يختنق حرفك بربطة عنق ضيقة، بدل أن يستعير أجنحة يحلق بها في فضاءات المعاني والأفكار، من دون أن تظفر به سهام المتصيدين في عكر المياه، وسجاني الأحكام والتصنيفات الضيقة.
أمثال هؤلاء يمكثون عن كثب يفتشون في تفاصيل حروفك عن أي زلة تثبت انتماءك أو ولاءك لأي فكر أو تيار أو لأي كان، لديهم تصنيفات كئيبة كالزنازين، عنابر وسراديب ودهاليز حالكة يظنون أن العقول لا يمكن أن تفلت منها ، ولهذا يجوبون مساحات فكرك طولا وعرضا، ويتفرسون كلماتك جيئة وذهابا، ولايفلتونك إلا بعد أن يصموك بحكمهم بالباطل، يسفعون به جلدك حتى الاحتراق، ثم يزجون بك في ظلمة تصنيف ما، ويغلقون عليك الأبواب، ويحكمون غلقها بالمفاتيح وقد أسكرتهم نشوة الانتصار .. !
قال لي أحدهم ذات مرة : أنا مافهمتش الإطار العام نتاعك! قالها بمنتهى الحيرة والحسرة، وقد أسقط في يديه بعد أن أعيته الحيل والسبل في سجن عقل ما في حدود تصنيفاته المجهرية .. وقتها أنا من شعرت بنشوة الانتصار حين أفلت أخيرا من حكم عابر كان سيقيدني بين أسواره إلى أبد الآبدين ..
الأفكار أنوار لا تحتمل الأسوار، والحروف مخلوقات مجنحة تعرف كيف تتوثب بين الحواجز والجدران، والعقول أوعية مختلف ألوانها، ومنها الأكوان الواسعة والعوالم المتفردة، التي لا ترضى أن تُسجن في قالب جاهز ، أو توابيت معدة مسبقا لقتل نورها وإبداعها..
يا زبانية العقول والأفكار ، أيها النجارون المولعون بالتوابيت والقوالب، أيها المهووسون بالخشب، وتفصيل الخشب، ونجارة الخشب ! ماعادت بنا حاجة إلى ربطات العنق المقيتة ولا للبدلات اللغوية المصطنعة الخانقة ، سنطلق حروفنا كالعصافير لتغرد بماتشاء، ونرسل أفكارنا كالفراشات لتشي بعمق اللغة وبلاغتها بما يعتمل في أكواننا وعوالمنا ..
سنصنع من ليونة الحرف المتاهة التي لن تخرجوا منها أبدا ، و سنبدع من رحابة المعنى الفخاخ التي لن تفلتوا منها، وسنشيد بجسارة الكلمات آفاقا لا تطالها مطارقكم ولا مساميركم ولا مناشيركم .. وسنحلق فوق حمى تصنيفاتكم متحررين منها ،وعالين عليها، لا تطالنا مهما حاولتم..
وستعجزون .. نعم ستعجزون حينها عن دس سعة رؤانا في ضيق دهاليزكم .. وحينها فقط سيعلو الفكر الحر وتسقط نجارة الفكر !..
-
فاطمة بولعناناليوم حرف وغدا حتف