"هل أتاك حديث الغاشية"
ضمائرنا المثقوبة تصحوا على حفلات تكريم الموتى
أنت من يتأمل جثة حب في طور التعفن، لا تحتفظ بحب ميت في برد الذاكرة، أكتب، لمثل هذا خلقت الروايات.
أسوأ تجربة يمر بها إنسان هي أن يتعرض لسرقة، سرقة الوقت، سرقة العمر، وسرقة الفكر؟!
وقد تعرضت لذلك عدة مرات
الساعة الآن الواحدة صباحا، وأنا لا افتأ أحاول أن أسطو على ورقة أو قلم، وصوت المذياع الذي لا آبه به يصدر الضوضاء فقط.. ضوضاء فقط، مرة صوت موسيقى لا أشعر بها، ومرة لصوت أغنية لا افهمها، وأخرى صوت أخبار الموت في العالم.. صدقوني هي مجرد ضوضاء فقط تخرجني من السكون في ذلك الليل الموحش.
صوت صدح من نفس المذياع وانا أحاول البحث عن قناة أكثر تنوعا "هل أتاك حديث الغاشية"
لا شك أنني كنت محظوظا مع ذلك المذياع الذي اتهمته زورا وبهتانا بعدم الأمانة.. غير أن حظي لم يكن في مستوى حظ القارئ الذي بالتأكيد لا يبحث عن رسالة شكر مثلي؟!
يا ليتني كنت أنا المسروق وقتي في تدبر تلك السورة ولا أقول السارق لعمر مضى هباء منثورا.
لطالما قرأنا القرآن، لكنها قراءة لمجرد القراءة، دون تدبر ولا تأمل في معانيه وحكمه وآياته، ولا الوقوف على أحكامه؟!
"هل أتاك حديث الغاشية"، اخترقني ذلك الصوت وانا اللاهي ابحث عن كلمات لمقال تافه، يواكب العصر ويستسيغه العامة قبل المثقفين.. تجمد القلم ويداي باتت ترتعش؟!
أسأل الله ان يلطف بي في لحظات البياض من أيامي حين يكون مطلوب منا اغتنام نفحات هذا الكتاب العظيم، فلا أبرح محراب خشوع مع الله رب هذا الكون العظيم. حيث اعمالنا تعرض على الله وهو المطالب قائلا: ذوقوا حلاوة صبركم وحلمكم مع رب غفور رحيم معطاء. وقمر هذا الليل يتحدى سحب حبلى سرعان ما تتكاثف رماديتها لتطلق من بطنها خيوط النور تشق صدر السماء وهي تغدق مطرها بهيبة وسكينة..
كيف للعين أن تذوق الهناءة بنوم يأخذها خارج هذا العالم المحقون بالقلق.. أوجعني سوء تصرفي، وأكثر من ذلك هو الإحساس انني لا شيء يستحق بهذا الكون.. لن اقول هو الغباء، ولا هو الجري وراء ملذات الدنيا، بل اقول انه أبشع من ذلك واوهن.. لهذا فشعوري أنى قد ضؤل حجمي حتى ذبت كقطعة ثلجية فقدت ابعادها وباتت بلا شكل يذكر..
الساعة شارفت على الثانية صباحا، ولحظات من الشدة تفقدني أعصابي، وتكاد تلتهمني وتخرجني من البوابة الخلفية للحياة.
الشعور بالضياع مؤلم، فإن رافقه الغباء أصبح أكثر ايلاما، والاهتمام بتوافه الأمور أكثر جهلا.
الآن أدركت معنى "هل أتاك حديث الغاشية".. قد عرفت كيف يتشابه الفقد بالعيش كما الفقد بالموت. يبدو أنني لم أكن أجيد العيش ضمن الحياة التي لا تدين لحياتي ولا تدركها مشاعري بعميق احساسها. عشت وعالمي مليء بالفوضى والبحث عن توافه الأمور ليشار لي بالبنان من مجامل أجوف، أو مهرطق أرعن؟
قال جل من قائل: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۗ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴿٩٧ الأنعام﴾
النجوم بالذات هي أبعد الاشياء الطبيعية احتمالاً في اثارة حب الاستطلاع الانساني.. وجسم الانسان هو أفضل مرشح للاهتمام المنهجي المبكر..
إن الانسان يرتقي عن طريق إثراء مواهبه، ملكاته، وقدراته اما ما يخلفه في طريقه فهي معالم مراحل تفهمه للطبيعة ولنفسه.. إنها معالم فكر لا يشيخ.. ومن حكمة رب العزة أن جعل الانسان هو الكائن الوحيد الذي لم يحبس داخل بيئته .. فخياله ومنطقه وحدة ذكائه وخشونته وفطرته كلها تجعله قادر على الا يقبل أن يعيش في بيئة غير سوية، وأن يسعى دوما لتغييرها.
الحرية بطبيعتها ما هي إلا قوة يمكن ممارستها بأكثر من طريقة؛ أيْ طريقة تكون تحت سيطرتنا. إن الحرية بطبيعتها تترك لنا المآل في اختيار الأفعال التي نؤديها، ولكن القوى السببية العادية، القوى المسببة للأشياء، ليست على هذه الشاكلة على الإطلاق.
لطالما كنت أن أحمقَا وسخيفًا وأنا ابحث عن عنوان لمقال سخيف فيه شيء من الرومانسية، أو قصيدة تروق للكثير من الذين همشوا حياتهم لفترات طويلة كما فعلت أنا، عندما كنت أفتقد التفكير تمامًا.
الساعة الآن تقترب من الثالثة صباحا، ولا زلت أحاول النيل مني؟
كل ما يحدث ناجم عن قضاء لله بأنه ينبغي أن يحدث — وهو قضاء سينفذه لله حتمًا، وقضاء يستند إليه كل العلم الإلهي بالمستقبل — والأفعال الإنسانية ليست استثناء من ذلك، فكان الانسان مخيرا او مسيرا، فإن كنا مسيرين فلا يمكننا إذن أن نكون أحرارًا في أن نفعل خلاف ذلك؟ وإن كنا مخيرين، فلا بد أن نتساءل كيف يمكن أن تكون الكيفية التي نتصرف بها شيئًا يؤول إلينا ثم نتبع ما أمر الله به.
"هل أتاك حديث الغاشية" لابد ان تكون مشاعري مضطربة.. وحساسية ضميري عالية.. وأحلامي هائمة.. غائمة.. وقلبي يثب في صدري كفراشة ملونة.. لطالما قيل أن الماء هو الحياة، ففي الصحراء لا تزهر الحياة، ولكن كم تساوي الحياة؟
.. كلما عدت للكتابة شعرت ان تلك اللحظات التي اكتب فيها قد طوت اوراق واحزان وافراح قرن بأكمله، وادخلها في ذمة النسيان.. تكون الازمنة قد تكسرت.. والايام قد داست على بعضها البعض.. والمسافات قد تفجرت.. والحدود التي بدت بعيدة بين القرون قد تلاشت وذابت وضاعت. ما الذي يمكن ان نكتبه ونحن نجلس في محطة الزمن على وشك ان نشهد لقاء قطارين طال سفرهما أحدهما قادم من قرن شاحب يحتضر والآخر ذاهب الى قرن صارخ بالميلاد والحياة.. ماذا سأكتب؟ تجمد القلم، والحروف باتت عقيمة!!حسنا، سأكتب عن أن التحلي بالفضيلة يقابله في الجانب الاخر رذيلة، والخلط بينهما يعادل الخلط بين الحلم والواقع.. فالركض وراء ملهيات الدنيا هو بالذات نتاج العقل النائم الذي يوجد في الحاضر ولا يوجد فيه.. ويقيم منطقه على عاطفته ومشاعره ويرى نفسه في مركز العالم ويعمل تحت سيطرة تامة من اللاوعي.
ماهر باكير دلاش
-
Dallashوَإِنِّي أَتَجَاهَلُ وَلَسْتُ بِجَاهِلٍ غَضِيضُ الْبَصَرِ وَلَسْتُ أَعْمَى وَإِنِّيْ حَلِيمٌ وَلَسْتُ بِحَالِمٍ حَصِيفُ الْكَلِمِ وَلَسْتُ أَسْمَى مَاهِر بَاكِير