سوف نتحدث اليوم عن الأصل الذي نشأ منه البشرية ودرجوا منه إلى سائر البقاع.

كما نعلم جميعاً فإن آدم هو أبو البشر، والموضع الذي نزل إليه من الجنّة، لا يمكن معرفته إلا بوحي من الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم.

فأما القرآن فلم يرد فيه شيء، وذلك أن القرآن كتاب هداية ورحمة، هو كتاب تشريع ووعظ وتذكير، لذلك لن تجد فيه شيئ خارج هذا الإطار، بل سوف تجد حلال وحرام، وبيان، وأما قصص الأمم الماضية فلن يذكر منها سوى ما فيه عظة وعبرة، دون تفصيل.

ولكن وجدنا بغيتنا في ما روي عن النبي والصحابة من أخبار، لكن الأخبار تتعرض إلى أوهام وربما إلى الكدب أحيانا، فتحتاج إلى نخل وتأكد من صحتها قبل قبولها.

وبعد جمع تلك الأخبار تبين أنها اختلفت في الموضع الذي نزل فيه آدم وحواء عليهما السلام.

فجاء في بعض الرويات أن آدم أنزل في الهند وحواء بجدة، وأنهما التقيا في عرفات فسميت عرفات لذلك!

وبعد دراسة أسانيد هذا الخبر تبين أن أسانيده ما بين ضعيفة أو موضوعة، وهدف واضعه محاولة تعليله لوجود شجر العود في الهند، فاختلق هذه القصة، حيث زعم أن آدم لما نزل من الجنة قبض قبضة من ورق شجرها، فلما هبط بالهند بث الورق فنبتت منه شجر العود، وأما ادعائه أن حواء هبطت بجدة، فلكي يجد تعليلاً لإنتقال آدم من الهند إلى مكة، فاختلق القول بان حواء هبطت في جدة، ليقول أن آدم ذهب يبحث عنها وهي ذهبت تبحث عنه، حتى التقيا وتعارفا بعرفات! ولو كان هذا صحيحا لكان يجب أن يكون اسم عرفات اليوم "ملتقيات" لأنما يعرفان بعض مسبقاً وإنما التقيا بذاك الموضع!

والصواب في ذلك ما صحّ عن ابن عباس رضي الله عنه موقوفاً، أن آدم وحواء أهبطا بمكة.

فقد روى الإمام أحمد بسند صحيح عن ابن عباس، عن النبي ﷺ، قال: أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان - يعني عرفة - فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم قبلًا، وقال: " ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة " إلى قوله: " بما فعل المبطلون ".

فعرفنا من النص أن آدم إنما أهبط بمكة.

وهنا نشأ أول شعب من بني آدم عليه السلام، حتى كان زمن نبي الله نوح عليه السلام، وجرى بينه وبين قومه ما قصه الله تعالى، حتى بعث الله الطوفان فسارت سفينة نبي الله نوح حتى رست على جبل الجودي.

وجبل الجودي شمال الموصل، بينه وبين الموصل قرابة تسعين ميلاً، وهو من بلاد الأكراد.

وهي الأرض التي بارك الله فيها، واختارها لتكون موطناً لنوحٍ والمؤمنون معه، قال تعالى: (وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ)

وقد نصّ على اسم هذا الجبل، وأنه الجودي، لسان اليمن الحسن الهمداني في كتابه صفة جزيرة العرب (عاش إلى سنة 344 للهجرة) 

وهذا يعني أن اسم الجبل، المسمى اليوم بالجودي، ليس اسماً مستحدثاً أو مصطنعاً، بل هو معروف بهذا الاسم منذ القدم.

ولا شك أن العرب لما وصلت فتوحاتهم إلى تلك المناطق، أخبرهم سكان تلك المنطقة بأن اسم ذلك الجبل هو: الجودي. ومن هنا، عرفوا أنه جبل الجودي الذي ذكره الله تعالى في القرآن.

ومما يؤكد أن هذا الجبل المسمى بالجودي، هو الجبل الذي استقرت عنده سفينة نوح، أن علماء الآثار، وجدوا أثراً يعتقدون أنه أثر سفينة نوح عليه السلام، وقد كانت آثار السفينة واضحة في الأرض.

وقد أدعى قصاص اليهود في كتابهم الذي أسموه: التوراة، على اسم الكتاب الذي أنزل على موسى عليه السلام، أن نوحاً عليه السلام بعد الطوفان، انتقل من الموضع الذي استقرت فيه سفينته إلى العراق، حيث كان أوّل من أسّس مدينة بابل، وأن المدينة سمّيت بابل، لأن نوحاً أصبح ذات يوم وقد تبلبلت ألسنة المؤمنين، كل يتكلم بلغة لا يفهمها الأخر، بينما علّى الله نوحاً جميع اللغات، فكان نوح يترجم بينهم!

وهذه القصّة، إنما أراد بها واضعها، أن يعلّل سبب تسمية بابل بهذا الاسم، فاختلق هذه القصة! وأوجد تعليلاً لا يقل سخفاً لتنوع اللهجات واللغات.

والحقيقة أن الأنبياء، لا يختارون إلا ما اختاره الله لهم، وبما أن الله تعالى أرسى السفينة على جبل الجودي - بنص القرآن الكريم - فما كان نوح عليه السلام، ليستبدل تلك الأرض التي اختارها الله له بأرض أخرى.

قال تعالى: (وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلًا مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ) [سورة المؤمنون: 29] فلما دعى نوح بتلك الدعوات التي أمره الله بها، أنزله بسفح جبل الجودي، دلّ هذا على أن ذلك الموضع، هو المنزل المبارك الذي اختاره الله لنوح، فكيف سوف يستبدل نوح تلك الأرض بغيرها؟!

فتبيّن بذلك، أن دعوى أن نوحاً انتقل إلى العراق وأسّس بها مدينة بابل، كذب محضّ، وهو من وضع القصاص.

كما أن اسم بابل - كما يقول الخبراء - هو مختصر لكلمة با بعل وفي بعض اللغات السامية تبدل العين بالهمزة فيقال: با بئل أي: بيت بعل، فاختصر اسم بابئل إلى بابل. والهمزة في اللغات السامية تحذف عادة للاختصار، مثل: جبرائيل = جبريل، و ميكائيل = ميكال ونحو ذلك.

وبهذا نعلم بطلان قول قصاص اليهود.

وقد أقام نوح والمؤمنون معه في سفح ذلك الجبل، وتكاثر بنوهم وتناسلون حتى ضاقت عليهم تلك البلاد، فكان كل فترة يهاجر طائفة منهم ويتوسعوا في الأرض.

فكان ممن هاجر قبيلة الكلدان، اللذين نزلوا العراق، بقرية أور، وهو الشعب الذي نشأت منه الشعوب الإبراهيمية: بنو إسحاق، وبنو إسماعيل.

فأما بنو إسحاق فنزلوا بصحراء النقب، وأما بنو إسماعيل فنزلوا بمكة.

وبهذا يتضح لنا أن سفح جبل الجودي هو الموضع الثاني الذي انتشر منه بنو آدم عليه السلام.