جدلية سوردل - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

جدلية سوردل

  نشر في 22 يناير 2024 .

لقد عملَ الغرب، السياسي والفكري والمعرفي والاقتصادي، على جعل الإنسان في العالم الثالث (سأقول العالم الثالث على أني لا أحب استخدام المصطلحات الاستعمارية من قبيل العالم الثالث والشرق الأوسط وغيرها) يشعر بأنه إنسان من الدرجة الثانية، ولو أن هناك هرم يتكون من مقاعد تبدأ من فوق لتحت لتبوأ مقعدا في الأسفل. أن صناعة هذه الدونية والتي يمكن رؤيتها في كل زاوية من زوايا العالم الثالث والموغلة في وعيهم ومشاعرهم وتصرفاتهم، جعلت الغرب ينظر من فوق لأسفل مثلما ينظر الإنسان إلى القرد. اختار العالم الثالث أن يتحول إلى مجموعة قرود، ومن المعروف لمن يعيش في الطبيعة أن يرى أن القرود كائن يقلد الحركات والتصرفات التي تصدر عن الإنسان. أن جدلية سوردل أو ديالكتيك سوردل يشرح، إلى درجة الألم والتعاسة، هذه القردية، يشرح العلاقة بين من هو في الدرجة الأولى وبين من يعشق البقاء في الدرجة الثانية، بين الإنسان الغربي أو الحضارة الغربية وبين إنسان العالم الثالث أو حضاراته. ماذا تقول جدلية سوردل؟ تقول أن الطفل لا يلجأ إلا لأمه في جميع الأحوال سواء كان يشعر بالخوف منها أو من غيرها ويعود ويرتمي إلى أحضانها بعدما تعنفه وتضربه فليس من العودة إلى الأمِ بدا برغم من تعنيفها له وإيذائه فأن الطفل لا يجد سواها ليلجأ إليه، وهنا يصبح مصدر الخوف ومصدر الأمان واحد وهي الأم. هذا ما يحدث في العالم الثالث، فالإنسان هنا يرتمي في أحضان ثقافة الغربية ويعالج نفسه فيها بعد تعرضه للاستعمار والنهب والايذاء والعبودية. لكننا لا نحصل على علاقة والأم والطفل هذه بمحض الصدقة! لا! إننا في البداية في حاجة إلى استحقار وجعل الطرف الذي سوف يصبح طفلا أن يشعر على الدوام بالإهانة وأن ينظر إلى بيئته وثقافته وحضارته وهويته ودينه وفكره وعمارته وطعامه وصحرائه وجباله وطقسه بالدونية والاستحقار ولا نمانع في أن يبصق عليها كلما شعر في حاجة ماسة إلى فعل ذلك. فلا يبقى له هنا شيء فيطير بحماسة إلى حضن الغرب ويصبح واحد منهم، يلبس مثلهم ويأكل معهم ويتحدث لغتهم وينسى (ركزوا في كلمة ينسى) ماضيه ولو كان الماضي شيء ملموس لقذفه به في القمامة، ينسى بأخوته وأبناء جلدته ويعاملهم بخساسة مثلما عاملوه الغرب في البداية. لكن قبل الحاجة إلى الاستحقار، نحن في حاجة إلى ما اسماها مالك بن نبي "قابلية الاستعمار" وأنا اسميها "ظاهرة القردة". الإنسان كائن حي يأخذ صفات من حيوانات أخرى فيأخذ من القرد التقليد الأعمى والنزوع إلى اتباع من هو في اعتقاده أرقى. يحوي القرد حب التقليد منذ أن ألفى نفسه في الطبيعة، ولا يمكنه أن يصل إلى وعي بهذه الظاهرة لأنها جزء من كينونته وطبيعته. 

العالمية أو العولمة ليست كل شيء أي أنها يجب ألا تكون السبب والدافع في جعلنا مبتذلين ثقافيا إلى هذا الحد، يبدو أنه لكي تحصل العولمة على حصتها منّا، هي أن نتجرد من ذواتنا ومن كل ما يجعل لنا قيمة، بمعنى آخر، أن نسلخ رداء ثقافتنا وديننا وحضارتنا (اي الهوية بمعناها الأسمى) مثلما يفسخ الثعبان جلده، لكن الثعبان لا يفسخه إلا من أجل استبداله بجلدٍ آخر لكننا نحن نسلخه ونرتدي أردية أخرى لا تناسبنا على الإطلاق. نحن لم نستورد السيارة والأجهزة والملابس والأحذية والأطعمة فحسب بل أستوردنا ثقافة وحضارة وفن ودين وآداب ولغة. يقول علي شريعتي: "في الوقت الراهن لم يعد العدو كما كان في السابق يضع على رأسه خوذةً ويحمل خنجرًا ويلبس لباسًا أحمر ويأتي ويعتقل هذا وذاك.. ونفهم من فورنا أنه عدو! لا! العدو هذا يخرج اليوم من داخل ثيابنا". لقد أخذنا السوط من أيدي آخرين وجعلنا نضرب أنفسنا بأنفسنا. لقد تحولت العولمة إلى مبرر دارجا في المجتمع، لقد أصبح المرء يؤمن بها ليغير نفسه كأن العولمة سوق كبير يبتاع شخصيات وذوات معروضة للبيع، يتوهم المجتمع لدرجة أن أخذ يصدق العولمة ويسير معها. 

أن الكفاح الحقيقي يتمثل في مجابهة هذه التيارات، هي ليست تيارات بمعناها العام لأن الشخص الذي يظن أنها تيارات سوف تخلق في داخله يقين بصعوبة مقاومتها ولهذا يقرر الابحار معها والتباهي في جوهرها لأن هذا هو الحل الوحيد لكي يعيش في سلام وأمان، كيف نجابه هذه التيارات؟ بالهوية. لا يفترض أن نتعجب عندما نرى أنفسنا منسلخين كل هذا الانسلاخ، لأننا لم نكن مسلحين بالهوية من الأساس، فما الذي حدث مع أول هبة ريح لأشجارٍ لم تزرعها جذورها في باطن الأرض؟ اُقتلعت ولم يعد للبستان وجود. يؤكد شريعتي في كتبه على أهمية النباهة، والنباهة يمكن تقسيمها إلى نوعين: نباهة ذاتية ونباهة اجتماعية. وهو يؤكد على أنهما أرقى من الوعي الفلسفي والمعرفي والعلمي، بمعنى أن المرء النبيه ذاتيا واجتماعيا والذي يشعر بالالتزام تجاه مجتمعه أرقى من الفيلسوف والعالم الغارق في تخصصه وفي بعد واحد. الإنسان الحقيقي ليس من يفكر في ذاته فحسب بل من يؤرق مضجعه مصير مجتمعه، إذ أنه يسمي المجتمع ب"مجتمعي" من شدة شعوره بالمسؤولية تجاه من حوله. ولا يهدأ باله ولا تطرف له عين إلا إذا تسلح من حوله بالوعي والنباهة. شاهدت مقطعا في الانستغرام للشهيد الطبيب الفلسطيني همّام علوة الذي قتله الاحتلال الإسرائيلي في شمال غزة بعدما رفض أن يتركه مرضاه خلفه ويذهب إلى الجنوب وقبيل أن يستشهد سألته مذيعة في إحدى القنوات الأجنبية: لماذا لا تذهب مع أهلك إلى الجنوب؟ فأجابها يقول: "وإذا ذهبت، من سيعالج مرضاي؟ مرضاي ليسوا حيوانات. لديهم الحق في الحصول على الرعاية الصحية المناسبة. هل تعتقدين أنني قضيت أربعة عشرة عاما في الدراسات الطبية والعليا فقط لأفكر في حياتي ولا أبالي بمرضاي؟ أنا اسألك سيدتي، هل تعتقدين أن هذا هو السبب الذي دفعني للدراسة في كلية الطب؟ أن أفكر فقط في حياتي؟ ليست هذه الأسباب التي جعلتني أصبح طبيبا". علينا أن نحمل في داخلنا هذه المسؤولية التي تجعلنا لا نفكر في أنفسنا بل نفكر في الذين حولنا فنحن لا نعيش في أبراج عاجية كلا بمفرده. 




   نشر في 22 يناير 2024 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا