دخل إلى غرفته الخاصّة،التي يخلو فيها إلى نفسه كلّ ليلة،ثمّ اتّكأ على كرسيّه الطّويل و أخذ حبّته اللّيلية المخدّرة.و في لمحة البصر ولج بخياله إلى عالمه الوهمي،و قد بدأ يحاور نفسه بصوت مرتفع:
- من أنا؟ !!!
- أنا الرّب.
- أنا الربّ!!! فهل أنا الله؟ !!!
- لا...أستغفر الله...أنا ربّ الحزب،أنا ربّ الشّعب،أنا صورة الله على هذه الرّقعة من الأرض.أنا الحاكم بأمري، فالويل و التّشريد و التّعذيب و القتل لكلّ من تحدّثه نفسه بأن يناقش آرائي أو يعصي أوامري... فهل أنا إنسان؟
- لقد كنت إنسانا...أمّا الآن،فأنا لا أشبه أحدا و لا أحد يشبهني.أنا فوق الجميع غير أنّي لست إلاها...أنا الذي اختارتني العناية الإلاهيّة لأتكبّر و أتجبّر على هؤلاء الهمج الرّعاع،بعد ما قاسيت منهم ألم الإزدراء و الإحتقار.وقد كافأني الله مقابل ذلك العذاب،لأكون أنا القاهر بعدأن كنت مقهورا.
ثمّ بدأ ككلّ ليلة يراجع شريط الأحداث التي أوصلته لأن يصبح هو الزّعيم الأوحد المتغطرس .إنّه يشعر بلذّة لا تضاهيها لذّة،عند عودته إلى ماضيه المليئ بالمغامرات السياسية الدّنيئة و المبتذلة.
الحاضر، لم يعد يستهويه أو يروق له، بعد أن أخضع كلّ المعارضين لسياسته، و زجّهم في غياهب السّجون و زنازين التعذيب الموحشة و المرعبة. لقد قضى على رفقاء النّضال جميعهم حتّى لا ينافسوه في الزّعامة.كما تحالف مع الدّول التي كانت تعاديه،و التي غيّرت موقفها منه، بعد أن ضمنت مصالحها الإستراتيجيّة في بلده،و شرّعت له بأن يعيث فيها فسادا.
فتح عينيه،و أخذ جهاز التحكّم عن بعد،ثمّ فتح التلفاز،إنّه مغرم بسلسلة طوم و جيري،أو بالأحرى إنّه معجب أكثر بالكلب، و لا يدري لماذا؟ !!! لا يمكن أن تمرّ ليلة دون أن يشاهد حلقات من مغامرات الفأر و القطّ و الكلب.
إنّه لا يمتلك الشّجاعة الكافية لكي يتفرّج على برامج "والت ديزني" أمام الخدم و الجواري، حفاظا على هيبته المزعومة.كما جهّز هذه الغرفة بكلّ الألعاب التي حرم منها في طفولته،ألعاب فيديو،سيّارات، طائرات و غيرها... كان يستمتع أيضا باللّعب بالدوّامة في هذه الحجرة الخاصّة. لقد كان يقضّي جزء كبيرا من اللّيل في الإستمتاع بألعاب طفولته المهدورة،و هو في حالة نشوة كبيرة بفعل المخدّر الذي كان يتعاطاه كلّ ليلة.
و في ساعة متأخّرة من اللّيل يعود إلى غرفة نومه حيث الجواري و الغلمان في انتظاره،فيستنفذ ما بقي له من طاقة.ثمّ يستسلم إلى حضن كلبته الوفيّة "لوبي" التي تنتظره على فراش النّوم...
تلك هي حياته في اللّيل،بعد أن نصّبته الأقدار ربّا للشّعب و زعيما أوحدا، يسبّح بحمده المنطاعين لبأسه و الخائفين من بطشه من فقراء أو أغنياء.
في الصّباح،يقوم كعادته متأخّرا.و يتناول فطوره على أنغام "فيروز" التي تذكّره بماضيه النّضالي في مقاومة الدّكتاتور السّابق عميل الصّهيونية...إنّه يتوهّم دائما بأنّه قد نجح في الإطاحة ببالدّكتاتور "دون معونة أيّ أحد".
بعد ذلك يقوم الخادم بتشغيل "الجهاز اللّاقط للكاميرات"،الذي ينقل له بثّا حيّا و مباشرا لعمليات التعذيب في مختلف السجون و الزّنازين المنتشرة في كلّ أنحاء البلاد التي يحكمها،فيستمتع أيّما استمتاع...ثمّ يحرج هانئ البال لإلقاء خطابه بمناسبة عيد الوطن في ساحة الثّورة.و يفتتح خطابه كالعادة قائلا:
أيّها الشّعب،أنا الدّكتاتور أنا ربّكم في الدّنيا فأطيعوني و استسلموا لإرادتي.أيّها الشّعب لقد فوّضني الله لأحكمكم فمن أطاعني فقد أطاع الله و من عصاني فله عذاب شديد.أيّها الشّعب أنا الوطن و الوطن هو أنا،فمن خانني فقد خان الوطن...ثمّ يسترسل في تعداد الأعمال التي قام بها من أجل تحرير الوطن و إنجاح الثّورة المجيدة...