رجل لن يكرره الزمان 

لملمت في ذاكرتي شتات لحظات قضيتها رفقتك كانت مدة صلاحيتها أربع سنوات، تلك الأربع سنوات أشبه بدهر ،كانت كافية لتصنع مستقبلي و حاضري، كافية لتكوين جزء من شخصيتي،كافية لانتشالي من عمق النيران لترسى بي إلى مرفأ الأمان .

لا طالما عاتبت القدر الذي فارق بيننا،و تمنيتك في الوجود لعلك تأخذ بيدي، لعلك تفخر بي في كل نجاح حققته،كنت أثابر في الحياة الدراسية،و أجاهد في الحياة المنزلية،و أشرفك أينما وطأت قدمي،في كل نجاح هرعت فيه لأمي فكسرتني كنت موقنة لو أنك حي لرممت كسري،لقد كنت حيا بالفعل، لم تمت لأن في الحياة كثير من الموتى و في القبور أحياء مثلك يا أبي،لم تمت و لن تمت فأنت تعيش في قلبي،أنت الطيبة التي تنبض بداخلي،أنت ضميري الحي الذي يوقظني،أنت الذي علمني الفرق بين الخطأ و الصواب، أنت من علمني الحب،بل أنت الحب بذاته.

لو سئلت عنك لقلت بلا تردد:

 أبي ذاك الطيب الحنون

أبي ذاك المعطاء الغير منون

أبي من لا يسيء الظنون

أبي من يحبني بلا قانون

أبي من علمني العلوم و الفنون

أبي من أعشقه حد الجنون

لقد رحلت عني و أنا أبلغ من العمر أربع سنوات،لم تحرمني ذاكرتي من ما عشته معك من لحظات،لحظات من الحب و الحنان و الدلال....

كنت تحملني على كتفيك كأنني أميرة حرام أن تسير على الأقدام،كنت تمسح دمعي الذي ما مسحه عني بعدك أحد،كنت تخشى حزني،كنت تدخل السرور على قلبي بقطع من السكاكر المستديرة المحشوة بالشوكولاتة ،فبعدك لم يقدم لي أحد شيئا دون طلب،كنت تعايدني بورقة نقذية خضراء اللون لم أعرف قيمتها الحقيقية إلا بعد،تلك الورقة النقدية أجرة عامل في يومه،أنت من كان يأخذني جولة مع رفاقه و يشتري لي الآيس كريم الباهض الثمن ذو النكهات الثلاث:الفانيلا و الفراولة و الفستق، أنت من كان يحملني في تلك الليالي الباردة و يجري بي خوفا في المستوصفات بعد أن سكبت الأكل على قدمي أو وضعت يدي في المكواة،أو أثناء مرضي، فبعدك أمسيت مريضة لا علاج لها،أنت من كان يفكر في مستقبل الطفلة ذات الأربع سنوات فحوشت لها مبلغا هائلا يتعدى ربع راتبك و لأختي الربع الآخر،لا اهتمام حصلت عليه من بعدك و لا حنان التمسته كحنانك و لا حياتي عادت حياة من بعدك ، لكني ما يئست و ما جزعت لأني ابنة شهم خام المعدن لا يصدأ ،نجاح تلو نجاح أتربص في الحياة و أتعلم من دروسها و أعلم أنك تشاهدني من بعيد ، و تحمد الله أنك أنجبت من نسلك من يكمل بعدك المشوار......

لن أنساك ما دمت حيا بداخلي،لن أحاسبك على قراراتك التي اتخذتها قبل رحيلك، من أنا لأحاسب؟ فأنا أيضا لي أخطاء سأحاسب عليها من خالقي لا من البشر،لدى فقد رسمتك في خيالي كأب كامل الأوصاف،فحتى ذاكرتي لم يحدث لها أن رأت عيبا فيك لتحتفظ به،كل ما احتفظت به كان دليل على مثاليتك،كل عيب رأيته في آباء الغير احتفظت بعكسه عنك، ستظل مرآتي في الوجود ،فأنا نسخة مستنسخة منك،كل اختياراتي و هواياتي و ميولاتي التي اخترتها عن جهل بما كنت عليه،اكتشفت بعد حين أنها الإختيارات و الهوايات و الميولات ذاتها التي كنت تنجذب لها،سامحني إن أخذت يوما أشخاصا فاشلين كقدوة لي و أنا أملك أحسن موسوعة كان يجب أن أقتدي بها في الأخلاق و الأفعال و الطيبة و حب الغير بدون سابق حساب،مهما عبرت عن حبي لك فلن تكفيني لا الكلمات و لا الجبال و لا البحار لأسرد ما يختلج في صدري، لدى سأكتفي بأن أختصرك في كلمة ،لا بل في جملة،الأمثل في فقرة:أنت نور منبثق في داخلي ،أنار دربي و أثلج فؤادي،لن أرحل حتى أنشر الشعاع عينه في ذريتي و في كل من أستطيع التأثير و لو في خيط رفيع من عقله،و في الأجيال القادمة،لأنه حتما يجب أن يكمل أحد مشوار الطيبة و الطموح مع كثير من الوعي و المثابرة......