النهاية .. التي لم تحسب لها بداية .
نشر في 19 أكتوبر 2018 وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .
نعم .. هي النهاية التي لم تكن تتوقع أن تصل لها يوماً بهذا الشكل !
هي الحقيقة الوحيدة المؤكدة في تلك الحياة , حقيقة النهاية , حقيقة الفناء , ألا تغدو على ما أنت عليه , نهايتك أنت بكل ما فيك , قد كُتبت منذ أن دبت روحك لأرض الحياة , ولكن موعدها سيظل مُبهم أمامك مهما كنت تمتلك من الفصاحة والفكر أقصاه , هي الحقيقة المخفية , الغامضة , التي تبعث في نفسك بعض الإضطراب من حين إلى آخر , تضعك في مأزق مُحير , تجعل قلبك ينتفض من موضعه وتنقسم نبضاته مُعلنة عن حالة عنيفة لن تتركها بحالها إلا بعد أن تُعلن هي الأخرى توقف صداها للأبد ! , فكرك يُحاصره الشلل , يُقيده الضيق الذي يمحي كل ذرة إبداع تُحيط به وتجعله يتشبع بها , السعادة تتضمحل , تبدأ في الهزل والذبول إلى أن تتلاشى , تتبدل ملامحها من ملامح باسمة ذات فرحة جنونية تُقسم على أن تشق الأرض شقاً من البهجة , إلى ملامح لا ملامح لها ! , تتساءل ما هي الحقيقة التي نتحدث عنها ؟ , ويذهب عقلك إلى إجابة واحدة ولكنك تُحاول الهرب منها حتى رغم إدراكك الكلي لها , ولكنها الحقيقة الوحيدة التي لا مفر منها .. حقيقة الموت .
ولكن مهلاً , أتتوقع أن نتحدث عن ذلك ؟ , لا لن نتحدث عن ذلك .. فلا تحاول إقناعي أنك خلال سنواتك التي مرت عليك لم تقرأ أي مقال عن ذلك , لقد اكتفيت , وتشبع عقلك من كلمات تلك الحالة المأساوية التي تبعث فيك السلبية والضيق , وتطرق أبواب كل مقال من أجل إقتناص مشاعر إيجابية ولحظات لا تُنسى , وليس لحظات تُصارع من أجل قذفها من ذاكرتك أيها المسكين .. إذاً فلتطمئن , فالفكرة هنا تختلف عما كنت تعتقد ..
فكرة اليوم تتمحور عن الموت نعم ولكن بشكل مختلف , راودت الجميع , وسلبت من الجميع راحة بالهم , وتمادت في تكسير وتهشيم كل الطاقات المُتفجرة داخل النفس البشرية التي تدفعها نحو الرقي , صدقاً فكرة اليوم تُقاتلني بشكل يومي , بل بشكل لحظي ! , فبرغم ما ترونه من طاقة إيجابية تشع من كاتبتكم , إلا أن الحقائق لا تُفرق بين مُبتسم متفائل لا يعرف طريقاً للخسارة , وبين البؤس كله , هي حقائق ترانا عن بعد وتشتم رائحتنا فتغدو في طريقها إلينا كأننا الفريسة الوحيدة أمامها , وهي بصفتها الصائد الماهر الذي لا يعرف إنسحاب أو خسارة فلن يسمح بفرار فريسته منه , بل يمنحها شرف المُبارزة وإن كانت محسومة النتائج ..
تذكر معي الآن ..
طفل صغير , لم يتعدى سنواته الأولى , مازال في فترة البراءة التي يحسده كل القوم عليها , براءة الفكر والرؤية والتأملات , براءة المظهر والهيئة , براءة تُضئ عالمه وتُذهب عنه وحشته وظُلمته , بلا أي تعقيدات أو مسؤليات , خالياً من مظاهر التكلف , فقط يحيا ببراءة وللبراءة هو العنوان , تجده ينتشر في أرض الله الواسعة فقط ليلهو , ليتقاذف النسمات في خفة وبراعة كأنه يُداعبها ويُغازلها , لا يعرف سوى أن اللهو مهمته الوحيدة التي يتوجب عليه إنجازها يومياً قبل أن يخلد لنومه , وعند خلوده لنومه يجد ضميره على مشارف الراحة فقط لأنه قد أنجز مُهمته على أكمل وجه , ولكنه يستيقظ ليتساءل في براءة من جديد " ماذا سيحدث إن ذهبت إلى الله وتركت أسرتي بمفردها ؟! , ألن يشعروا بالخوف كما أشعر أنا عندما يتركوني وحيداً بالمنزل ؟ " , كالصاعقة تنزل على عقله حينها , وعلى عقلك أنت الأخر الآن , فبقرائتك لهذا السؤال ستجد نفسك قد عدت سنوات وسنوات للخلف , تتذكر ذلك اليوم وتلك اللحظة التي رادوتك فيها عدة أفكار غريبة كانت على وشك أن تُفجر عقلك حيرة , فهذا الطفل الذي لا يرى من حياته سوى المرح , قد وجد فيها الآن سبباً ودافعاً قوياً للعيش , قد وجدت أول الطريق , سؤال ببناء منطق وتشكيل وعي جديد , ولكنه لم يعي أنه بذلك البناء الفكري سيجد هدماً مُقابلاً لإتزانه النفسي ..
يُرادوني ذلك الشعور الذي يتمادى في القضاء على راحة بالي , ويتفنن في تشتييت ما تبقى لي من مشاعر متزنة , شعورك بإقتراب النهاية هو امر وارد , فمن منا لم يشعر مُسبقاً أنه على مشارف النهاية , وأخذ يودع كل لحظات حياته من بدايته البريئة تلك حتى اللحظة التي تسبق تلك العاصفة النفسية المُهلكة , العاصفة النفسية التي تُخبرك أنك على بداية النهاية , وبها تجد أنك حقاً على بداية النهاية ولكنها نهاية لراحتك أنت وليست نهاية لوجودك , تجعلك مجرد جسد بلا نبض , يُحاول التحايل على نفسه ويُخبرها أنه على مايرام وأن كل شئ يسير على النمط الصحيح , ولكنه دون ان يعلم قد سمح لتلك الحالة أن تسلب منه نبضه الفعلي وترك له نبضه المُزيف , النبض الذي يُزيد من هيمنة وسيطرة تلك الحالة عليه , هو نبضها الأصلي ! ..
ولكن ما بالك إن لم تكن تهتم بتلك الحالة من الأساس ؟! , وكان إهتمامك الحقيقي مُنصباً على حالة أخرى مختلفة كلياً , بمشاعر مختلفة تماماً ونتائج مختلفة كل الإختلاف عما اعتدت , حالة اليوم هي حالة الخوف على الأحبة من نهايتك أنت ! ..
أنت لا تشعر بالخوف من إقتراب أجلك , ولا تضطرب من ذلك , بل تجلس في فراشك الدافئ تحتسي كوباً من شرابك المُفضل وتبتسم في وجه الموت إبتسامة سعادة لقرب موعد قدومه , فما عاد هنالك شيئاً لتخسره , ولن يصبح هنالك شيئاً تُحارب من أجل الفوز به , في الحالتين ستخرج من تلك المعركة فائزاً حتى وإن كان فوزاً بأقل الغنائم , ولكنك في تلك الحالة المُنافية لطبيعة البشري تجد أن حالة أخرى قد سيطرة عليك , تلتفت لمن حولك , لأسرتك , لأصدقائك , حتى لملابسك المُهرولة البالية , لتشققات حائطك , لإضاءة غرفتك الباهتة , تنظر لهم نظرة وداع يُشوبه الخوف , ليس خوفاً منهم , بل خوفاً عليهم , في تلك اللحظة التي تستعد فيها لرحلتك الجديدة المختلفة , لا معنى من إلتفاتك هذا نحو أي بشري , فكل ما يهمك في تلك اللحظة هو انت , ولكنك تتغاضى عن كل هذا وفجأة تتغافل عنك وتبدأ في التفكير حيال أمرهم , وتتساءل " كيف سيصبح حالهم من بعدي ؟ , هل سيجدوا من يستمع لهم كما كنت أستمع أنا طوال الوقت ؟ , هل سيجدوا اليد التي تحكم بقبضتهم ولن تتركهم وتفلت أبداً ؟ " , تساؤلاتك تأخذك لرحلة من الإضطراب العنيف , وتود لو أن تؤجل رحلتك تلك قليلاً , فأنت لست مُطمئناً عليهم وأنت على قيد الحياة , فما بالك بعد رحيلك ؟ , كيف ستسير الأمور .. حالة غريبة تجعلك تشعر بصعوبة في التفكير حتى , ويصبح التخيل أمراً قاسياً , فتخيلاتك تأخذك لصور لا تطمح أن ترى أحبابك عليها يوماً , ضياع , يأس , حزن , وأنت حينها لن تقوى على التدخل وإصلاح الأمر , فقط تنظر لهم من الجانب الآخر في شفقة لما وصلوا إليه , والغريب أن ما وصلوا إليه كان السبب الأول والأخير فيه هو أنت , والأغرب أنك ليس لك يد في كل هذا من الأساس .. أنت ضحية وهم ضحية ! .
نعم هي حالة قاسية , وأخذت تنهش في راحة بال الكثيرين " وعلى رأسهم من تكتب إليكم " ! , ولكني توصلت لحل قد يُخفف من حدة تلك الحالة .. وتذكر هو حل للتخفيف وليس للقضاء عليها ..
قبل أن تذهب هذا الذهاب الأبدي , استغل كل لحظاتك الباقية معهم , لا تتركهم لحظة , لا تقل " حسناً غداً سأذهب إليهم " , احذر فقد لا يجئ غداً , وقبل أن يجئ غداً اذهب أنت لهم اليوم , قبل فوات الآوان , اترك لهم كل ذكرى تجعل الوحدة تنفر من السعي إليهم , احرص على إضاءة عتمتهم بعد رحيلك بتلك التفاصيل البسيطة , حتى لا تذهب وأنت خائفاً عما سيواجهوه في رحلتهم أيضاً ..
التعليقات
ولكن ما بالك إن لم تكن تهتم بتلك الحالة من الأساس..دليل على الفطنة و النظام
فما عاد هنالك شيئاً لتخسره ..قمة في الشجاعة و التسليم
احرص على إضاءة عتمتهم بعد رحيلك بتلك التفاصيل البسيطة...امانة الأدب الرفيع
اتمنى أني وفيتك حقك من الاستحقاق أيتها الجريئة نورا محمد.