يمتلك كل إنسانٍ منا مجموعاتٍ كبيرةٍ من البشر (المعارف) الذين يتعامل معهم في جميع مناحي حياته .. ولو قسّمنا هذه المجموعات إلى دوائر، فيمكننا تصنيفهم في صورة ثلاث دوائر متدرجة الأقطار.
- الدائرة الكبرى (الأبعد): وتحتوي على مجموعة الناس الذين نتعامل معهم في علاقات سطحية عابرة، مثل: بائع الصحف – مدير المدرسة التي يدرس بها الأبناء – فتاة الاستقبال في الفندق الذي قضيت فيه إجازتك الصيفية الأخيرة ..... إلخ.
- الدائرة الوسطى: وتحتوي على مجموعة الناس الذين تجبرنا مجريات الحياة على معرفتهم والتعامل معهم على فتراتٍ متقاربة، مثل: زملاء العمل – الجيران – الأقارب - ........ إلخ.
- الدائرة الصغرى (الأقرب): وتحتوي على مجموعة الناس الأكثر قربًا والذين نثق بهم في أمورنا الخاصة، مثل: الأبوين – الزوجة – الأبناء – الأصدقاء المقربون – المحبين ....... إلخ.
يتحرك كل من نعرفهم - كالإلكترونات حول النواة - كلٌ في مداره ودائرته .. وقد تؤدي المواقف المتعاقبة - الناتجة عن تعاملاتنا معهم – إلى أن يخرج شخصٌ من إحدى هذه الدوائر ليدخل في دائرةٍ أخرى .. ومع كل تغيرٍ في موقع أحدهم تتغير أرواحنا ويعاد تشكيلها من جديد .. تمامًا كما يحدث للذَرَّة إذا خرج أحد إلكتروناتها من مداره، فإنه يُحدِث تغييرًا في خواص وطبيعة الذَرَّة .. قد يكون هذا التغيير طفيفًا قليل التأثير، سواء كان تغييرًا بالإيجاب أو بالسلب .. وقد يكون تغييرًا عنيفًا يسبب إما هزةً نفسيةً قاسيةً، وإما يعيد إحياء الروح فينقلها إلى مراتب عليا من السعادة والانتشاء.
وأكثر هذه الانتقالات بين الدوائر إسعادًا، هي تلك التي تأتي من خارج مجال الدائرة الكبرى (الأبعد) لتنتقل تدريجيًا إلى مدار الدائرة الصغرى (الأقرب) .. وأما أكثرها إيلامًا للنفس، فهي تلك التي تخرج من مدار الدائرة الصغرى (الأقرب) بعيدًا إلى خارج مجال الدائرة الكبرى (الأبعد)؛ ككوكبٍ انحرف عن مداره الذي يدور فيه منذ ملايين السنين إلى خارج مجموعته الشمسية بعد أن تناثرت ذراته وتبعثرت إلى الأبد دون رجعةٍ في أنحاء الكون الفسيح، وهو انتقالٌ يستحيل بعده أن يعود الشخص إلى مداره القديم مرةً أخرى.
ويُعدُّ الإنسان محظوظًا إذا عثر على شخصٍ واحدٍ من داخل الدائرة الصغرى، تَطيب الحياة وتُزهِر بالقرب منه ومن مجالسته والبوح إليه بأسراره وأموره الخاصة التي لا يُصرَّح بها للباقين.
لكن مهما بلغت درجة قرب هذا الشخص منك، ومهما عظمت منزلته لديك، ومهما بُحتَ إليه ببعض أسرارك الخاصة .. إلا أنه هناك دومًا أمرٌ ما – أو عدة أمورٍ – لا تجد الشجاعة أو الإرادة اللازمة لتخبره بها ..
سرك الخاص الذي يسكن في ركنٍ مظلمٍ من أركان روحك ويعجز لسانك أن يترجمه إلى كلماتٍ ..
تلك الأمور التي تصطخب داخل رأسك طوال الوقت ولا تستطيع أن تفضفض بها حتى إلى أقرب الأقربين إليك ..
تلك الجبال التي تحملها على كتفيك أينما ذهبت ولا يعرفها أو يشعر بها أحدٌ سواك ..
تلك الأمواج العاتية التي تتلاطم على شاطئ حياتك ولا تستطيع أن تمنعها من أن تجرفك معها دون أدنى مقاومة منك ..
تلك الأفكار التي تتصارع فوق وسادة نومك كل ليلةٍ لتقض مضجعك وتُذهِب النوم عن عينيك ..
يلجأ بعض الأشخاص الذين ينوء بهم الحمل إلى الفضفضة مع أول شخصٍ غريبٍ قد يقابلوه صدفةً في رحلة قطارٍ ،أو في مقهى ببلدٍ غريبٍ لن يعودوا إليه في القريب ،أو زميل المقعد في رحلةٍ طويلةٍ بالطائرة .. المهم أنه يكون شخص مضمون أنهم لن يلتقوا به مجددًا في الحياة.
وقد أشارت إحدى الدراسات التي أجريت حديثًا في جامعة هارفارد الأمريكية إلى أن الأسباب التي تجعل الناس تثق في البوح بموضوعاتهم الحساسة الخاصة إلى الغرباء تعود إلى الشعور بالوحدة واليأس والحاجة إلى من يصغي إليهم دون إصدار أي أحكامٍ مسبقةٍ ضدهم، وكذلك لثقتهم بأن الغرباء لن يفشوا أسرارهم لأحدٍ.
وذُكر في هذه الدراسة كذلك أن الناس يلجأون للفضفضة مع الغرباء نظرًا لعدم قدرتهم على التحدث مع المقربين في مواضيع قد تؤذيهم مثل الخيانة الزوجية وغيرها .. وحيث أن هؤلاء الغرباء لا يعرفون الأشخاص محور الحديث، فإن ذلك يشجع الناس على البوح والفضفضة بكل أريحيةٍ من أجل الحصول على نصيحةٍ موضوعيةٍ منهم .. كما يفضل البعض الاعتراف لشخصٍ غريبٍ عن الأخطاء الشنيعة التي يرتكبونها والتي تشعرهم بالخجل من أنفسهم عوضًا عن إخبارها للمقربين إليهم.
“You’ve got a mail” هو أحد أشهر الأفلام الرومانسية في تاريخ السنيما والذي تم إنتاجه في نهاية القرن الماضي، وتدور أحداثه حول "كاثلين" صاحبة مكتبة صغيرة لبيع الكتب التي تنتهز أوقات فراغها في اللجوء إلى أحد مواقع الإنترنت التي تتيح ميزة المراسلة مع أشخاص لا يعرفون بعضهم البعض دون الإفصاح عن شخصياتهم وأسمائهم وبياناتهم، ومن خلال هذا الموقع تعرفت على أحد الأشخاص وأصبحا يحكيان لبعضهما البعض مشاكلهما وهمومهما الخاصة بعد أن ارتاح كل منهما للآخر وصارت تستشيره وتأخذ بنصائحه إذا ما حدث لها أي مشكلةٍ في حياتها أو عملها .. إلى أن جاء اليوم الذي اتفقا فيه على اللقاء لتكتشف أن ذلك الشخص الذي كانت تحكي له أدق أسرارها هو نفسه "جو فوكس" ألد أعدائها الذي تسبب في إفلاسها وإغلاق مكتبتها بعد أن افتتح متجرًا كبيرًا لبيع الكتب بتخفضياتٍ كبيرةٍ في نفس الشارع الذي تتواجد فيه مكتبتها الصغيرة .. ودون الخوض في مزيدٍ من التفاصيل التي لا تهم قارئ هذا المقال، ينتهي الفيلم بزواجهما كأفضل نهايةٍ لفيلمٍ رومانسي حالمٍ يحترم نفسه .. لكننا جميعًا نعلم أنه في عالم الواقع لن نحصل على نفس النهاية السعيدة بكل أسفٍ.
يبدو أن غالبية البشر يمثلون نسخًا متشابهةً ومتكررةً من نفس الرواية .. فقط يتغير شكل الأبطال ومواقع الأحداث. بالطبع فإن تفاصيل الرواية متباينةٌ ومختلفةٌ من شخصٍ لآخر، لكن يظل قوام الرواية وأساسها واحدًا عند الجميع.
سنظل نحمل داخلنا تلك الجبال ما حيينا .. وسنظل نتجنب الإفصاح عنها إلى أقرب الأقربين إلى أن نلتقي بأول غريبٍ فنبوح بها إليه .. ونظن بعدها أننا قد أزحنا عن كاهلنا هذه الأثقال وفككنا عن قلوبنا تلك الأغلال التي تقيدها .. لكن مع أول اختلاءٍ بالنفس بعدها سنكتشف كم نحن واهمون، وسنوقن حينها أن تلك الأثقال لم ولن تفارق أرواحنا إلا على أعتاب قبورنا.