تركيا.. لهذا أحببتها "سر الملجأ الذي أصبح وطنا"
نشر في 19 مارس 2021 وآخر تعديل بتاريخ 09 ديسمبر 2022 .
كنتُ أتسآل كيف لامرئٍ أن يتنكّرَ لوطنٍ عاش فيه عمرًا، شربَ من مياهه، وتغذى مما أنبتَ ترابه، وتتلمذَ في مدارسه وجامعاته، عاش شيئًا من حضارته وتاريخه، وشهد تفاصيل عاداته وتقاليده، واستمتع بجمالِ معالمه وآثاره، وطبيعةِ حدائقه وغاباته وجباله، خطَتْ قدماهُ كثيرًا من مدنه وأحيائه، كيف لا يخضع بحالهِ ومقالهِ اعترافًا بمشاعر الحبِّ والانتماء والوفاء لمثل هذا الوطن.
تلك المشاعر التي لا تعرفُ حيادًا ولا موضوعية، إنها - وبلا وعي - لا تجدُ نفسها إلا منحازةً، تمامًا مثل ما ينحازُ قلبي وقلمي وهما يحطَّان على غصن الاعتراف بالفضلِ والجميلِ لمثل ذاكَ الوطن.
لا أنكرُ أنني عبرتُ حدوده كرهًا، وعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا، فلا أنسى أنه وطنٌ فتح لي حدوده بينما الرصاص من خلفي يتطاير والدماء تتناثر، فأنا لستُ تركية ولا أبي ولا خالي، وليس لي فيها أيُّ حزبٍ سياسي أنتمي إليه، ولم أقدّم يومًا رشوةً ليكون لي فيها إقامة أو جنسية أو جواز سفر، ولا أنكر ضيق صدري بقرارِ هجرتي إليها، وكنتُ لا أفهمُ شيئًا من لغتها، ولا أعرفُ طريقًا في شوارعها، وأنني عشتُ فيها أوَّل ذاك ليالٍ سوداء، بدون هدفٍ ولا استقرار، ولكني لن أنسى تغيّر حالي فيها، وانفتاحي على الحياة وعلى العالم منها، كما لن أنسى طيب أهلها وكرمهم، وتفانيهم في مساعدتنا، وحُسنِ استضافتنا، الذين أكنّ لهم كلَّ الحبِّ والتقدير.
لقد أحببتها بلدًا وشعبًا، حضارةً وتاريخًا، حاضرًا وماضيًا، أحترمها وطنًا وملجأً.. ففي أزقتها تعلمتُ السير تحت المطر، واعتدتُ رائحةَ ترابها الممزوج بعطاءِ السماء الثلجي والمطري، عشقت أحياءً سرت فيا، حفظت دروبها أحجارها زخارفها أشجارها أزهارها، رأيتُ فيها الجمال كما لم أرهُ من قبل، فأصبحتُ أتغنّى بجمال حدائقها وغاباتها، وأخططُ لزيارةِ مدنها، وأحتسي قهوتها مع صديقاتي التركيات، وأفضُل الحلوى والأكلات التي تشتهر بها، وأتبنى كثيرا من عادات وأخلاق أهلها مما توافق مع أخلاقنا وديننا.
فيها اعتدتُ أن أرى النساء تعمل في كل مجال في الحياة، اللواتي تعلمتُ منهنّ الإيمان بالعمل والجدّية فيه، وكيف إنَّ إحداهن ترى العملَ بحقها واجبًا، بقدر علمها واستطاعتها، إذْ تؤمن أنها تشارك الرجلَ في إعمارِ الوطن، وتعلمتُ أنَّ الوطن يُبنى بسواعدِ الرجال، الذين ينامون مع غيابِ الشمس ويستيقظون مع شروقها، فهم يستيقظون باكرًا لأن الوطن ينتظرهم، ويناديهم، وهو لا يكونُ للمتخلفين عن الفجر، وهم يعملون ليلاً ونهارًا، لأن الأمم التي تقدمت لم تتقدم بكثيرِ نومٍ ودعةٍ واستراحةٍ، بل عمل شعبها واجتهد ليلاً ونهارًا في الصناعاتِ والعلوم والأبحاث والتجارة، وكل مجال يمكن أن يساهم في تقدّم الأمة ونهضتها حتى تقدمت.
وذاتَ يوم رأيتُ في وحدةِ شعبها ما يقشعرُّ له البدن، حين ملؤا شوارعَ البلادِ ليدافعوا عنها ضدَّ انقلابٍ غاشم، لم أكن أصدقُ قبل ذلك كيف إن وحدة الشعب وحريته وإيمانه بذلك، يمكن أن تحفظ الوطن وتسدّ ثغوره، وتقويه إلى هذه الدرجة، وبعد أن رأيتهم صدّقت، إنه شعبٌ لديه وعيٌ سياسي وحسٌ قومي عالٍ، يميّزُ به الخبيثَ من الطيب.
لقد أيقنتُ أنَّ وحدةَ الدين والأهداف والتاريخ قوةٌ أكبرُ من تلك التي تصنعها الشعارات والأناشيد القومية المزيفة التي لطالما خُدعنا بها، لأن القوة التي تنبع من وحدة الدين والأهداف والرؤى لا تحتاجُ أن نحكيها ولا يلزمها كثيرٌ من الشعاراتِ لتظهرها، فهي راسخةٌ في أعماقِ كلِّ فردٍ يستشعرُ أهدافَ أمته.
لقد عشتُ فيها ما يكفي ليجعلني أطالبُ بحياةٍ كحياتهم باعتبارها حقًا من حقوقي، ورأيتُ وتعلمتُ ما يكفي ليزيدَ حقدي على من حرَمَني حقوقي هذه أنْ أعيشها في بلدي.
أيْ تركيا! سأعترفُ أنكِ ملجئي المحبب وبلدي الثاني الذي يحبُّه كلَّ وريدٍ فيَّ، لقد تغذيتُ منها وفيها حتى صار لها مني دينٌ في الدماء، ودينُ الماءِ والدماء لا يفيه إلا الحب الخالث والوفاء، إلا أنني لن أصرِّحَ بكلِّ الاعترافاتِ والمشاعرِ التي في قلبي الآن، إنّما سأتركها ليومٍ .. لزمنٍ آخر، علّه يكون اعترافًا من نوعٍ وشكلٍ آخر.
-
حنان حسن🍀ذاكرةُ البشرِ قصيرة والحرفُ يخلِّد الذكرى🌿