأويل هو إبتكار نوع من الاشكال الاسطورية التي تهب هذه القوة (الحيوية) للموجودات، فذلك البطل الذي ينتمي الى عالم الاشكال الملحمية اكثر من حدوده البشرية، هو القوة غير المحددة الامكانات التي تهب حتى اقوى المخلوقات رمز البقاء والديمومة بكل سخاء. وتلك محاولة سحرية (لإجبار) الطبيعة، في ان تكون، وأن تتجدد كل عام.

ويظهر في بنية النص (تغييب) مقصود لتحديد مكان الحدث، دون تشخيص أسماء النهر والجبل وموقعهما الجغرافي، ولعلها كائنة في (نقطة) لا يمكن تحديدها إلا في (خيال) المتلقي. وطالما ان (المستقبل) لهذه الرسالة هو الفكر الانساني في عالميتهِ غير المحددة، تبقى الاشكالية، هي اشكالية ابداع في بنية مثل هذه النصوص الملحمية، ولعلها (وجدت).. خصوصيتها في تفعيل (الابلاغ) عن الحدث او الحدوث بدلالة المكان غير المعين، إنها ازمنة وأمكنة كونية، لا يمكن تعرفها في بنية الاساطير والملاحم الأكدية.

ومع ان ختم الملك (شار-كالي-شري) يقدم خطابهِ التقني بقدرة متفردة من آليات الأظهار، وكانه جدارية آشورية من بضعة امتار، وقد حفرت على مساحة حجرية صلبة ومستديرة لا تتجاوز الثلاثة سنتمترات، وتلك إشكالية مستعصية الحل حتى الوقت الحاضر (شكل 28). فانه من ناحية أخرى، يثير إهتمامات الفكر المعاصر، بالخيال المتعالي الكامن في إبتكار وتركيب اشكال وحداتهِ التكوينية، إنها (قوى) من إبداع بنية لا شعورية تتصل بالمغيبات. ومع ذلك فانها تعني ببساطة ما تقول، فهي تُخبّيء معناً حقيقياً تحت موضوعها الظاهر، بوصفها تمتلك أثراً علاجياً نفسياً للذين (آمنوا) بها من الاكديين، فهي تُفسّر للحائرين منهم، ما يجري في (لاوعيهِ) وبما يُبقيهِ متماسكاً.

ومع اجواء البطولة والقوة والفتوحات الناجحة الاكدية، شاعت في مشاهد طبعات الاختام الاسطوانية، نوع من مشاهد الصراع الدراماتيكية التي ينبري بها (هرقل) الاكدي، رمز قوة الدولة وسطوتها، للدخول في جولات (صراع) عنيفة مع نوعين من الحيوان هما فحل الجاموس والاسد. ودلالة المشهدين اللذين لقيا إقبالاً شعبياً واسعاً، مختلفة، فالبطل حين يطأ بقدمه عنق فحل الجاموس، ماسكاً باحدى قرنيه وبطرفهِ الخلفي، تمهيداً لتمزيقهِ شلواً فشلواً بيديه القويتين (شكل29) فأنه (يعلن) هذه المرة عن قوتهِ الاسطورية، إذ باستطاعتهِ تحطيم اقوى الموجودات في عالم الطبيعة بحركة واحدة. فالبطل (الرمز) حين (يروي) اقوى الموجودات ويمنحها الحياة تارة، او يحطمها الى مجموعة عظام ومفاصل تارة اخرى، فانه يعرض احداثاً ملحمية، ويؤدي أدواراً درامية، مثقلة باشكالات فكرية إِجتماعية، كونها جزءاً فاعلاً في الشعائر الطقوسية الناشطة في الوعي الأجتماعي.

في طبعة الختم الاسطواني الاكدي (شكل30-30أ) يظهر البطل بصراع دراماتيكي مع أسد قوي هذه المرة، فقد أثنى البطل (الرمز) ركبتيه وراح يخنق أسداً هائلاً، ويوشك ان يقذف به طائراً في الهواء. بجو من الصراع الدراماتيكي المحتدم، الذي ليس له مثيل إلا في لوحات (تيرنر) التي يختلط فيها (زَيَد) البحر بصخور الشاطىء في بنية واحدة.

ويُخبّي المشهد في تشفيره الدلالي، عن قوتين، هما طاقة الوجود المتمثلة بالبطل، وقوة الفناء الكامنة في الأسد. فالتعبير في المشهد البصري، لم يكن نسخاً لواقع مُعطى، بل هو كشف لأشكالات الفكر الاجتماعي، بما يجتازها من رغبات ومخاوف، تبثهُ اشكال فنية مُحمّلة بدلالات رمزية، كانت بمثابة اللغة المتداولة في أسواق المدن الأكدية.

فمثل هذه الاشكال الرمزية، قد (أولّت) من اشكالها ودلالاتها الطبيعية المألوفة، فاصبحت حرة من صيرورتها الطبيعية، لتؤدي فعلها في نسق الفن، بدلالات مضافة، للتعبير عن معتقدات الانسان ومخاوفهِ. إنه (فعل) الانتصار على رمز الموت، لتحقيق التوازن الكوني، الذي أستمر فعله في مشاهد الصراع هذه حتى العصر الآشوري، فالقصد من هذه (الممارسات).. التي هي بمثابة طقوس روحية، هو إثارة نوع من العاطفة في سايكولوجيا الجماعة، لتكون عاملاً مؤثراً في حياة المجتمع العملية. فقد كرر الافراد في المجتمع الأكدي مثل هذه الشعائر عدة مرات، فأستنتجوا بفعل التجريب (طقوساً رمزية) او وسائل تعبير يتجسد بها مثل هذا النشاط الجمعي. إنه السحر الكائن في جذور الفكر الأنساني، الذي يوحي في نفس الآن: احساساً بالعجز ووعي بالقوة، تحسباً من احداث الوجود، مع القدرة بالسيطرة عليها، وذلك هو الجوهر الأصيل لمثل هذه المنجزات الابداعية.

لقد كانت إشكالات الفكر التأملي عند الأكديين، هي الانسان وطبيعتهِ وقيمهِ، فالانسان الأكدي لم ينجح بل لم يحاول في جعل نفسه موضوعاً علمياً لنفسهِ، فكانت حاجته المُلّحة للسمو على فوضى التجارب والحقائق المتناقضة، تؤدي به الى البحث عن إفتراضات ميتافيزيقيه، فالانسان إذا ما تناول موضوع ذاتهِ، فانه لن يحيد عن التأمل حتى يومنا هذا.

إذ تمثل احدى طبعات الاختام الاسطوانية من العصر الأكدي (المحفوظة في متحف برلين، (قصة) صعود الملك (إيتانا) الى السماء. الذي نصحته الآلهة بالطيران نحو السماء للحصول على نبات الخصب لأن امرأته كانت (عاقراً). فعلى المساحة التصويرية الضيقة جداً لسطح الختم، حشد الفنان مجموعة كبيرة من الاشكال تمثل موجودات بيتهِ. فقد فتحت باب البيت المصنوعة من (جريد) النخيل على مصراعيها، لتكشف عن أمرأتهِ جالسة بجوار (تنور) الخبز، وقد نشرت بشكل جميل ما أعدّتهُ من أرغفة، فيما راحت حاشيتهُ وكلابه تُحدق يائسة في اجواء السماء وقد (حيرّها) إختفاء سيدها المفاجيء على ظهر نسر في أجواء السماء (شكل31).

وخلال عملية الطيران، طلب النسر من (إيتانا) ان ينظر الى حجم الارض ومعالمها عدة مرات، فشاهدها كأنها التل وبحارها كالأنهار الصغيرة، واستمر في الصعود حتى بلغ مدخل سماء (آنو). وهنا ينخرم النص المسماري للقصة عند هذه العقدة من الدراما (الأيتانية) فلا نعلم هل حصل على نبات الخصب الذي يساعد على الأنجاب أم لا، "على ان المرجح انه حصل على مبتغاه كما تشير الى ذلك دلالة أثبات الملوك، إذ ورد فيها اسم الملك (باليخ) على أنه إبن (إيتانا) الذي تولى الحكم من بعدهِ"(طه باقر،1976، ص 134).

من الصعب حساب الزمن في مثل هذه النصوص المايثولوجية، على وفق قياساتنا ومفاهيمنا المعتادة، فالزمن لا يعلن عن ذاتهِ إلا في ضوء النتائج والأفعال، فنحن لا نعرف مثلاً، كم إستغرق (إيتانا) في رحلتهِ نحو السماء؟ وكم مكث هناك؟ ومتى كانت العودة؟ فاذا كان الزمن يؤثر بالفعل في السرد الاسطوري، فأن أثر الفعل أهم من مدة ديموتهِ. تُرى، هل طار (إيتانا) حقاً الى السماء؟ محققاً اول محاولة بشرية للطيران، أم انه طار في خيالهِ فقط، وذلك هو المهم، بسبب قلق سايكولوجي (أرّقه) من الداخل، وتلك مشكلة الأبن وولي العهد التي ما زالت مؤثرة في الفكر الشرقي القديم والمعاصر على حد سواء.

نحتت الاشكال على سطح ختم (إيتانا) باسلوب يمكن وصفه بالبدائي، واهمية مثل هذه (المشيدات) البدائية في الفن الحديث، تكمن في خطاب (فان كوخ) الى صديقه الأديب (أميل برنار) قائلاً: "أندري.. ان هناك شيئاً، إفتقدته، وشعرت بالأسى لأني لم أره في المعرض. إنه سلسلة من البيوت الطينية البدائية، فهل تستطيع أن تمدني بفكرة عن تلك البيوت البدائية؟، فقد وقع نظري على بعض الاوراق الأيضاحية، التي تحمل رسوماً لمساكن بدائية، إنها تبدو بدائية وجميلة جداً. آه لو قُيضَّ للمرء ان يتعرف على مساكن تلك العصور، وآهٍ لو قدَّر له ان يرسم الناس الذين عاشوا في دواخلها، لكانت تلك الرسوم تماثل اعمال (ميليه) جمالاً، أنا لا أقول من حيث ألوانها، بل بقدر ما للأمر من صلة بهويتها، فأنها تبدو شيئا مميزاً.. شيئاً يؤمن المرء بهِ إيماناً راسخاً (ريد،1994،ص 36).

هناك فكرتان تبرزان في خطاب (كوخ)، الاولى: أن ما هو بدائي كان جميلاً ويماثل اعمال (ميليه) جمالاً. والثانية: ان مثل هذا الفن ليس جميلاً فحسب، بل إن له (هوية) مميزة، ويمنح المرء إيماناً راسخاً بروعة الفن، وإيماناً بالانسانية. وتلك هي عظمة مثل هذه المنجزات الابداعية الصغيرة (الاختام) وعظمة مبدعيها، الأمر الذي جعل الاجيال تتحدث وتناقش مآثرهم الابداعية على مَرّ التاريخ.

من أشهر الأختام الأسطوانية في العصر الاكدي، هو ما يعرف بختم الطائر (زو) أو (آنزو) Anzu (شكل 32)، إذ تمثل طبعة هذا الختم، إسطورة سرقة ألواح القدر من الأله (إنليل) إله الهواء، ومعنى اسمه السيد العاصفة، وأرادته هي الدستور غير المدون للدولة الكونية. من قبل هذا الطائر الكاسح الذي يرجح انه كان احد آلهة العالم الاسفل. وبفعل جسامة الحدث، لان حيازته لالواح القدر، ستجعله يمتلك السلطة المطلقة على الكون والآلهة. إجتمعت مجموعة من الآلهة لأنزال العقوبة به، إذ يتوسط شكل الأله (شمش) إله العدالة والشرائع مشرقاً من بين الجبال الشرقية سطح الختم الاسطواني، مميزاً بحزم الأشعة الضوئية التي تنبعث من كتفيه. فيما وقفت خلفه الألهة عشتار باسطة جناحيها ومتسلحة بصولجانها وهراواتها الحربية بوصفها إلهة الحرب، وعلى يمين السطح البصري بالنسبة للمشاهد يخطو الاله (إنكي) إله المياه، وقد انسابت امواج المياه من كتفيه، ووقف خلفه وزيره الخاص الذي يتميز بوجين أمامي وخلفي، كي يرى كل شيء بوصفه وزير لأله المعرفة. اما الى أقصى اليسار فيقف الاله (ننورتا) مسلحاً بالقوس والسهم مع قرينهِ الاسد، إذ إنتخب لغرض القضاء على الطائر (آنزو) وقتلهِ واسترداد الواح القدر منه (شكل32).

يعرض مشهد الختم، فكرة الاكديين الذين عملوا على (تنظيم) القوى الماورائية على شكل منظومات مجتمعية، فنظّموها ونمذجوها، بشكل لم يعرف له العالم القديم مثيلا، حتى غدت مؤسسات واضحة المعالم. وفي (ملمح) آخر لم يستطع الاكديون فهم الدلالات الرمزية لهذه الاشكال المقدسة (الآلهة) كما في المشهد الاسطوري مجال التحليل، على أنها كينونات خاصة ترمز الى الآلهة او القوى الماورائية وبذات الوقت هي منفصلة عنها، إنها تعامل كالشبه بين شيئين، أي انها دلالة رابطة بين الشيئين المتشابهين، ولذا يلتئم الرمز والمرموز إليه جميعا، كما يلتئم المتشابهان، إذ يغدو الواحد بديل الآخر، فالعدالة والحرب والحكمة والشجاعة، ما هي في الغالب إلا ذات الافكار مزودة بقوة إرادة.

فابطال مشهدنا الدرامي، هي آلهة (نظرية) لها بنية فلسفية، فهي لا تباشر وجودها الفعلي وصلتها بعالم الانسان، إلا عندما تعلن عن فعاليتها الواضحة في الزمن. فتنبيء عن وجودها في سياق زمني محدد، فيتحول الوعي الانساني من فكرة الآلهة الى تأريخها. فهي عندما تجتمع وتقرر وتعاقب، فانها تنتقل من الوجود المجرد الى الفعل، وذلك يُظهرها في عالم الانسان، ويشدّها الى مسار حياتهِ، ويجعلها احد المواضيع المحببة في مشاهد الأختام الاسطوانية الشخصية.

ما أسعد تلك المرأة او ربما ذلك الرجل، الذي أنتقى (شكل) منظر طبيعي ليكون مشهداً يميز (توقيعهُ) الشخصي، لاشك ان ذلك (الأنسان) كان من أول الأنطباعيين في التاريخ. إذ ابدع احد النحاتين الاكديين على سطح احد الاختام الحجرية الضيقة، منظراً طبيعياً يحتاج في تقنيات الفن المعاصر الى لوحة كبيرة بقياس 3م ×2م لاحتواء جميع وحداتهِ التكوينية، ففي الشكل (33) تصور طبعة أحد الأختام الأسطوانية مجموعة كبيرة من اشكال الوعول والأسود، باوضاع حركية متنوعة بين القفز والجري والوقوف الحذر، على أرض جبلية مليئة باشجار الجوز والصنوبر او ربما أنساق من (شقائق النعمان) المتنوعة الالوان، التي أفترشت ارضية المشهد، فيما أشرقت الشمس في الزاوية اليسرى العليا من المشهد. بينما إقتنص الفرصة في مثل هذا الوجود السعيد، احد الصيادين ليصيب طرديته باحدى سهامه الجارحة.

وعلى الرغم من النهايات المفتوحة للمشهد (شكل33)، فقد كانت المساحة التصويرية المتاحة لنحت شكل واحد من الأشكال الحيوانية على سطح الختم الحجري الصلب لا تتجاوز في أفضل الاحوال بضعة ملمترات، تُرى كيف استطاعت تلك اليد المبدعة ان تنجز بمثل هذه الواقعية التي تميز الاشكال، بحركاتها الدقيقة، وحساسية خطوطها العظيمة، مع دراسة التفاصيل التشريحية لاجسامها، ومراعاة خاصية المستويات على المساحة البصرية (شكل32). لاشك ان الموضوع أشبه بالأعجاز، الذي حققه الفنان العراقي في اقدم مناطق التاريخ، بعدتهِ النحتية المتواضعة.

أظهرت دراستنا التحليلية لاجناس الفنون التشكيلية الاكدية، أنها شملت فن العمارة والنحت بجنسيه المدور والبارز وكذلك الاختام الاسطوانية، ويبدو إن من السابق لأوانهِ التكهن بوجود الرسوم الجدارية او عدم وجودها. إلا إن من المنطقي التفكير بوجود الرسوم الجميلة التي كانت تزين جدران القصور الاكدية.فمثل هذه السطوح توفر مساحات كبيرة لاستعراض تفاصيل إنتصارات الجيوش الاكدية وبما يتفق مع الايدلوجيا الاكدية، التي أصرّت على ان تخلّد للاجيال ما حققته من مآثر بجميع احداثها وتفاصيلها الدقيقة. إلا إن مثل هذه الأفتراضات سابقة لأوانها، وتنتظر إثبات وجودها بوساطة الاكتشافات الأثرية في المدن الاكدية.

5- نهاية المشهد الأكدي:

اذا كانت بنية الحضارة السومرية بنية (طينية)، فان بنية الحضارة الاكدية كانت صيرورة حجرية، ولو بُعثَ احد السومريين مرة أخرى، لما إضطرب لرؤية منجزاتهِ وهي حطام، فقد عرفَ معرفة عميقة، بان الانسان أيامه معدودات، ومهما صنع وابدع، فما هو إلا ريح تهب، إذ ان مركز الوجود ومغزاه لديهِ بعيدان كل البعد عن الانسان ومنجزاتهِ، بعيدان عن الاشياء الملموسة والباقية، إزاء ارادة قوى ماورائية تحكم الكون. وعلى العكس من هذه الصورة، آمن الاكديون بانهم سينالوا البقاء الابدي، بدلالة صلابة الأحجار، التي حفروا عليها اعمالهم البطولية، وبذات التقنية التي عالج بها (كلكامش) قلقه الوجودي حين إختارَ فكرة ان يحفر اسمه ويُخلّد اعمالهِ على جدران الوركاء، مذكراً الاجيال بما حققه من اعمال بطولية.

لم تنفع تلك الحلول السايكولوجية الاكديين باعطائهم فرصة الاستمرار والتواصل التاريخي، فقد تولى الحكم بعد موت الملك (نرام ـ سن) ملوك ضعفاء، لم يستطيعوا السيطرة على إجزاء الامبراطورية المترامية الأطراف، فانسلخت عن هيكل الدولة اقاليم واقوام عديدة، وسادت ماكنة الدولة حالة من الفوضى والارتباك، حتى ان أحد الكتاب الاكديين وصف مثل هذه الفوضى بعبارة: (من هو الملك، ومن هو غير الملك). فأستغل (الكوتيون) الفرصة، وهم من اقوام جبال زاجروس الأجنبية، فشنوا غزواً مدمراً ضد الاكديين، وتمكنوا من اسقاط الدولة الأكدية، بعدما هزلت قوة السلالة السرجونية وجيشها، واوقعوا الخراب والتدمير في أغلب مدن العراق. وسادت حالة من الفوضى والخراب، دخل فيها الفن العراقي سباتاً طويلاً استمر قرابة مائة عام، وهي فترة سيطرة الكوتيين. وذلك هو حال الحضارة العراقية، فكلما تألقت وازدهرت ووصلت الذروة، تعرّضت لنكسة وتدهور وإنحلال، إثر هجوم غازٍ أجنبي في معظم الاحوال. إلا إنها ويا للعجب تقوم مرة اخرى من سباتها، لتؤسس وتبني وتزدهر من جديد، مثل طائر العنقاء، حين يفرك ريشه ليحترق ويتحول الى رماد، ومن ثم يقوم من بين (كوم) الرماد لينمو ويكبر ويتعاظم، وهكذا دواليك.

وصفت النصوص الكتابية الكوتيين: بانهم اقوام متوحشين غريبي الهيئات، وجوههم كوجوه الغربان واجسامهم اجسام الطيور، وقد إنحدروا من تلك الجبال البعيدة، وكانوا ذوي قوة وبطش وجموعهم غفيرة. الى الدرجة التي أدهشت قواد الجيش الاكدي، وجعلتهم يتسائلون، هل ان تلك الاقوام بشر أم شياطين؟ فيما أوّلت النصوص الدينية سقوط مدينة اكد الى غضب الآلهة، نتيجة غزو الملك (نرام ـ سن) لمدينة (نفر) عاصمة الاله (إنليل) إذ نهبها وإنتهك حرمات معابدها. فثأر (إنليل) لمدينته، بان سلط على اكد جموع الكوتيين، الذين انحدروا من جبالهم مثل (أرجال) الجراد، فأحلوا الخراب في كل مكان.

ويمكننا إقتطاف نزر يسير من النص الديني الذي يلعن مدينة اكد:

"يا أكادة عسى ان تُفارق اقوياءك قوتهم، فيحلّ بهم الوهن

وان يُهلك القحط والجوع أهلك

وأن تسرح في خرائبك الكلاب وبنات آوى، وتنعق فيها

الغربان والبوم

يا أكادة، عسى ان يجري في أنهارك الماء الأجاج بدلاً

من مائك العذب الصافي" (طه باقر،1976، ص 221)

وهكذا تحققت لغة الآلهة على (أكادة) فعمها الدمار والخراب، فنبوءة هذه القصيدة تصور لنا حقيقة تاريخية بالنسبة الى مصير (اكد) من بعد سقوطها، إذ إنقطع أي ذكر للمدينة في النصوص الكتابية من عصر النهضة السومرية اللاحق، الذي سنتناول دراسة حضارتهِ وفنونهِ في الفصل التالي.


  • 1

   نشر في 05 شتنبر 2023 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا