في اعتقادى أن أى تقييم «منصف» للدولة الناصرية ، لا يسعه إلا أن يعترف أن «دولة» جمال عبد الناصر كانت صاحبة «مشروع حقيقي»، مشروع «استقلال» و«تنمية» وتقدم على كافة المستويات.
وأن عبد الناصر برغم سلبياته (كما أى إنسان وكما فى كل تجربة) ، كان «زعيماً حقيقياً»، و«صاحب إنجاز حقيقى» على أرض الواقع الصلب وليس إنجازات محلقة فى سماء الأوهام كما من خلفه.
كان عبد الناصر امتداداً طبيعياً لخط نهضة فكرية وثقافية وفنية، بدأت منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر، لم يتنكر لها، بل استثمر فيها وزادها.
وكان من الممكن أن يؤسس عبد الناصر دولة حديثة، وقوية«تستمر» من بعده، لكن ذلك لم يحدُث، ليس بسبب «نكسة 1967» التي كانت إحدى النتائج لا الأسباب، إنما لأسباب أخرى، أهمها في اعتقادى، أن تجربة عبد الناصر ارتبطت«بشخصه السلطوي»،"زعامة" ناصر، "كاريزمة" ناصر، "مشاعر" الجماهير مع ناصر، "أملها" ، و"حلمها" مجسد فى شخص عبد الناصر ، ومن ثم انتهت بنهايته.
فلا دولة تحملها، و لا مؤسسات حقيقية تدافع عنها، و لا أساسات صلبة تحول دون انهيارها ، ولا حتى رجال دولة مخضرمون يدافعون ويزودون عنها ، بل كانوا فى حقيقتهم مجرد «أدوات» سلطة يستخدمها عبد الناصر وقت الحاجة.
ولذلك كان من السهل أن يأتي شخص «هامشي» في تجربة يوليو، مثل "أنور السادات" ، و«يقوض» أركانها، من دون جهد أو عناء، فهي، رغم جديتها وإنجازاتها وقوتها الظاهرية مجرد جبال من الرمال ، لا تحتاج إزالتها أكثر من تغير اتجاه الريح.
ورغم أن جمال عبد الناصر هو من حذر من دولة الفرد الواحد والنظام الواحد ، حينما قال بعد نكسة يونيو فى مراجعاته"
(لقد ثبت بالتجربة أن النظام الواحد نظام خطر جداً على الدولة).
ولكنه برغم ذلك لم يستطع أن يشيد دولة المؤسسات القادرة على الدفاع عن أهدافها وتوجهاتها ومنجزاتها.
وهكذا نجحت الثورة المضادة فى الإرتداد من داخل الدولة بفعل «انعدام المؤسسية» فى الدولة الناصرية.
ولا زال صوت عبد الناصر يدوى فى الأفاق بقوله:
"لقد رفعت صوتى أكثر من مرة محذراً من الاعتماد على الفرد ، لأن الأفراد زائلون والأمة هى الباقية".