طيفُ عمــر ~ - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

طيفُ عمــر ~

  نشر في 11 غشت 2018  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

حدثوهُ أن أحلامه

لم تكن سوى وهم اخترعه وصدقهُ

غرسوا بناظريه الظلام ،حتى خُيّل إليه انه داخل نفق يمتد بلا نهاية

رسموا لهُ كل منحنيات دربه ، هنا ..تعثرتَ ..،هنا اُستُدرجتَ..هنا ..هنا ..

والقوا عليه أسماء كل الحفر التي سقط فيها

وختموا حديثهم ناصحين : إن الله قدّر عليك هذا الفشل،وعليك بالرضا والتسليم فالسخط لن يغير القدر ‼

ثم بكوا بكاء إخوة يوسف

أما هو ..فبالكاد سمعهم ..شارد الذهن كان ،إلا أن أذناه التقطتا كلمة : قدر ‼

تلك الكلمة التي ستؤرقه لاحقا محاولا أن يفهمها ‼

اضطجع على فراشه وهو على يقين أن الأرق سيرافقه طيلة رحلة بحثه عن الحقيقة .

أطلق العنان لعقله وراح يفكر : أيعقل أن يقدر الله الفشل على عبد سعى ؟ ثم إذا كان الله قد قدّر شيء ففيما العمل على أمر قد فُرغَ منه ؟ أليس الإنسان مخيّر فيما يفعل وأن أعماله في المستقبل هي القدر ولكن بعلم الله السابق ؟وهذه الأقدار ألا تتغير بأفعال المخلوق " لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر " يعني التقدم أو التأخر رهن لمشيئة العبد ؟

إذا لما يبرر الناس فشلهم وانتكاساتهم بالقدر ؟

لأيام ظل عقله الشقي يلح عليه بالأسئلة التي لم يجد لها إجابة عملية تقنعه ،و يغيض بهـا كل من احتقر حلمه وزرع شوكا في دربه .

بين أن يمضي في الطريق الذي اختاره وهو لا يدرك نهايتهُ أو يعود أدراجه لينظم إلى باقي القطيع ، كان ذلك رهن الإجابة التي سيحصل عليها ‼

أدرك عمر أن الله وحده قادر على أن يُنير بصيرته وان يخرجهُ من حيرته .هنالك دعا ربهُ: يا الله أرنـــــي نُوركَ أهتَدِي به ،

يا الله ..تائه أنا في مفترق الطرق ولا إشارات هنالك ترشدني،يا الله إشارة واحدة منك تعينني على شق الطريق الصحيح.

ليلتها نام على سجادته التي بللتها دموعه ‼

أيقظته رنّةُ هاتفه ،بعين مغلقة وأخرى مفتوحة تفقده كانت رسالة نصية من صديقه ياسر ،يهنئهُ بعيد ميلاده الخامس والعشرين ويخبره أنّه قبل سفره كان قد ترك له هدية في أحد المكتبات ليستلمها في عيد ميلاده.

انفرجت أساريره بتلك الرسالة ، ما أجمل أن تشعر أن هناك من يتعهدُكَ ويرعاك ولو من بعيد ،من يتذكرك حين تُنسى ‼

على عجل أزاح الغلاف وهو موقنٌ أن الهدية كتاب ،لذا كان متلهفًا لمعرفة عنوانه و قراءة الإهداء. لسنوات اعتاد هو و ياسر على تبادل الكتب في كل مناسبة. مدهوشًا صاح :عبقريّة عمر ،لعبّاس العقّاد ،لطالما حدثه ياسر عنهُ و ألحّ عليه قراءته ،كان يقول له ُ كيف للمحامي عمر ألا يقرأ عن عدل عمر‼

في الصفحة الأولى خط ياسر كلماته التي ستكون لاحقا بلسمًا لجراح صديقه ، كتب :

إياك أن تقرأ الكتاب كما تقرأ روايات دوستويفسكي وتشيخوف ،فهذا الكتاب ليس للتسلية

اقرأ الكتاب لتتعرف على من سميتَ تيمنا بهِ

ما معنى أن تحمل اسمهُ ولا يكوُن لك نصيب منهُ ‼

اقرأ عن عمر لا لتبكي رحيله ُبل لتسترده في حياتك ،ليصبح حاضرك ،ليرافقك طيفهُ أينما حللت

على أمل أن تجد ضالتك هنا...

.....................

بنهم راح عمر يقراه ويقلب صفحاته ،ولم يكن يعلم أن عمر ابن الخطاب بنفسه في انتظاره ليجيب عن اسئلته اجابة عملية كما كان يرجوا‼

استوقفهُ موقف عمر ابن الخطّاب حين امتنع عن دخول الشّام وقد نزل بها الوباء وقد استنكر عليه فعلهُ أمينُ الأمة أبو عبيدة الجراح وقال لهُ : أفِرَاراً مِنْ قَدَرِ اللَّهِ؟ فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ! نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ, أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ إِبِلٌ هَبَطَتْ وَادِياً لَهُ عُدْوَتَانِ إِحْدَاهُمَا خَصِبَةٌ وَ الأخْرَى جَدْبَةٌ , أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الْخَصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ، و إِنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ!؟

كرر عمر قراءة هذا الجزء قرابة عشر مرات وهو ينتحب ‼

كان قد سأل الله إشارة واحدة تخرجه من حيرته وهاهي إشارات الله تتجلى لهُ :كلمات صديقه ياسر ، موقف ابن الخطاب ولا حقا ذلك الاتصال ...

لحظتها استوعب عمر جيدا آلة الفهم الصحيح للقدر الذي جسده ابن الخطاب ،إن على الإنسان ألا يستسلم للقدر و يحتج به ليبرر فشلهُ بل يدفعه وينازعهُ بقدر آخر ،كأن يدفع قدر جهله بالسعي لطلب العلم وقدر فشله بالسعي نحو النجاح ،هكذا يفر المرء من قدر الله إلى قدر الله يعني من أراد أن يغير قدره فعليه أولا أن يغير نفسهُ ، فالله يقول : "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ".

" خلق الله الإنسان حرًا وميزهُ عن سائر المخلوقات بالعقل ليتدبر به ويُمعنَ في الأمور وجعلهُ مخيرًا فإما أن يرعى إبلهُ في مكان خصب او يرعاها في مكان جدب كما قال ابن الخطاب" .قال عمر هذه الجملة وهو يبتسم .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تلقى عمر اتصال من أستاذه في كلية الحقوق ليبشرهُ بأنهُ نجح في الامتحان و قد تم قبوله في مدرسة تكوين القضاة بالعاصمة .

كان قد جهز لهذا الاختبار طويلا ،درس بجد لساعات متأخرة أراد أن ينجح ليغيظ كل من قدرّ عليه الفشل، كل من استحال نجاحهُ ،إلا أن هذه الأمنية تلاشت بعدما قرأ سيرة ابن الخطاب ، شعر أنه تغير و أنهُ صار ممتلئا بهاجس العدالة العُمرية وأنه يريد القضاء لينشر العدل ويستردهُ من كتب التاريخ ومن سيرة ابن الخطاب ليصبح حاضرا لا ماضيا نبكي أفُوله.

ما الفائدة أن نقرأ عن الصحابة إذا لم نقتدي بهم ؟ ونسترد معاني سيرتهم لتكون حاضرنا ؟تساءل عمر وهو يستذكر عناوين الكتب التي قراها وتسلى بها وقت فراغه وأدرك أنه كان لزاما عليه أن يقرا عنهم أولا ،شعر انه قد تأخر كثيرا في معرفة ذلك ،لكن لا بأس . عزم أن يقرا كل كتاب تطالُه يده عن الصحابة وقبل ذلك عن من زرع فيهم كل تلك الخصال ورباهم عليها عن المعلم محمد صلى الله عليه وسلم 

ـــــــــــــــــــ

دخل عمر مدرسة القضاة وأول ما لفت انتباهه ذلك التمثال النحاسي الضخم الذي يتوسط ساحة المدرسة ،وقد كان لشيخ يحمل ميزانًا بيده اليسرى ورافعا سبابته اليمنى نحو السماء وقد نقشت على القاعدة الرخامية التي يستقر عليها التمثال آية :

    " وزينوا بالقسطاس المستقيم "

دَنَا عمر من التمثال وراح يتأمله خيّل إليه أنّهُ يقول لهُ: الاحتكام لشرع الله وحدهُ هو السبيل لتحقيق العدالة يا عمر‼

أدرك أن الدرب لن يكون سهلا أبدا ،وان الله قد أوكل إليه مسؤولية عظيمة وراح يتساءل : أهو اصطفاء أم إبتلاء يا الله ؟

شعر عمر انه رغم تقصيره إلا أن الله أغدق عليه وأعطاه أكثر مما سأل .. .ثم أجهش بالبكاء .

وفي الأفق هناك تراءى له طيف عمر ابن الخطاب وهو حاملٌ درّته... فامتزجت دموعه مع بريق ابتسامته .



  • 3

   نشر في 11 غشت 2018  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

التعليقات

أسلوبك رائع ومميز لايصال فكرة ورسالة للقارئ .
1
فجر دباش
شكرا لك
عمرو يسري منذ 6 سنة
خاطرة رائعة وقيّمة. ناقشت أموراً عديدة مثل ألا يستمع الإنسان لكلام من يحبطه. وأن عليه أن يسعى طوال عمره ولا يستسلم. وأن الله يرسل للإنسان الآيات التي تدله على الطريق لذلك فعليه أن ينتبه لهذه الآيات جيداً ولا يهملها.
بداية أكثر من رائعة. في انتظار كتاباتك القادمة.
1
فجر دباش
أتصدق
دخلت الموقع لأحذفها حتى وجدت تعليقك
شكرا لمرورك
عمرو يسري
جيد أنكِ لم تحذفيه. فمقالك رائع. وبالتأكيد كتاباتك القادمة ستكون رائعة هي الأخرى.

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا