لا تزالُ تلك الصورة عالقةٌ بذهني ، شاغلةٌ فكري ما حييتُ ، وإنَّه ليتفقُ لي أحياناً أن أجلس أمامها في صمتٍ خاشع ، متأملاً ، متفكِّراً ، محاولاً استخلاص ما فيها من دروسٍ ومفهوماتٍ ، فإنَّ لهذه الصورة أثراً عميقاً في نفسي ، وفيها من المعاني ما يُكتبُ في كتابٍ كبير يتناول معني الحياة ، وحياة كل معنىً .. ألا فاعلم أنَّ هذه الفراشة الحمراء المضطرجة بدمائِها ، وهي ميتةٌ ، تعطي للحياةِ معناها ، وتُحيي كل معنىً!
هذا الحديثُ بعيداً عن شيوعيتِها ، و حتى أنوثتِها ، هذا الحديثُ مقصودٌ لما زخر به قلبُها ، واشتغلَ به خلدُها ، تلك الحمراء الجميلة - التي تُمثل رومانسية الفداء ، وفداء الحرية ، وسبيل الخلاص - ضربتْ لنا مثلاً ونسيَه الناس ، ولكنِّي لم أنسَه ، ماتتْ وبقي لها ذكرٌ ، وإنْ كان في قلبي ، أنا وحدي ، ولو نسيَها الناسُ ، يبقي ذكرها فيَّ ، بتلك الصورة الخالدة ، التي أوحتْ إليَّ إلهاماً ، وأنهتْ بنفسي إبهاماً ، أيقظتْ حقائق بنومِها ، وأحيتْ قلوباً بموتِها ، إنها الشرارةُ ( الحمراء ) في مبتدأ النفقِ المدلهمِّ ينيرُ للسالكين ، ويشيرُ إلي الطريق ، هكذا اشتعلتْ واحترقتْ كالشرارة ، في ومضةِ عينٍ ، مرةً واحدةً ثم انطفئتْ واختفتْ إلي الأبد! ، بلا تجدُّد ، إلا من قلبي ، بتلك الومضة مضى ريعانُها ، وانكسرَ غصنُها ، وكم من غصنٍ كسرتُه الرياح العاتية ، وتنازلتْ عنه الشجرة نفسُها في سبيل بقاء باقي أغصانها؟؟ فكأنَّما قدَّمتْ الغصنَ قرباناً لطول الحياة ، في سبيل البقاء!
وفي معنى الإخلاص ، كانتْ علامةً يُهتدى بها دلالةً ، وما حرَّق نفسي تأسُّفاً بنفسي إلا ذلك المستوى الرفيع الذي بلغته امرأةٌ في إخلاصِها أن بذختْ وجادتْ بما ملكتْ حتي تصدَّقتْ بحياتِها في شبابِها إخلاصاً و خلاصاً غير مُنثلمَيْنِ بأثرةٍ أو حسرةٍ ، فما أعظم صنيعها في ذلك الميزان!
تمرَّدتْ علي المتمردين ، وأنَّي لأنثى أن تتمرَّد ؟! وأن تتحامل عناء قتال ؟! ربما لفتَ قلبي لها معالمُ جمالِها البادية لكلِّ ناظر ، وأنَّها سيطرتْ على جوارحي بما حُبيَتْ من مآثر الأنوثة ، وإلا فهي ليستْ الأنثى الأولى أو الوحيدة التي تدفع نفسها لمظانِّ الهلاك ، لكنَّ قلبي يختار ، وقد ضربَ بها مثلاً ، وجعل منها علَماً ، لعالَمِ النسوةِ ونضالِهنَّ ، وعمَّم ذلك على أنحائي ؛ فشملَ فكري ، و ذكري!
لكن يبدو أنَّ هناك شيئاً آخر دفعني إليها دفعاً ، وأخلد صورتها بذهني ، ألا وهو أنَّها لم تواجه عدوَّها ( الشرطة القومية ) فقط ، بل قد أكونُ مستيقناً إذا ما قلتُ أنها لم تعبأ به يوماً ، وأنه كان أسهلُ أجزاء المعادلة ، وأنها كانت تقدِّرُ ذلك اليومَ - يوم المواجهة - كأيِّ يومٍ مرَّتْ به ، وربما حتي لم تقدِّر ذلك اليومَ ولم يطرأ بفكرِها ساعةً ، لكنَّها واجهتْ شيئاً آخر ، لقد واجهتْ جموع الخانعين الضالين ، شعوب الهوان والاستهوان ، واجهتْهم بأنفسِهم ، وأظهرتْهم علي وجوههم القبيحة بمرآةٍ ، ربما تكون مرآتُها التي اعتادتْ أن تتزيَّا أمامها ، فتضع أحمر الشفاه ومفردات المكياج ، جلبتها معها - في ذلك اليوم ، يومَ المواجهة ، بعد أن نظرتْ فيها لآخر مرة ووضعتْ أحمر الشفاه! - لتكشف للناس وجوه الذلِّ والاستعباد وصمت القبور الذي يعيشون ، حملتْها معها أثناء طريقِها ، في قلبِها ، ورأى الناس وجوههم لحظةَ أن تجندلتْ ، فخرجتْ المرآة من قلبِها ، مرآة الحقيقة ، ورأى الناس وجوههم ، وما أشوهها وجوه!
ومهما أطلتُ إزارَ مقالي ؛ فلن يكفيها ، أو قل لن أستكفي ، فإنَّها تهيمنُ على فكري كلما نظرتُها ، وتشغلُ بالي كلما تذكرتُها ، فما مرَّت عليَّ صورتها مرور المنسيين أبداً ، رُغم أنِّي حملقتُ بها كثيراً ، كثيراً جداً ، لكنِّي لا أنفكُّ عن تكرار التحديق والتأمل ، ولعلِّي أكتبُ عنها مرةً أخري ، ولقد كتبتُ غيرَ مرَّةٍ ، وكثيرٌ مما كتبت كان من وحيِها! ، فإلي فراشةُ قلبي الزاهرة ، طابتْ لكِ عندي ذكرى ، وإنْ اختلفنا!
*لقيت تلك الحمراء عُرسها (أو حتفها) في مواجهات مع الشركة التركية في أحد شوارع استنبول.
-
Taric Ov (طارق عوف)مدون حر، محب للفلسفة والفنون واللغات