اعترافات.. أشياءٌ لا نقولها لأحد
كأنك تقولها لنفسك..
نشر في 08 يوليوز 2018 وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .
ما أكتبه بالضرورة هو أنا، ما يتعلّق بي أنا، بأفكاري، بآرائي، بما يجوب رأسي جيئةُ وإياباً، ما يتسرب في داخلي من تداعيات الحياة التي أنا في خضمّها، لا أستوحي شيئاً لا أشعر به، فأنا أشعر بكلّ ما أكتبه، تتداخل في ذاتي أفكارٌ أعجز في الكثير من المرات التحكم بها، ضبط إيقاعها، تفلت مني كحبات رملٍ تمر من بين أصابعي دون القدرة أو حتى الرغبة في الامساك بها والحفاظ عليها.
أحاربُ الكثير من الهواجس في نفسي، أجابه الخوف. الكثير من الخوف الذي لا يجب أن يراهُ الآخرون، ليس لأنه نقصٌ أو عيب، لكنّه شعورٌ معدٍ، يتسلّى بالعبور عبر الحروفِ والكلماتِ إلى القلوب الجاهزة مسبقاً لاستقباله عن سابق معرفة أو جهل.
أجابه في كلّ صباح الفشل، الفشل في النهوض باكراً، الفشل في الصلاةِ بوقتها، الفشل في العمل، الفشل في قيادة السيارة بارتكاب أخطاء عادية قد يرتكبها كلّ السائقين، الفشل الذي أراه في عيني والدي لأني ربما لم أحض بالوظيفة الآمنة لدى الدولة، الفشل في الحياة الاجتماعية التي لا أجيدها، الفشل في العلاقات الإنسانية التي لا أنجح فيها أبداً، مهما اعتقدت أني طيبة وغير مؤذية، وأقدم غالباً المساعدة التي أستطيعها لمن يطلبها، مهما اعتقدت أن نيتي جيدة وفطرتي سليمة، وأني أبذل ما أستطيع دائماً دون أن أضع اعتبارأنّ الأمور في واقع الحياةِ لا تسير هكذا.
أنا أفقد نفسي كلّ صباح، أفقد شهيتي، أفقد وزني، افقد صوتي حين أحاول أن أقول لأمي صباح الخير، فيخذلني صوتي الضعيف الذي يختنق دائماً وقت الحاجة، ولا يبدو واضحاً إلا وقت الصراخ ليلاً حين تطاردني الأرواح الشريرة في أحلامي ويقظتي، أفقد الرغبة في المحاولة من جديد، أفقد اتزاني أحياناً وتراودني أفكارٌ غريبةٌ، تشعرني بالسوء اتجاه نفسي واتجاه الأشياء من حولي. أفقد مرونتي في التعامل مع الأشخاص، حتّى مع الأطفال الذين أعاملهم بلطفٍ عادةً قد أصرخ في وجههم، حين أفقد بوصلة الشعور.
أجدني أبحث لنفسي عن مبررات لكلّ فشل ذريعٍ أتلقاه بقلبٍ أشبّهه بالصبّارة امتناناً لكنز القناعة الذي أربيه في داخلي بإيمان كبير، وسذاجةٍ عميقة جداً، وبالكثير من الرغبة في ترك كلّ الأشياء في منتصفها، والذهاب إلى أبعد حدٍ من البتر والاجتثاث والتخلّي.
أحمّل قلبي أكثر مما يقوى على حمله، أشبهني بصيّادٍ عجوز كادحٍ، وأشبه قلبي بزورقٍ من ورق، يحاول هذا الصياد بوجهه السموح أن يقنع زورق الورقٍ بأننا نستطيع الإبحار مهما اعتقدنا أن الأمر صعب، يعلّم الصيّاد الزورق كيف ينتصب قائماً في وجه سخط الموج، وأعلّم انا قلبي الثبات، أعزّيه بالجنّة التي يؤمن بها قطعاً، وألقي به بلا رحمةٍ وسط النار، كأنه ابراهيم في عز إيمانه، وكأني أنا والده الجاحد الكفور.
ويظلّ قلبي في كلّ اختبار نمرّ به يمسك بي من يدي التي ترتجف، ويطلب إليّ أن أتنفس بعمقٍ، ويكرّر في سرّي وسرّه وسرّنا معاً بأننا سننجح بتجاوز الأمر معاً، وإن لم أكن في مراتٍ كثيرةٍ أصدقه فيما يقول، فإنه يواصل الضغط على يدي بشدّة، ويكرر بأننا سننجح في النهاية مهما حدث، ويحدث الكثير ونفشل مجدداً، ويظلّ قلبي واثقاً من أننا سنتجاوز كلّ أمر معاً. يا لإيمان قلبي المسكين، ويا لكفري أنا!
نصمدُ معاً وأحاول أن أخفي تعبي، أواريه خلف الأضلع خشية أن يتسرب في موضوع إنشائي اجتماعي، أو منشورٍ على صفحةٍ بيضاء في عالمٍ أزرق يسكنهُ الغرباء والأقرباء الفضوليون جداً أكثر من الأصدقاء، فأبدو في مرآتهم الاجتماعية قبيحةً وأنا لا أبتسم، بهالات سوداء وجسم نحيل، والحالُ أني حتّى في أسوء حالاتي حين يتمكن منّي التعبُ والضعف والغضب والسخط على كلّ الأشياء التي تفقدني اتزاني في هذا الوطن القاسي، أستطيع حتّى في حالات كهذه أن أبتسم لوجهي في المرآة، وأعزي نفسي بكلماتٍ تركيةٍ أحفظها عن ظهر قلبٍ ومحبّة ومواساة.
تخونني لهجتي دائماً، أو ربما أنا أخونها بالتواطؤ مع لهجاتٍ ولغاتٍ أخرى أختبر نفسي فيها، لا أعرف تماماً لكنّي لا أجيد التعبير بها، أبحث فيها عن مصطلحاتٍ تمنحني القوة مثلاً، فأصطدم بجدار سميكٍ من الجهل يحجب عنّي الرؤية والشعور، أذرع أفكاري ذهاباً وإياباً، أتوسلُ لهجتي أن تنصفني، فأجدني أستعين بلهجات بعيدة جداً، تنقذني في التعبيرعن نفسي، فأبتلع معرفتي الجافة، وأربت بكفي على كفيّ الأخرى، وأرمي حمل الكلمات على وجهي الذي كنتُ قبل قليل أجهد في الابتسام له حتّى لا نهوي سوياً ونسقط، فتسقط معنا اللغة وتعابيرها والجوقة التي كانت ترافقنا ونحن بالكاد نحاول الثبات.
أكرر محاولاتي في استجداء لهجتي، أخدشُ الجدار الذي بيننا بأظافري التي أصبحت أقلّمها بأسناني كعادة سيئةٍ يكسبنا إياها الخوف والتوتر، أعاني من انفصام في ترتيب الأشياء على نحو أجمل في داخلي، منذً متى اكتسبتُ هذا القدر من العادات السيئة؟ أسال نفسي فأجيبني بالصمت والسكون.
أعاني الفوضى وهي ليست بالشيء الجديد عليّ، فأنا فوضوية منذ الأزل، أكره الترتيب المنمق، أكره النظام الذي يحدد لنا ما يجب أن نسير عليه، أكره الأعمال المنزلية التي تحاول دائماً أن تجد لنفسها مكاناً في روتيني اليومي، أكره مواعيد الطعام والدواء والعناية بالجسم والصحة والرياضة، أكره المنشورات المنسوخة في مواقع التواصل، والأخبار المكررة في نشرات الأخبار، تصريحات الساسة وأخبار الفنانين واللاعبين، حواجز الشرطة والدرك، الابتسامات الصفراء المتبادلة، والكلمات نفسها التي تتردد في المكالمات الهاتفية وتحيات الصباح ورسائل التهنئة والمعايدات والعزاء، كلّ ما يأتي من وراء القلب أجد نفسي أمقته، وأمقتُ معه كلّ الأشياء الغبية التي يجب أن ترتسم أمامي في جدول مقسم ضمن أيام الأسبوع، كأننا ماكينات معدةٌ مسبقاً لتمارس الحياة على نحوٍ معين وطقسٍ محدد.
كلّ شيء يرتبط بروتين معين يشعرني بالاختناق، أكتشف مع ذلك الشعور أشياء تنبت في داخلي مع الأيام، في واقع الأمر هي كانت دائماً موجودةُ ضمن سياقٍ معين، لكنّي لأسباب أجهلها، أو لأسباب أخفيها أتغاضى عنها، لا أحاول أبداً مقاومة الزمن، لا أتسابق معه بالأساس، ولا أعيره انتباهي حتّى حين أحاول مناكفته متذرعةً بالرغبة في معرفة الساعة، أتجاهله كشيءٍ عبثي، يجب عليه التواجد لكنّي أهمله، بنيّة مسبقة في جعله دون اعتبارٍ في قاموسي الغبي.
اكتشفت في النهاية بأني وحيدةٌ جداً، وسط محاولاتِ البحثِ باستمرار عن قيمة الحياة، وسط الكثير من الأشخاص الذين أدعّي بيني وبين نفسي بأنهم لا يفهمونني، كما لو كنت أنا أفهم الأشخاص من حولي، وحيدةٌ حتى مع أولئك الذين أعتقد أني أحبّهم، وبأني أبقيهم لأسباب ما على مسافةٍ قريبةٍ مني. وحيدةٌ مع معتقداتي التي أشيّدها كلّ يومٍ محاولةً إحاطة نفسي بمزيد من الطاقةِ الإيجابية، متمسكة بنفسي أكثر مفلتة كلّ يد تحاول أن تتسللّ إلى عمق وحدتي، وتكسر هذه الهالة التي أستبقي نفسي فيها.
أدوّن اعترافاتي هنا، كحلّ أخير ربّما، أو كمحاولةٍ لتخليد هذا البوح الذي قد تصادف مع رغبة شديدة في قذف كلّ الأشياء في وجهي دفعةً واحدةً، كمن يبصق الدماء التي تجمعت في فمه جراء ضربة موجعة، أبصقها في وجه ما يمكنه أن يخرجني عن طوري، أنا الهادئة منذ الطفولة بابتسامة نصف مكسورة، كما لو كانت تصرفاً يعطي الانطباع بالأمل والكثير من الثقة التي قد تكون في هذه اللحظات متأرجحة جداً ما بين اليقين والشك.
لم أحتج إلى شجاعة كبيرة لأكتب عن خوفي وقلقي وهواجسي واضطراباتي وسوء تقديري وحسن نواياي، وحتى عن عاداتي السيئة التي لا يجب أن يسمع عنها الأطفال فيكرروها حين يكبرون. احتجت فقط إلى القليل من العتب على نفسي، والقليل من طلب الغفران من قلبي الصامد الذي أنهكته كثيراً في الشهور الأخيرة، واحتجت أيضاً للكثير من الربت على يدي التي كانت تطبق بشيء من الشدّة على لوح المفاتيح، وطبعاً بالشكر والامتنان لكاتب فرنسي أنقذني بكتبه من الانخراط في نوبات بكاء، فرحت ألتهمها بنهمٍ بدل أن أترك نفسي للبكاء.
أقرّ بكلّ اقوالي هنا، وأعي أن الإدلاء بها هو جلبٌ للكثير من الأسئلة والفضول اللذان لا أحبّهما، أعرف أن الغالبية يفضلون الاعتراف ما بين أنفسهم، في مذكراتهم السرية التي لا يقرأها أحد، تجنباً للإحراج أو الشفقة، وربما خوفاً من أن يضحك الآخرون على ما يدور بينهم وبين أنفسهم، وضعت كلّ ذلك جانباً وقررت أن أكتب ربّما تنجح كلمةٌ هنا في منح شخصٍ ما يمر صدفة، تنجح في منحه نظرةُ حانيةً، أو دفعاً باتجاه أمر ما يخاف أن يواجهه، أو ربما يستطيع وهو يقرأ هنا أن يقف أمام ذاته ويقرّ لنفسه بكل مخاوفه، ويقرر أخيراً في لحظة قد تصادف نقطة ضعفٍ هنا، أن يجابه كل الأشياء التي عاش كلّ سنوات حياته وهو يخافُ أن يقولها.
-
Ghanya Ahmed Lounnasفي المرات القليلة التي لا أستطيع الكتابة فيها، أدرك أن الحياة صعبة جداً بالنسبة لأولئك الذين لا يملكون طريقة للتعبير.
التعليقات
تحياتي لكِ ، و لشجاعتكِ ، انتِ قوية بما بكفي للصمود أمام مخاوفك ..
احسنت آنستي ما دمت تجابهين الفشل في الصلاة
كم أنت راقية...احترم هذا الكفاح و أنحني امامك لأهمس لك قائلة : استمري في كفاحك فالنصر حليفك ما دمت تحافظين على مواقيت الصلاة.
تقديري الشديد لك.
احببت مقالك وأجده رائعا وجدد في داخلي الشجاعة في مواجهة مخاوفي
بداية رائعة.
بالتوفيق و في انتظار كتاباتك القادمة .