: هذه القصة لا تمتُ للواقع بصلة ، ربما تمتُ بعض الشئ ولكن بشكل غير مباشر.

كما أن التفاصيل الطبية المكتوبة لا تستند لأي من المراجع الطبية ولكن الراوي أراد فقط أن يقُصها بتفاصيلها كما رآها في أحد العوالم .

بالنسبة لي هو الحياة..كل الحياة

كنت في الثلاثين من عمري عندما رزقت بمولودي الوحيد .."رزقاً" سميته وكان رزقي من الدنيا بعد الكثير والكثير من الوحدة والتخبط ..تعلقت به كثيرا.

وبالرغم من نظرات الشفقة التي باتت تلاحقني منذ أن بدأ في النمو وبدأت اعاقته الحركية والعقلية في الظهور إلا أن هذا لم يزدني إلا تمسكا به.

بالنسبة لي هو الحياة..كل الحياة

قصدت العديد من الأطباء ،ولكنهم أجمعوا علي أنه لا يوجد تدخل جراحي في حالته .

كانت ليلة شتوية مطيرة ولم أتمكن من الوصول إلى المشفي ليلة ولادة رزق وبالرغم من كوني ممرضة إلا أنني لم أتمكن من الحصول علي المساعدة وقتها إلا من قابلة القرية ، لم يكن ذنبها ولا ذنبي ولا ذنب الزمان أو المكان ..تعرض "رزق" لنقص أكسجين مما أدي إلى ضمور جزئي في الدماغ وتكون كيس من السائل المخي والذي أكد الأطباء بعد ذاك أنه غير جراحي ولا يشكل ضغط علي مراكز الحياة .

رضيت به ورضيت بمجرد وجوده حيّ يتنفس جانبي ،أحب اللحظات اللتي تتحسس أنامله الصغيرة وجهي وشعري ،ونظرة عينيه الحانية تشعرني بالدفء والطمانينة في هذا العالم القاسي .

أقابل كل يوم أنواع وأنواع من البشر . المتباهين بالعبقرية والذكاء؛ بل وبالمكر احيانا ....لكني أجد "رزقا" أكثر عبقرية لأنه يعرف في سنه الصغير حقيقة الدنيا ،عندما يبتسم في وجه المقللين من شأنه تلك البسمة الغير مبالية ..يحسبونه لايفطن السخرية ،لكنه يشعر بها جيدا ويفهم معناها ،لكنه الأعلم من بينهم ..أنا أمه واشعر بما يحويه هذا الجسد الهزيل من عارفٍ غير مبالٍ ..رزق الحنون الصادق المحب ..تحبه الحيوانات ويحبه الناس ..وتحل البركة أينما حلّ.

بالنسبة لي هو الحياة ،كل الحياة ..أريده ولا اريد من الدنيا سواه.

خلال الشهور الماضية أخذت حالة "رزق" في التدهور وذادت معدلات نوبات الصرع اللتي تصيبه وصار من الصعب السيطرة عليها بالرغم من الجمع بين أنواع مختلفة من الأدوية.

أوضحت الآشعة الأخيرة تضخم ملحوظ في حجم الورم الدماغي ،اللذي استمر في النمو حتي أرقد "رزق" في غيبوبة كاملة .

مر شهر ورزق في الرعاية المركزة ،يرقض في غيبوبة كاملة علي أجهزة التنفس الصناعي .

وها أنا أكرر طرق الأبواب ولا أمل ،أقابل يوميا أكبر اساتذة جراحة المخ والأعصاب كي يتدخلوا .

_إنها مخاطرة ونسبة النجاح ضئيلة جدا ،ولكن دعينا من كل ذلك ،هل فكرتي يوما بأن الموت ربما يمثل راحة له وتحريرا لروحه الطاهرة من جسد معاق؟؟ ..العالم قاسي جدا ..اتركيه يرحل بسلام .

*أنا أريده ولا أريد من الدنيا سواه .

_حسنا سنقبل المخاطرة إذن ،سنشكل فريق طبي متكامل من الجراحين وسوف نحاول وضع خطة لاتمام هذه الجراحة الصعبة وسيتم تحديد الموعد عندما نكون مستعدين.

أخذت التجهيزات شهر آخر ،وأخيرا تم تحديد الموعد.

اشتقت لك كثيرا ،لا أستطيع الإنتظار حتي أسمع صوتك من جديد ،أشتاق لعينيك الحانيتين وكأنني لم أر الشمس منذ اغلاقهما .

وكان اليوم الموعود ...حضر باكرا نخبة من أكبر الجراحين من شتي الجامعات ، بدأ المساعدون من الممرضين والعمال في تجهيز الغرفة ،ومن فرط شوقي وعجلي هممت أساعدهم متلهفة .

سمعت الأساتذة يتشاورون قبل البدء :

_"اظهرت العديد من الدراسات مدي كفاءة تحفيز الجهاز العصبي عن طريق النبضات الكهربية للدماغ قبل التدخلةالجراحي في تحسين مدي تعافي المراكز المختلفة ،ربما تحسن من فرصة تعافيه ورجوعه لنفس درجة وعيه قبل الغيبوبة، كما أنها ربما توقف أي نوبات صرع غير مرئية" قال أحدهم ممسكا بكوب قهوته الساخن

"لكنها دراسات أولية ولا توجد توصيات بهذا الاجراء قبل أو بعد الجراحة ،ولكنها لن تضر علي أيّة حال" رد عليه آخر

_"حسنا ..علي بركة الله ،فالتبدأ ميس كوثر في توصيل الالكترودات"

"سأذهب لإحضار بعض المعدات أولا" ردت ميس كوثر

*سأتولي انا التركيب لقد عملت تمريضا للرعاية لمدة ١٠ سنوات* تصارعت الكلمات من فمي.

لم أكن مستعدة لإهدار أي وقت ،كنت أتسابق مع الزمن لأراه مرة ثانية

لذا هممت بتركيب الإلكترودات كما تعلمت اثناء استخدامي لجهاز رسم القلب ،ووزعت الإلكترودات علي صدره كما اعتدت رسمها في أماكنها .

ووقف الفريق يشربون الرشفات الاخيرة من القهوة قبل البدء في هذا العمل المعقد.

_ابدأ يا "عبد الله" الجلسة الأولي من التحفيز الكهربي ، قم باعطاء نبضات متتابعة لمدة ربع ساعة ثم توقف لمدة خمس دقائق قبل البدء في الجلسة الثانية

كان "عبد الله" طبيب جراح مخ وأعصاب في مقتبل العمر لم يمضِ عامه الأول من التدريب ،شابا خلوقا لديه لحية طويلة تلبسه زي من الوقار والورع.

بدأ "عبد الله" بتشغيل الجهاز ولم تمضِ الا دقيقة واحدة حتي بدأ جهاز المونيتور بالصفير .

_ماذا حدث!؟

'"توقفت عضلة القلب cardiac arrest "أجاب عبدلله

بدأ فريق من أطباء العناية فورا في الإنعاش..

وثبوا عليه يحاولون لما يقرب من نصف ساعة ،لكن بلا جدوي !!

سادت لحظات من الصمت بعدها يتخللها الذهول حين قال أحدهم "من اللذي ألصق الإلكترودات بالصدر ،أين ميس كوثر !؟"

ذهبت ميس كوثر لإحضار المعدات ،أنا من ألصقت الإلكترودات هكذا ..!!

شدّ الأستاذ يد "عبد الله" بشدة وقال له موبخا_كيف لم تلحظ هذا الخطأ التقني !!؟

أحمر وجه "عبد الله" من هول الموقف وسكت للحظات ثم قال لي مواسيا "قدر الله وماشاء فعل ، إنما يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب "

هنا تذوقت العسل سمّا، هناك من الكلمات المعسولة من تتسبب بقتلك كما تفعل الرصاصات الحارقة.

أرقدني الذهول وصرت أنظر إليهم في حيرة ، ذنب من هذا ؟ذنب الأستاذ ، ام المتدرب ، أم كوثر أم ذنبي أنا !!!؟.

أري في أعينهم التعزية ذاتها .."رحمه الله ورحمك ،لم يرد له العذاب أكثر ، سيعوضك الله خيرا منه ،لا داعِ للعويل أو اللوم أو الشكاوي او حتي التفكير في الثأر ،فقد كان هالك لا محالة"

لكني اريده ولا أريد من الدنيا سواه، بالنسبة لي..هو الحياة؛ بل كان ..كان حياة .