اثنان وأربعون ساعة قبل الرحيل ،لا زلت أتسربل في نصوصي ،وأعتصر آخر تلافيف عقلي لأترك آخر نصوصي ،أتساءل هل يجب عليَ حقا أن أذر إرثا لهذا العالم ،على اعتبار أني لم أترك إرثا ماديا يذكر ؟ ليس هذا هو السبب حقا لكن ثمة ما لا أدركه يقذفني في جوف النصوص والمشاعر والأحداث التي أروم صوغها قبل الرحيل ..
تشاجرت اليوم مع شقيقتي ،لوعني أنها لم تكترث لقول آسفة ،تشرنقت في سريري كما العادة ،فكرت ألف مرة أن أحادث صديقتي لأقص عليها حزني ،لأخلع في الحديث شرنقة الكآبة تلك ،لكن عقلي دائما ما يطرح وماذا بعد ،ألا يكفي أن تكوني هشة أمام نفسك ،سنخلع الحزن ويرتد بعد حين ،بعد أن تدرك أن الحزن لا يبتلعه غيرك ،أن المصاب مصاب لصاحبه فقط ،محالٌ أن يتلوى صديق المصاب بالألم لمجرد أنه صديقه!
أتلحف بملاءة رقيقة ،أجوس الأفكار وأفتش عن طريقة مهندمة نخبر بها العالم عن أسباب الرحيل ،يعيدني وجع معدتي المتصاعد للب الحدث ،أُدرك أن ثمة تفاصيل لا تُحكى أبدا لا يمكن ذرفها ،لذا نحن نتالم ،ولهذا نموت كمدا ،ولذا يخط البعض خطوات تجاه إفناء الذات ..
في لحظة حالمة أخالني إلى جوار أبي أقص عليه وحدتي ،وارتعادي الدائم من الحياة ،وخشيتي وأنا أقضم الطماطم أن تحيي سُقما غائباً ،وأنا أُسائله ستون عاما يا أبي هل وجدت الحياة مُستحقة ،هل إن تحاملت وجاوزت عشريناتي وثلاثينيتي سأجدني قد ربحت ،وأن التحامل اجدى ؟أجدني بين أحضانه لأقول أجل ربما الإحتضان يستحق الحياة ،ربما تلك اللحظة جديرة بالعيش ..
عاهدتني أن تكون الأوقات الباقية للكتابة ،للحديث للتقيأ الأخير المتواصل رغم تهالكي وتآكلي لكنني أتصبر بأني على وشك الإكتمال ،وهل يكتمل المرء إلا حين يُغمس بعيدا عن الحياة ،فيتذوق عالما آخر وزمنا مغايرا !
الزمن ،الزمن الذي لم يُفلح أحدهم في انتشالي من براثنه ،يمر رتيبا متقاعسا فألتهمه بنوم حينا ،بممارسة أي فعل يقطع الوقت فلا ينقطع ،لكنني في هذه اللحظة تحديدا أُدرك قيمة الزمن زأنا أحاول أن أستبقي كل دقيقة لأكتب وأكتب وأنتشي !
يستبقني عقلي قيد الوعي ،يطرح جملة لو كنت في حقبة مغايرة ربما آثرت البقاء ،يوم كانت السماء أصفى ،ومياه الأنهار انقى ،يوم لم يكن اللهاث هو سمة العصر ،لم أستطع اللحاق باللهاث المستمر للعالم ذاك ،ككلب يلهث رغم ارتوائه ؟هل علي حقا أن ألحق بركب اللهاث ذاك ،نحيا لنلهث ونلهث لنواصل الحياة ؟
على كل ،حدث ما حدث ،أنا هنا موثوقة إلى تلك الحقبة ،موصودة في تلك الحياة ،لكن روحي محلقة منذورة للرقص والكتابة ومن ثم للإرتياح للكف عن التخبط والخوف واللهاث الظامئ !!
-
Heba Hamdyالكتابة صرخة ،نطلقها بعد أن تروض الحياة أحبالنا الصوتية على الصراخ المكتوم ...