جُبِلَ الإنسان منذ الأزل على وجود يدٍ خفيّة ترعاه ونعيم يحيط به ويأتيه من كلّ حدبٍ وصوب، سواءً أ كان ماديّاً مباشراً أم كان ينتمي لعالم لا مرئي. وبتقدّمه في السّنّ ومراكمتِهِ للتّجارِب في دنيا النّاس يعتاد على وجود ذات النِّعَمِ فيتبلّد لديه الإحساس بها واستشعار قيمتها، ويعتقد أنّ ما هو فيه من جميل الحال ثمرة لجهده وسعيه الصِّرف. هذا حال أغلب النّاس حتّى في زماننها هذا. إلاّ أن بارئ وراعي هذا الكون البهيّ جعل لدنيانا نواميس وقوانين تنتظم في قالبها أحداثه بتنوّعها، تسلسلها وتضاربها (في اعتقادنا) أحياناً.
ولعلّ من أهم المحطّات التي توقظ الإنسان من غفلته وتوقظ وعيه من سبات الانغماس في الملذّات؛ لحظة افتقاده لنعمة أم أكثر، مع الأخذ بعين الاعتبار قيمة النّعمة أو النّعم المفقودة في حياته الآنية ومدى ارتباطه بها واعتياده على وجودها. تُعَدُّ لحظة الفقد تلك نقطة انحناءِ في مساره الوجودي، إذ تشكِّل فارِقاً بين حاله من قبل وحاله من بعد؛ وتختلف تبعاً لذلك ردود أفعال النّاس باختلاف درجات انتباههم للإشارات وهم في سعيهم يكدحون، كما تختلف باختلاف سلّم وعيهم بالوجود ونواميسه ومحيطهم ومكوّناته.
دعني أهمس في أذنك عزيزي القارئ المحترم ..
قد يتهيّأ لك أنّك محروم من أشياء كثيرة !
وأنا أتّفق معك؛ باعتبار الزّاوية التّي تنظر من خلالها لحياتك، مسارك الدّراسي، الأكاديميّ، المهنيّ أو الاجتماعيّ. ودعني أكون صريحاً معك لأقول أن ما يُهَيَّؤُ لك أنّك تعانيه من حرمان لم تكن لتعطيه هذه الأهمية وحكم القيمة هذا إلاّ لكونك دخلت، من حيث تدري أو لا تدري، في "مقارنة مع الآخر"؛ باعتباره أخاً، قريباً، زميلاً، صديقاً، رياضيّ مشهور، بطل سينمائي أو حتى بطل إعلان إشهاري .. والقائمة تطول.
إلاً أنّك حين تسمح لنفسك أن تتمتّع بمساحة من التأمّل ثمّ التّفكير باعتدال وحيادٍ شبه تامّ، بعيداً عن ضغظ المقارنة وبمعزل عن توارد الأفكار المبعثَرة وبالتّالي تجنُّباً لشعور الضّحيّة والإحساس باللاّمعنى اللّذان يملآن فضاء المشاعر بداخلك؛ آنئذٍ تلوح لك في الأفق حقيقة أنّك ومهما كان وضعك الآن، في هذه اللّحظة، من المُنعَمِ عليهم بالكثير. سأوضّح لك ذلك بتسليط الضّوء على واحدة من أبرز الخدع التّي اخترعها الإنسان وأهلكت أخاه الإنسان من بعده وأشْقَتْه.
تعال أصطحبُكَ في جولة قصيرة مقتضبة عن تاريخ وتطوّر المعاملات الإنسانية الماديّة بشكل مبسَّط ..
قبل اختراع خدعة المال، كان أخونا الإنسان يعيش في رفاهيّة، باستحقاق، باعتبار تعامله مع أبناء جنسه بالمقايضة؛ حين كان يتبادل سلعة مقابل سلعة بتوافقٍ يوثّقه ما تمّ التّعارف بشأنه من نُظُمٍ في المعاملات وكذا أهميّة وقيمة السّلعة موضوع المقايضة. إلاّ أنّ طبيعة تطوّره وسعيه لاكتشاف الجديد؛ بمبادرات فرديّة ثمّ من قبل النّخبة (باعتبارها قوى ضغط اقتصاديّة، سياسيّة أو اجتماعية) بعدها، ستشكّل ضغطاً مباشراً على بقيّة المكوّنات المجتمعيّة فيما بعد؛ أدّت إلى تطوير عُرْفِ المقايضة ليضمّ أشكال تبَادُلٍ تختلف فيها قيمة الأشياء والسّلع المتبادلة باختلاف القيمة التي تتّخذها داخل المنظومة والتّمثّل الاجتماعيّين،باعتبار خصائص المجال الجغرافي والحقبة التّاريخية التي ينتمي إليها المجتمع المعنيّ.
لتظهر بعد ذلك، وفي مرحلة تاريخيّة متقدّمة، العملة الورقية أو الأوراق النقدية (بالإنجليزية banknote) (في عهد سلالة تانغ بالصّين بين القرنين السّابع والعاشر الميلادي؛ ثمّ في أوروبّا وأمريكا ابتداءً من 1660 ميلادية) بسبب المشاكل المتعلقة بتكلفة تخزين ونقل النقود السلعية (التي كان من أهمها مَعْدِنَي الذهب والفضة)، والتي كانت تستخدم لأغراض التبادل السلعي. ومن هنا تم ابتكار العملة الورقية لتكون بمثابة وعد من الجهة المصدرة بتحويلها إلى نقود سلعية متى ما أراد حاملها ذلك. ومن بعد ذلك تطورت الأوراق النقدية بتطور النقد، فأصبحت قيمتها ليست نابعة من القدرة على تحويلها إلى نقود سلعية إنما أصبحت تستمد قيمتها من ضمان الحكومات المصدرة لها، وبهذا أصبحت تدعى " النقود القانونية ". وهي أكبر خدعة عرفتها البشرية في نظري؛ إذ بتبنّيها ستبدأ حياة البشر تدور في حلقة مفرغة لا سبيل للخروج منها إلاً بوجود مساحة من الوعي بها كخدعة، ثمّ سلاسة التّعامل معها كعُرْفٍ جاري به العمل أصبح لا مناص منه بشكل مستقلّ، في الوقت الرّاهن، وعلى امتداد السّنوات الثّلاثين المقبلة كأقلّ تقدير.
التّساؤل التّلقائي الذي يعصف بفكرك الآن عزيزي القارئ مفاده: "ما علاقة المال كقيمة مادية بالامتنان كخُلُقٍ وتقدير اعتباري للوجود الماديّ في حياة كلّ فردٍ منّا" ؟
حُقَّ لك أن تتساءل في منحىً مماثِلٍ، ذلك لاعتيادنا التفرقة بين العالمين "المادي" و"اللاّمادي" أو "الماورائي" أو "الطّاقي" بشكل أدقّ؛ وهو محور تخصّص وبحث علم فيزياء الكمّ (الشّعبة التّي تمّ غلقها بكلية العلوم عين الشّق بالدار البيضاء ببلدي المغرب ثلاث سنوات بعد فتحها لضعف أداء الطلبة فيها وعدم إدراكهم لترابط الماديّ واللاّماديّ في الفيزياء كنظرية علميّة معترف بها علميّاً على المستوى الدّولي، بل وبُنِيَت اعتماداً عليها تشعّبات علمية كثيرة؛ كتطبيقات الأبعاد السبعة في مجال السّمعي البصري، وتكنولوجيا النانو، أو حتّى تفرّد الإنسان بالآلة - Singularity ).. وغيرها الكثير، وهو تخصّص يفيد باختصار أنّ الملاحِظ يؤثِّر على النّتيجة في التجرية (في مجال العلوم) أو تأثير اللاّمادي على المادي (في الحياة إجمالاً).
أعود لعلاقة الامتنان بالمال. بعد غزو الأوراق المالية لحياتنا كبشر بدأت تظهر مفارقات وتمثّلات اجتماعية واقتصادية دخيلة على العرف البشري، ذلك أنّ غالبيّة النّاس أصبحت تلهث وراء ذات الأوراق كمّاً لا كيفاً، تجاوباً مع الغزو التّسويقي المُرافِق للعبة الأوراق تلك، من قِبَل المؤسّسات المالية، بتوفيرها لما أطلَقَتْ عليه هي نفسها مسمّى "الخدمات"، والتي تتمثّل أساساً في القروض المالية أو ما أسمّيه "الاستعباد الحديث"، فيكفي أن تطلب مقابلة المسؤول التّجاري بأي مؤسّسة مالية لترى ريقه يسيل وعيناه تلعبان في رأسه مُتحَيِّناً فرصة بيعِهِ إيّاك منتوج "القرض" بقصفٍ من أسئلة تهمّ قيمة راتبك الشهري إن كنت موظفاً حكوميّاً أو مستخدماً بالقطاع الخاص أو أرباحك الدّورية إن كنت تاجراً أو رقم معاملات شركتك إن كنت صاحب مؤسّسة صناعية أو خدماتية، وهي السيّاسة المحورية التّي تدور في فَلَكِهَا اللّعبة الاقتصادية الحالية منذ ما يربو عن أكثر من خمسة قرون انقضت؛ لتجعل من أغلب البشر فئران هامستر تجري وسط حلقة في مسار لا نهائيّ، بحيث كلّما زادت سرعة الجري قلّت معها حظوظ الخروج والانعتاق من الحلقة.
بمنأى عن الجانب المادّي الصِّرف بالشّكل المُسَوَّقِ له؛ أعود لأقول أنّ للامتنان سحرٌ عجيبٌ عزيزي القارئ، فحين تستيقظ وتفتح عينيك متلمّساً أطرافك وأنت تبتسِم؛ أن أُنعِمَ عليك بيومٍ جديد، ثم تستحمّ فتنعم بجزيئات الماء وهي تلامس جسدك وتطهّره من خلاياه التي أدّت مهمّتها وغادرته، ثم تجلس على طاولة الطعام لتتناول فطورك بتشكيلته الغذائيّة المتنوّعة، ثم بعد انتهائك تفتح خزانة ملابسك لتختار ارتداء ما يتناسب وذوقك هذا الصّباح، فتنطلق بعد ذلك لأداء مختلف أنشطتك اليوميّة؛ عملاً كان أم دراسة، ويدٌ خفيّة ترعاك. عندئذٍ خذ دقيقة زمن من وقتك؛ دقيقة واحدة فقط، تأمل فيها قدر النّعم التّي تحضى بها ثمّ اشكر راعيها وراعيك؛ ثمّ اشكر من على أيديهم تتجلّى رحمته بك؛ فبالشّكر تتبارك النّعم وتتزايد كمّاً وكيفاً.
-
Mohamed Boumedieneرجل حر ..
التعليقات
مقال مميز ,
لكني حقيقة لم يصل إليّ تماما العلاقة بين الإمتنان و قصة إختراع النقود