تذكرة غربتي - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

تذكرة غربتي

في مداعبة السحاب (3) .

  نشر في 03 أكتوبر 2016  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

كادت عقارب الساعة تشير الى الرابعة فجرا ، حينما ارتطمت رأس فتاة جامعية بسطح النافذة الزجاجي الذي يجاورها ، بعدما تراقصت الحافلة التى تقلها الى العاصمة على اثر اعتراض احد مطبات  الطريق السريع و ما أكثرهم بطول ذلك الطريق  .

تلتقط الشابة مفكرتها من حقيبتها اليدوية ، لتدون احدى لحظاتها الفارقة - كما اعتادت دوما - فقلما اعتادت ان تغادر قريتها ، قلما اعتادت أن تسلك طريق السفر هذا ، و لم يسبق لها ان استيقظت لتسافر بعيدا عن أهلها .. منزلها ... بعيدا جدا عن كل من قد تعرفهم لوقتٍ قد يطول لعدة أشهر ، وفق إشعار رسمي يُسمى "الدراسة"  و آخر نفسي يُدعى تجملا ب"الغربة" و ان صدقنا لتسمت بالمُعاناة أو غيرها من تسميات تصدق فى وصف عذاب الوحدة و البُعاد بعيدا عن كل من اعتادت العين رؤيتهم أو اعتدنا أن نسمح لأسماءنا تُلفظ من أفواههم . 

حقا ، يا لقسوة كل أمرٍ جديد !

تمسك الفتاة بقلمها ازرق اللون الجاف .. ترتعش عُقلاتها بينما تظل قابضةً عليه بها .. لتدفعة كازمير نحتٍ مُجسدا خواطرها ...

"تندفع حافلتى مُبتعدةً عن منزلي .. و يبقى قلبي يرتجف على وقع كل كيلو نجتازه بالابتعاد .. لا أدري ، هل أستوقفها لأترجل منها عائدةً لبيتي  لكل شئٍ اعتدت عليه ، تعايشت معه ، و حظيت به ؟؟ ضللت فى اعماق مخاوفي و كلما تعمقت فيها زاد احتضان جفوني بعيناي . حتى تعثرت حافلتى باحد المطبات . فاستيقظت مما استغرقت فيه .

و يا لحظي ، كم كنت غبية لأفوت ذاك المشهد .. كانت الشمس تخرج من مضجعها ، تحلق برفقٍ لاعلى ، تتمدد فى الأرجاء بنورها ، حتى صارت بكامل هيئتها قُرصٌ مطلي بذهبٍ ، يحترق وهجا ، معلنا عن بداية اليوم ، عن سريان الحياة فى الأرض كدماء تسري فى عروق جسدٍ نشيط . الآن ، أدركت لما عُبدت عند الأقدمين ، و ظنوا بأنها خالقة هذا الكون !

و كسيدة تطل من شرفتها ، مُلوحةً بيدها توديعا لي ، ظلت تداعبني بأشعتها الجريئة على وجهي ، ظللت أهرب منها استحياءً من جرأتها فى كل ما بدا لى ظل أو شابه ذلك ، لكنها أبت أن تتركني وحيدةً فى رحلتي تلك .

لعلها تأبي أن أغلق عيناي على ما بي من شتات انكسار و لعلها دون قصدٍ تعدني بمرافقة ما ينتظرني من أيامٍ ليس لي بها من رفيقٍ .. صديق أو حتى حضنٌ يحوي جسدا لعله لا ينجو من جلدات سوط الغربة و البعاد . "

تغلق الفتاة أعينها بعدما تساقطت بضع قطراتٍ من دمعها على مُفكرتها . تنفتح احداها قليلا ، فتلمح علامات الطريق تمر مُسرعةً بلا ملامح ، تشد بجفونها مجددا على أعينها ، فيما تتشبث بحقيبتها ... تُعيد المحاولة ، فيما تبدوا الشمس مواسيةً لها فتتركها لظلالٍ تأويها بظلامها ، بخواء سوداها ، فتأنس عيناها بقلة ما بدا لها من نورٍ .

يُصيح السائق ، مُعلنا وصولهم لحدود العاصمة المأهولة من مباني خرسانية و أشباه بشرٍ تتراص على الطرقات لكفاح لا إرادي لنيلِ قسط من الصراع على لقمة العيش ، يكفيهم سببا لكسبهم يوما إضافي فى تيههم الحياتي .

تتكالب مناظر الحياة المدنية على رؤية الفتاة ، فيما تتوالي أعمدة إنارة جانبي الطريق كوجوهٍ تستقبل ضيفها المنتظر ، حيث لوحاتها الاعلانية المُبهجة و بقايا شعارات الانتخابات النيابية .

تستلقي الفتاة مستسلمةً لقدرها ، فيما تحاول أن تألف تلك المدينة كمن ألفها قبلا من فاتحين .. غازيين .. و مستعمرين ممن جائوها للقمة عيشهم و استسلموا لاغوائها ، فانتهى بهم الحال ، مُستتقرين بها .

تصل الحافلة محطتها ، يتوالى الركاب بالهبوط من عليها ،كُلٌ لوجهتهِ . فيما تطئ الفتاة بأرجلها الريفية ظهر الشارع ، مُعلنةً عن بداية نزالها فى تلك الحواري .

تُغلق عيناها فتفتحها مجددا ، مستنشقةً أنفاس من عليلها المخلوط بنفيح عرق تلك الوجوه الهائمة فى دروبها .. تُلقى بنظرها فيتملكها شغفٌ ، بعمر قرون من الزمن .. شغفٌ تملك مؤسس تلك المدينة منذ قرونٍ تلت ، حينما اجتاز البحار و الصحاري ليعمر تلك الرقعة كباعثٍ للحياة فيها ، ليتركها لتلك الفتاة و من شابهها ، ليحيوها مرة تلو الاخرى بغربتهم و شوقهم ، بأحلامهم و طموحهم ، بأوهامهم و جموحهم ، بما تركت الحياة من اثار صفعٍ على وجوههم .


  • 1

   نشر في 03 أكتوبر 2016  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

التعليقات

سرد ممتع. شكرا أستاذ.
0

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا