خلعتِ الطبيعةُ أثوابَ النور وهمَّ الناس إلى مضاجعهم بعد أن عانقتِ السكينةُ المكان ، إلا غرفةً منزويةً في ركنِ منزلٍ دافئٍ، وما يدفئ المنزل والغرفةَ روحٌ غضة دارت الأرض حول شمسها إحدى عشر دورةً ، والروح مرحة ،وشمسُها لا تغيب ، سمّوها "ليلى" ، واللّيلى في الغرفةِ ساهرة ،تداعب دمىً محشوةً بالقطن ،صنعتها والدتها بأصابعِ الحب ،تقصُّ خصلةً من شعرها اللّيلكي ،لتهبها للدمية ، أرادت أن تتوحدا معا بأن تهبها قطعةً منها ، تدندن بصوت خفيض بنبرتها الملائكية " في البحر سمكة.. سمكة.. بتزق سمكة"، للرائي من بعيد تبدو الطفلة والدمية والأغنية كلوحةٍ من الجنانِ هبطت من سماء الخالق ، لولا ذلك اللّهاث المسمومُ الذي شقَّ عُبابَ السكينة ، بقعةٌ متسخةٌ أفسدت اللوحةَ حين أطلّ من النافذةِ بعينيه الصفراوتين ،وشعرِه الرّمادي ، يبتسم ليكشفَ عن أنيابه الحادّة،ونواياه تتجلّى من ثغره وعينيه ووجهه ومنه كله سهاماً مسنونةً تنتظرُ ارتخاءَ القوسِ حتى تنطلق ،والفريسةُ بمفردها وهو ذئب الحيّ ،وليست كل الذئابِ تُرى ذئاباً ،بعضها يشاطركَ الدماء وبعضها يمنحُ الأطفالَ الحلوى وتتهلّل وجوهُهم فرحاً لرؤيته ،كوجه صغيرتنا التي ما إن رأته حتى أَسْرعت تحلّق بذراعيها حولَ عنقهِ، عناقُ الملاكِ والشيطان ، يُحاوِل البياضُ أن يمنحَ السوادَ شيئاً من طهرهِ لكن هَيْهات، فالبياضُ بياضٌ والسّوادُ سواد ،بل إنّ ضحكاتِ الصغيرة لوقودٌ يزيدُ نيرانَ الخبثِ تأججاً، بيديه يحملُها إلى السّرير ، يطأ الدمية بقدميه غير عابئٍ،تنتبهُ الطفلة لكنها لا تعبأ أيضاً فلا زالت تطفو في أعماق الأمانِ الموهوم،يجلسها على حِجره ويُداعِب وجنتيها الناعمتين ،يمسحُ على شعرِها مراراً، ترتبك قليلاً، يزيد المسح على كلّ جسدها فتتوجسُ خيفةً ،يحاول عقلها الصغير التشويشَ على الخوفِ والارتباكِ بسؤالٍ عن نصيبِها من الحلوى الموعودة ، فيَكشِف الذئب عن أنيابه مجددا ليطلبَ منها أن تغمضَ عينيها ، تنسى الخوفَ وتبتهج أساريرها فتمتثلُ للأمرِ في عجالةٍ ، على غفلةٍ ينسل بمخالبه أسفلَ ردائها القُرمزي، ينتفضُ جسدُ الصغيرةِ كمن صُعق بكهْرباء ، وكم تمنّت لو أنها كانت محضُ صعقةٍ كهربائية ، فهذه تخلّف ندبةً في الجسد، وليست ندباتُ الجسدِ كندبات الروح ،إنها أعمقُ وأوغَر، ولا تُستَطبّ بسهولة، لقد نزعَ الذئبُ قناعَه البشريّ وأصبحت الآن تراهُ بوضوح ،انقضّ على فريستِهِ ينهَش لحمَها الغضّ ، وكانت مع كل مضغةٍ تنزفُ روحَها بصمت ، تيبّس جسدها ، إنها عاجزةٌ عن الحراك ، حواسّها مُتجمدة ، عبثاً تحاول صرخةٌ واهية أن تجدَ طريقَها عبرَ أصابعهِ المطبقةِ على ثغرِها ولكن دونَ جدوى ، وحدَه النسّيم كان ينصتُ لأنينها ، يعصفُ غضباً فلا يقوى إلا على تحريك زجاجِ النافذة ، مَن لهذه الصغيرة في سكون الليل ؟ من ينتَشلها من براثن الوحش؟ ، أشفقَتِ المُقَل على حالها فانسكبت أنهار من الدموع تغسلُ بطهارتها لعابَ الوحشِ المدنّس، آلافُ التساؤلاتِ تعصفُ في ذهن الصغيرة ،ماذا تراه يصنع ؟ هي لا تعي ما يحدث ريبَ أن الفطرة دالّة ، تعلمُ أن هذا خطأ ، بل توقن أنه خطأٌ شنيع ولكن لمَ؟ تفتش عن ذنبٍ اقترفته ،ألأنها طلبت الحلْوى؟ ألأنها لم تنهِ طبقَها اليوم ؟ أم لأنها نسيتِ الواجب؟ ، ألهذا يعاقبها؟ ولكنها قطعت عهداً لمُدرِّسَتها أن لا تعاود الكرّة، ومن بين كل العقابات لم اختيرَ هذا بالذات؟، الذئب مُسْتمر في التهامِ وجبته ، وهيَ مستمرةٌ في محاولات تحريرِ صرختها ، تود أن تستجديَه ليتوقّف ، تعده أن لا تطلبَ الحلْوى مجدداً ، عبثاً، أيصدُّ ثغاءُ الأغنامِ أنيابَ الذئاب؟، تناجي الله ، فليأت الصياد وليخلِّصها كما الحكاية ، تَسْترقُ النظرَ إلى مرآةٍ بجانب السّرير، تلمحُ بقايا " ليلى" الأَمس ، اللعبُ والضحكُ والأحلام ، مرتعُ طفولتها ،تتأملُها بشعرها اللّيلكي المنسدل على ظهرِها، تعانقُها بِعينيها ، تراها تَخطُو بعيداً تلْقي عليها نظرةً أخيرةً وتودعها للأبد .
استيقظَ الليلُ من مرقده وانسلّت خيوطُ النورِ تداعبُ الكَرى في عيونِ الأنام ، واستيقظَ أهلُ البيتِ ، ولم تستيقظْ ليلى وهيَ ليستْ نائمةً ولا ميتةً أيضاً ،تعلّقَت روحُها بينَ الحياةِ الأولى والآخرة ، هناك حيثُ تجتمعُ الأرواح المُعَذبة.
الليلُ يطوي الليلَ والذئبُ يتردّد على الغرفة ،الروحُ غابَت شمسُها وتعفّنَت ، والكلّ يتساءلُ ما بالُ العيونِ قد ذبِلَت والجسدُ قد صدِئ ،يبحثون عن ضحكاتٍ وأغنياتٍ عذبةٍ كانَت هنا ، الجسدُ يروحُ ويجيءُ ثَقيلاً ، والرُوح متحجرةٌ على السّرير ،ثلاثونَ خريفاً أحصَت تساقطَ أوراقِه ورقةً ورقة وكلّما مرّت بالسّرير تراها هناك ، الروحُ المتحجرة ، وأنقاضُ الطفولةِ بالمرآة ،
ولازالت لليومِ تتساءلُ
لمَ عساك لم تأتِ أيُّها الصّياد؟