الأسطورة كمُعيق للتاريخ ، والعقل كمشترك إنساني
نشر في 02 فبراير 2018 وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .
يمكن القول من خلال استقراء التاريخ ، أن تاريخ الإنسان ليس سوى تاريخ ارتقاءه في سلم العقل ، ليس سوى تاريخ العداوة أو الصداقة مع العقل ، إذ كلما استعمل الإنسان عقله كلما رغد عيشه ، و سهلت حياته و انبلج معنى الحياة أمامه ، أما لو استدار و هرب عن العقل ، لهربت عنه الراحة و لهجره المعنى و خيب ظنه الحدس ، و لأتخمه الجهل و أهلكه العنف .
لا يختلف المؤرخين كما لا ينكر الواقع المُعاش أن الإنسان لم يَستهل مسيرة الحياة ، باستخدام العقل بل كانت تحركه العواطف و لازالت ، ففي بدايات حياته على هذه الأرض ، كان الإنسان بسيطاً في تفكيره خائفا من الوجود من حوله ، سادجا في استيعابه للظواهر الطبيعية مثل الليل و النهار ، والمطر والرعد والبرق وما شابه ذلك، إذ كان يعتقد الإنسان القديم أن هناك مخلوقا كبيرا يسقط المطر و كان يفسر النجوم و الشهب على أنها شضايا لهيب مدفئة المخلوق الكبير الذي يعيش في السماء ، و نظرا لضعفه و حداثة حياته كانت هذه الظواهر تثير الخوف والرعب في نفس الإنسان ، و لما عجز البدائي هذا عن تفسير هذه الظواهر عزاها إلى قوة خارقة تتحكم فيها و في حياته ، هذه القوة الخارقة لم تكن محسوسة لديه ، أي كانت قوة ماوراء طبيعية أي قوة "ميتافيزيقية Métaphysique". وبالتالي اعتقد البدائيون بوجود "كيان روحي Entité spirituelle" يتحكم في الظواهر الطبيعية و في حياة و مصير الإنسان ، إذ تلخص هذا الإعتقاد في وجود خالق و محرك خفي للطبيعة ، وهكذا اختلقت في البداية فكرة الإله عند الإنسان تاريخيا .
أليس حري بنا أن نتساؤل و الحالة هذه ، أن اختلاق الإنسان البدائي لفكرة "المحرك الخفي" أثناه عن استعمال عقله ؟ أليس رمي علة الوجود و الطبيعة على محرك خفي ، هي الوجه الآخر لكسل الإنسان في استعمال عقله ؟
قد نتفهم كون ثني فكرة المحرك الخفي الإنسان البدائي عن التفكير العقلاني ، على أنها شيء مستساغ نظرا لوضعه الإستهلالي للحياة و الطبيعة ، و انصدامه بعضمتها ؟ غير أنه كيف يمكن تفسير استمرار الإستمساك بنظرية المحرك الخفي في زمن العلوم الدقيقة و التجريبية و الموضوعية ؟ كيف يمكن فهم استمرار تقاعس الإنسان عن استخدام عقله متكئا على فكرة باتت تصنف في خانة خرافات التاريخ ، في زمن الفلسفات التجريدية و الفكر العقلاني الخالص ؟
معلوم من حقل الميثولوجيا ، أن الأسطورة تتضمن "نظرية معرفة" ، أو بكلمة أخرى تتضمن مجوعة من الأجوبة عن أهم أسئلة الإنسان الوجودية ، كأين وجد الإنسان قبل الحياة ؟ و أين كانت الطبيعة قبل الوجود ؟ ثم ما هدف و ما مصير الإنسان و الطبيعة ؟ إذ تقدم الأسطورة أجوبة عن هذه التساؤلات ، كما تحقق شرط أساسي للإجتماع الإنساني القديم و هو خلق "هوية ثقافية" للعشيرة ، و هي التي تشعر أفرادها بالإنتماء إلى بعضهم البعض ، و بذلك تبدع الأسطورة معنى الوجود للإنسان و لحياته ، و بالتالي تخلق له إيمانا جماعيا تنصهر فيه ذوات الأفراد و تتعايش.
غير أن هذا المعنى بما أنه يمثل الجماعة ، يكلف الخارج عنه غاليا ، فبما أن الإيمان تخلقه الجماعة و ليس الفرد ، فإن خروج الفرد عن المعنى الذي تقدمه أسطورة الجماعة (الكفر بها) ، يعتبر خروجا و خيانةً للجماعة كلها ، إذ يعتبر الإيمان عند الإنسان البدائي اختيارا جماعيا و ليس فرديا ، و لا يخفى استمرار و توارث هذا الشكل من الإيمان الإكراهي في أديان العصر الوسيط ( كالهرطقة في المسيحية و الردة في الإسلام) إذ لا يعتبر ذلك إلا إيمانا بدائيا ، هكذا فإن الأسطورة خصوصا في نسختها المتطورة في أديان التوحيد الثلاثة ، تبتكر كتبا مقدسة تستعملها لجعل نظرية المعرفة التي تقدمها "بنية مغلقة" ، تصبح معها إيمانيات الإنسان غير قابلة لا للشك و لا لإعادة الإختبار ، و بما أن نظرية المعرفة هذه تقدم كل الأجوبة عن كل أسئلة الوجود و الحياة ، و بما أن وضع الفرد في المجتمع البدائي يكون مرتبطا بباقي الأفراد ميكانيكيا ، تصبح لا حاجة للتفكير و لا داعي لاستعمال العقل ، فإذا كانت الأسطورة أو الديانة تجيب عن كل ما يطرحه الإنسان من تساؤلات ، فلا تصبح للعقل ضرورة و لا لاستعماله غاية أو عائد نفعي ، خصوصا إذا علمنا أن السؤال هو ما يبني موضوعات التفكير العقلاني . هكذا فإن تاريخ الأسطورة و الدين ليس سوى تاريخ استقالة العقل عن التفكير .
هكذا فإن شرط ممارسة التفكير و استعمال العقل يكون غير متوفر في المجتمع البدائي الذي يتأسس على الدين أو الأسطورة ، هذا الشرط هو "الحرية" و "الإستقلالية" ، إذ لا يمكن للعقل أن يفكر إلا إذا كان حرا و مستقلا عن ما تؤمن به باقي العقول ، لا يمكن له أن يبدع إلا خارج تصور الجماعة عن الإبداع ، لا يمكنه أن يجيب إلا إذا تجاوز سداجة أجوبة الأسطورة ، و بالتالي فلا يمكن للعقل أن يفكر إلا خارج البنية المغلقة التي تخلقها الأسطورة ، لا يمكن له أن يمارس نشاطه إلا إذا فتح بنية التساؤل التي أغلقتها الديانة عن طريق التقديس و الوعيد بالعقاب الدنيوي و الأخراوي لمن يشك في حيازتها الحقيقة المطلقة . هكذا فالتفكير العقلاني يقتضي بالضرورة الجحود و الكفر بالحقيقة ، التي لا تحتازها الأسطورة إلا على سبيل الإدعاء .
إذن فسير الإنسان في مسير و طريق الأسطورة منذ البداية ، جعله يؤسس عشائره أولا و مجتمعاته تاليا على أفكار ديماغوجية غير قابلة للشك بل محذرة منه ، و بالتالي محذرة إياه من التفكير ، على اعتبار أن الشك هو بداية ممارسة التفكير العقلاني . لعل غياب هذا الأخير هو ما ترك الإنسان في يقين مزيف و جهل مقدس ، و نتاجاً لذلك ظل الإنسان عاجزا على اكتشاف سر الوجود و الإقتراب منه ، إلا بعد أن أتى اليونانيون ، أي إلا بعد أن ظهرت "الفلسفة" بمعناها المتكامل ، فلم تظهر إلا في المجتمع الإغريقي الذي تميز عن غيره في منح هامش كبير للفرد من الحرية ، كما توفرت فيه أسس سياسة ديموقراطية ، أبدع بواسطتها الأفراد لأنفسهم قدرا مهما من الإستقلالية على الأقل فكريا ، ما وفر أهم شرطي التفكير العقلاني (الحرية- الإستقلالية) ، و بذلك ستبدأ بالظهور نظريات فلسفية تقدم أجوبة حول الحياة و الطبيعة هي أقرب للعقل منه إلى الخوارق و الأساطير ، هنا سيلمع وميض العقل و يرقرق تفكيره لأول مرة بعد قرون عجاف من الكساد و الضياع في جهلوت الخرافة و العقيدة المقدسة .
و بذلك فإن بنية المجتمع البدائي التي لا توفر للفرد الحرية و لا تمنحه الإستقلالية ، لا تتيسر في ظروفها للإنسان مبادرة استعمال العقل و التفكير المنطقي ، هكذا فإن أي مجتمع لا يفكر أفراده عقلانيا و لا يبدعون فهو مجتمع بدائي بالضرورة ، و عليه فإن امتلاك حقل التفكير العقلاني يبدأ بهدم أسس المجتمع البدائي الذي تأسس على الأسطورة ، و تأسيس آخر جديد على أساس العقل ، و كذا الحرية و الفردانية و العقلنة و الإستقلالية و القانون الوضعي و المساواة و العدل ، و ذاك هو المعنى الحقيقي و الشامل "للثورة" ، إذ إن تغيير أساس المجتمع لا بد أن يوازيه و ينتج عنه تغير الثقافة -بمعناها الأنثروبولوجي- و الأفكار و القيم و الأخلاق ، تغير نمط الإقتصاد و نوع السياسة و شكل الفعل الإجتماعي عموما ، إن لم أقل تتغير كذلك المشاعر و الأحاسيس اتجاه الوجود بكل مكوناته و في طليعتها الإنسان ، إذا تغير التفكير من الأسطوري إلى العقلاني .
لا يمكن للمفكر و المؤرخ أن يجد هذا التغيير في شكله التام إلا في أوربا ، و من بعد في أمريكا و بعض دول الشرق الأقصى كاليابان و استراليا ، التي تحقق فيها ما يمكن نعته مع عبد الله العروي بـ"سقف التاريخ" ، أي التغيير الجذري للمجتمع من أساسه الأسطوري إلى أساسه العقلاني . و هو المعنى المعاصر للحضارة ، إذ كلما ارتقت أمة من الأمم صوب العقل كانت متحضرة ، و كلما ارتدت و هوت نحو الخرافة و الأسطورة كانت متخلفة .
هكذا فإذا أردنا أن نجمل أهم علل و أسباب التخلف و تقاعس العقل و كسل الإنسان في استعماله ، قلنا "المجتمع" ببساطة و ما يتضمنه من ثقافة أسطورية و دينية ، لأن المجتمع (التاريخي) هو أهم أسباب ثني العقل عن التفكير ، إذا علمنا أن أسسه لا تعدوا كونها بناءا أسطوريا ، و إذا علمنا أيضا أن المجتمع البدائي لم ينقرض بعد كليا بل لا زالت نسخه الكربونية منتشرة في مختلف أسقاع الأرض ، و هو ما يؤثر على البشر الذين يعيشون في هذه الأسقاع و يبعدهم عن التفكير الحر العقلاني ، و ذلك ما يفرض عليهم العيش في ظروف متخلفة ، إذ أن التخلف يبدأ في الذهن ثم ينتقل إلى الواقع . لذلك فهدم هذا المجتمع و رمي ثقافته في الماضي حصرا ، شرط تحقق سقف التاريخ و استعمال العقل و بالتالي الخروج من التخلف و صناعة الحضارة .